ماذا تفعل.. لو أظلمت الدنيا أمام عينيك؟




حوار أجراه ا / عصام غازي مع الأستاذ عمرو خالد لمجلة كل الناس بتاريخ 19-25 أبريل 2006

في الطفولة.. إجابة للكثير من التساؤلات حول شخصية النبي. كيف زرعت في قلبه الرحمة.. كيف تأصلت لديه هذه القدرة على تحمل المسئولية والاعتماد على النفس والمرونة في التعامل مع كل الظروف من أين له هذه الحكمة والخبرة بالحياة؟

مثل هذه التساؤلات.. كما يؤكد الداعية عمرو خالد، تختفي تماماً عندما تكتشف أسرار طفولة محمد.. وكيف تنقل خلال سنواته الثماني الأولى بين خمسة بيوت.. وكيف امتحنه الله بالشدائد وصدمة اليتم وفقدان أغلى الناس ليشب قوياً قادراً على تحمل أعباء الرسالة ويكون قدوتنا جميعاً في مواجهة مصاعب الحياة.. عمرو خالد.. يواصل الإبحار مع مرحلة الطفولة في حياة النبي ليكتشف المزيد من أسرارها.

السيرة النبوية المطهرة. تقول: لم يكن موت عبد الله ثم آمنة قسوة من الله تبارك وتعالى على النبي صلى الله علية وسلم، فهو يحبه، وهو سيد الخلق الذي سيقود البشرية، لكن الله أراد أن يُعد النبي بحيث لا تخدعه الدنيا.

والرسول سوف تأتيه الشهرة كلها بعد ذلك "ورفعنا لك ذكرك".. وحين تهرول إليه الناس بعد أن يصبح مشهوراً، يقول لنفسه: "مالي وما للدنيا، وما للدنيا ومالي، إنما مثلى ومثل الدنيا كرجل مشى في يوم شديد الحر فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها". ولهذا لم تخدعه الشهرة، ولا المال خدعه.

نموذج للكرم والرحمة

في يوم من الأيام كان أغنى الناس جاءته غنم بين جبلين، وجاء أعرابي فنظر إليها وقال: أكل هذا لك يا محمد؟ فقال نعم. فنظر إليه النبي وقال له: أتعجبك؟ قال نعم، قال هي لك، قال: أتهزأ بي؟ قال لا، اذهب فخذها، فذهب الرجل بها وهو يلتفت خلفه خوفاً من أن يرجع النبي عن قوله، فأخذ الغنم وذهب إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس، إن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبداً.

ويأتيه أعرابي فينظر إليه ويرتعد، ظناً منه أنه ملك، فيربت النبي عليه ويقول له: هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة، إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد.

أحياناً تحدث في حياتنا أحداث مؤلمة، فنقول: لماذا يا رب، ثم نكتشف أن وراء ما حدث خيرا كثيرا.

يقول ابن عطاء الله: ربما منعك ليعطيك، وربما يعطيك ليمنعك.

"وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم".

أحاديث الكبار أهم من اللعب

ويعود النبي "إلى مكة ممسكا بيد أم أيمن – جارية أمه – ثم تقف به أم أيمن أمام بيت عبد المطلب وتطرق الباب، يفتح لها عبد المطلب، فإذا به يرى محمداً دون أمه، يسألها: أين آمنة؟ تقول له: ماتت.

ومنذ ذلك اليوم ينتقل النبي من بيت أمه إلى بيت جده عبد المطلب، كان عبد المطلب يقترب من السبعين من العمر، يحتضن عبد المطلب حفيده بحب شديد، ويقضي النبي سنتين من عمره – من سن 6 سنوات إلى سن 8 سنوات – في كنف جده، وكأن النبي سعيد بوجوده في بيت عبد المطلب، لأن أمه قبل موتها زرعت في قلبه الحب لأهل أبيه.

وعبد المطلب رجل عظيم،ـ فهو الذي واجه أبرهة، وهو يجلس كل يوم في ظل الكعبة، يفرش عباءته ويجلس عليها، ثم تأتي سادة قريش وتجلس أمامه، يتناقشون في أخبار السياسة والاقتصاد، وأخبار مكة عموما، مع كبير مكة، وكلما ذهب عبد المطلب لهذا المجلس اصطحب معه النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلسه إلى جواره على عباءته، التي لا يسمح بجلوس أحد عليها.

كان عبد المطلب يظن أن النبي سيقضي هذا الوقت في اللعب، لكنه فوجئ بأن النبي يجلس منصتا لأحاديث الكبار، فينظر عبد المطلب لزعماء قريش ويقول لهم: إن ابني هذا سيكون له شأن عظيم.

وهذه الخبرات التي اكتسبها النبي في طفولته هي التي صقلت شخصيته وأعطته القدرة على اتخاذ القرارات العظيمة بعد ذلك.. في سن الثماني سنوات يواجه النبي اليتم الثالث في حياته، حين يموت عبد المطلب فجأة، فينتقل إلى بيت عمه، ورغم كل هذه الصدمات القاسية لم يفقد النبي صفة الرحمة.

سر الإدارة وتحمل المسئولية

وأثناء موت عبد المطلب.. أوصى بأن يذهب محمد للعيش مع عمه "أبو طالب".

لماذا أبو طالب؟.. لأن أبا طالب هو شقيق عبد الله والد النبي، فيقول عبد المطلب لأبي طالب" أوصيك بابني هذا.

هكذا انتقل النبي خلال ثمان سنوات للإقامة في خمسة بيوت.

بيت أمه آمنة، ثم بيت حليمة السعدية، ثم بيت أمه مرة أخرى ليقضي فيه أربع سنوات ثم بيت جده عبد المطلب الذي يعيش فيه جده وزوجته هالة، وبعد ذلك ينتقل إلى بيت عمه أبو طالب الذي يضم عشرة أبناء.

هل كانت البيوت متماثلة؟

لا كانت مختلفة كل الاختلاف، بيت في الصحراء، بيت به جد عجوز وزوجته، وبيت مزدحم بالأبناء فلم يتفرغ لرعايته أحد، ولهذا كان أميا، فمن الذي أدبه بهذا الأدب الجم؟.. "أدبني ربي فأحسن تأديبي".

كان انتقاله بين البيوت سبباً لتعليمه الاعتماد على النفس وتحمل المسئولية والجدية، والصلابة والإرادة والمرونة في التعامل مع الظروف.

هذا هو الإعداد الإلهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أحيانا يمنعك ليعطيك، فكان كل المنع الذي حدث للنبي عطاء.

الغريب أنه وسط كل هذه المحن والآلام الشديدة كان هناك دائما حضن للنبي، توازن إلهي: يأخذ منه أمه ويعطيه حضن جده، حتى زوجة جده "هالة" فقد كانت ابنة عم آمنة بنت وهب "أمه" التي استشعرت أنه ابنها.. ثم أعطاه حضن أبو طالب، الذي لم يسلم، لكنه ظل واقفا سندا له.

وأعطاه حضن زوجة عمه أبو طالب، فاطمة بنت أسد التي صارت حماة ابنته بعد ذلك.. فهي أم على بن أبي طالب زوج السيدة فاطمة، وقد أسلمت بعد ذلك.

هذا تفسير قول الله تبارك وتعالى: "ألم يجدك يتيما فأوى"..

درس النبوة

لو أظلمت الحياة أمام عينيك، فقل إن الله يعدني لشيء كبير في المستقبل، هذا هو درس النبوة.

يظل النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي طالب إلى أن يبلغ من العمر 25 سنة.

يعيش مع أبناء عمه عقيل وجعفر وغيرهما وكان أبو طالب فقيرا.

في هذا البيت نشأ واحد من ألد أعداء النبي وهو عقيل.

ونشأ واحد من أعز أحباب النبي وهو جعفر.

ويأخذ النبي بعد سنين طويلة ابن عمه على بن أبي طالب ليربيه في بيته حين كان على عمره ثماني سنوات، وفاء منه لأبي طالب.

أما زوجة عمه فاطمة بنت أسد فقد خلع النبي عباءته حين ماتت بعد خمسين سنة، وقال: والله لأكفنها في عباءتي، وكان لا يملك عباءة غيرها تحميه من البرد، وينزل النبي إلى قبرها قبل دفنها لينام فيه رحمة بها، ثم يبكي على قبرها بكاء شديدا أكثر مما بكى ابنها على بن أبي طالب، فقالوا له: لم تبك هكذا يا رسول الله؟ قال: إنها فاطمة ربتني وأنا صغير.