التفاؤل في القصيدة العربيةالتفاؤل من الخصال الحميدة التي يتصف بها الإنسان ، فتدفعه إلى النضال من اجل تحسين ظروف الحياة ، والتخفيف من قسوة مشاكلها ، والتصدي للعراقيل المختلفة والأشواك الجارحة ،بقلب منفتح يرحب بالصعاب مدركا أنها طريق للوصول الى السعادة ، وتحقيق الأحلام ، وان تحقيق الآمال ليس سهلا دائما ، إنما تعترضه صعوبات جسام ، والمتفائل بالإضافة الى نجاحه في ميدان العمل ، وتحقيقه ما تتمناه نفسه من أماني ، فهو أيضا يتمتع بصحة جسدية جيدة ونفسية تمكنه من رؤية كل شيء رؤية سليمة .. ويقبل على الحياة بشوق ويسعد بالأصدقاء ، ويقف معهم في الملمات ، ويتمتع برؤية الجمال..
ولقد حفل أدبنا العربي بقصائد جميلة كتبها متفائلون ـ استطاعوا أن يجعلوا البسمة عنوانا لهم في الحياة ، رغم ضخامة المشاكل التي اعترضت طريقهم ، فالتشاؤم لا يحل مشكلة ولا يجد حلا لأحدى العراقيل ، إنما النظرة التشاؤمية يمكن أن تفاقم الشعور بالخيبة و انعدام الأمل، واستحالة ان ينبلج النور من دياجير الظلام
فالشاعر الكبير إيليا أبو ماضي الذي عاش الغربة عن الوطن والأحباب، وعاني الظروف الصعبة من سياسة واقتصاد ، لم يجد في تلك الصعوبات التي اعترضت طريقه حائلا بينه وبين تحقيق ما يطمح إليه ، فكان متفائلا محبا للحياة ، متسامحا عن الإساءات التي يرتكبها الناس ضده ، قلبه كبير ، لا يعرف البغض ، بل تملؤه المحبة ، والرغبة في السلام مع النفس ومع الآخر ، فهو يدعو متلقي شعره أن يكون دواء شافيا للجراح ، مهما كانت مرارة الدهر الذي نعيش فيه ، فالحياة أعطتنا من الكنوز الجميلة الشيء الكثير ، ولم تكن بخيلة في العطاء ، فليس من الإنصاف ان نقابل عطاياها الوفيرة بالبخل، والامتناع عن إكرام الناس وحسن الإقبال عليهم ، فالإنسان جدير بالإحسان ،حتى وان لم تقابل إعماله الحسنة ،بالتقدير الذي تستحقه ، فمن ذا الذي يثني على الغيث ،حين تنهمر قطراته جالبة لنا الخير والنماء ؟ ومن يمنح الزهرة الفواحة ما تستحق من تقدير وهي ما فتئت تكرم العالم كله بشذاها الجميل ، والبلبل يترنم مانحا إيانا الجمال وايات البهاء وروعة الألحان ، وهو لا ينتظر منا جزاء على إحسانه اللامحدود ، فيا أيها الإنسان تعلم من الزهرة والبلبل كيف يكون العطاء بلا مقابل ، فأيقظ شعورك بالمحبة ، لولا الشعور لم يسم المخلوق الى مرتبة الإنسان ، واحرص على إسعاد الناس والعمل على هنائهم ، فالدجى اظلم حين كره قلبه وبقيت النجوم ضاحكة ، فمحبة الناس غاية نبيلة ، تصدر عن متعلم أدرك قيمة المحبة ، فلا تطلبها من جاهل ، فهو لم يفهم بعد قيمة العطاء :
كنْ بلسما إنِ صار دهركَ أرقما
وحلاوة إنِ صار غيركَ علقما
إنًَّ الحياة حبتْكَ كلّ كنوزها
لا تبخلنَّ على الحياة ببعض ما
أحسنْ وانْ لم تجزَ حتى بالثنا
أيُّ الجزاء الغيثُ يبغي إنْ هما
من ْ ذا يكافئ زهرة فواحة ؟
أو منْ يثيبُ البلبل المترنما
يا صاح خذ علمَ المحبة عنهما
إني وجدتُ الحبَّ علما قيما
لو لم تفحْ هذي وهذا ما شدا
عاشت ْ مكممة وعاشَ مكمما
فاعمل لإسعاد الورى وهنائهم
إنْ شئتَ أن تسعدْ وشئتَ تنعّما
أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا
لولا الشعور ُ الناسُ كانوا كالدمى
كرهَ الدجى فاسوّد إلا شهبه
بقيتْ لتضحك منه كيف تجهما
لو لمْ يكنْ في الأرض الا مبغضٌ
لتبرمتْ بوجوده وتبرما
لا تطلبنَّ محبة من جاهل
المرءُ ليس َ يحبُّ حتى يفهما
ومن شعراء التفاؤل الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي ، الذي بقي ينظر إلى الحياة بابتسامة، رغم ما تعرض له من مرض بالقلب ، وظل متفائلا يضحك للدنيا ، وفي قصيدته ( إرادة الحياة) نلمس الإصرار على الحياة بكرامة ،والنضال من اجل تحقيق الهدف والوصول الى الغايات ، وان المتفائل عادة يستطيع المساهمة بالنضال لتغيير ظروف الحياة القاسية ، والتخفيف من آلامها ، أما المتشائم فانه لا يستطيع التحرك ، وينظر الى واقعه بأسف ، ظنا منه انه لا يمكن ان يتغير ، وكانت قصيدة ابي القاسم الشابي نشيدا تردده الشعوب العربية في نضالاتها الطويلة من اجل التحرر :
إذا الشعبُ يوما أراد الحياة
فلا بدَّ أنْ يستجيبَ القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
ومنْ لم يعانقه شوق الحياة
تبخّرَ في جوها واندثر
كذلك قالت لي الكائنات
وحدثني روحها المستتر
ودمدمت الريح بين الفجاج
وفوق الجبال وتحت الشجر
إذا ما طمحت إلى غاية
ركبت المنى ونسيت الحذر
ولم أتجنب وعور الشعاب
ولا هبّة اللهب المستعر
ومن يتهيبْ صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
وقالت لي الأرض لما سالتُ:
أيا أمّ هل تكرهين البشر
أباركُ في الناس أهل الطموح
ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان
ويقنع بالعيش عيش الحجر
هو الكون حي يحب الحياة
ويحتقر الميت مهما كبر
فلا الأفق يحضن ميت الطيور
ولا النحلُ يلثم ميت الزهر
وللشاعر الفلسطيني ( إبراهيم طوقان) قصيدة جميلة في الدعوة إلى التفاؤل والابتعاد عن التشاؤم والقنوط ، والعمل على تغيير السيئ من الحياة ، فالدموع لا تجدي ، فانهض ولا تشك من الزمان ، فان الكسالى من يكثرون من الشكوى ، وسر في طريق النجاح ، ولا تتساءل عن كيفية الوصول الى الطريق ، فالإنسان المتفائل، الذي يسعى لتحقيق أمله لن يضل في الحياة ، كما ان ذوي الأهداف النبيلة لن يحصدوا الخيبة والفشل ، فقم أيها الشاكي لعملك وأحرز نجاحك ، فلا احد يمكن أن يحقق لك ما تريد بدلا منك :
كفكفْ دموعكَ ليس ينفعكَ البكاءُ ولا العويلُ
وانهضْ ولا تشكُ الزمانَ فما شكا إلا الكسولُ
واسلك لهمتك السبيلَ ولاتقلْ كيف السبيلُ
ماضل ذو أمل سعى يوما وحكمته الدليلُ
كلا ولا خابَ امرؤ يوما ومقصده نبيل ُ
أفنيتَ يا مسكينُ عمركَ بالتأوه والحزن
وقعدتَ مكتوفَ اليدين تقولُ حاربني الزمن
ما لمْ تقمْ بالعبء أنت َ فمنْ يقومُ به إذن

صبيحة شبر
1 آب 2010