محمد جمال صقر
لولا الغناء لم يكن الشعر
ولولا المغني لم يكن الشاعر
للدكتور محمد جمال صقر
لقد نشأت الموسيقى وعَرُوض الشعر نشأة واحدة؛ فكان المغني الأول إذا شغله أمر من الحزن أو الفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى، يُلَحِّنُها من سِرِّ نفسه تلحينا يُمَثِّل مشاعره ويُهَدْهِدُها. ثم صار يدندن الأصوات مركبة في كلمة ذات معنى، فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن كلمات مختلفة مؤتلفة في جملة واحدة -وعندئذ كان البيت من الشعر- فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن جملا مختلفة مؤتلفة -وعندئذ كانت القصيدة- فهو ينتقل من بيت الجملة منها إلى بيت الجملة باللحن نفسه؛ فإذا الأغنية (القصيدة) دورات متشابهات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، تَضْبِطُها قَرَارَاتُها (قَوَافِيهَا).
ثم نشأت الآلات، فاسْتَقَلَّتْ بالموسيقى عن عروض الشعر، ومضى كُلٌّ في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن بَقِيَتْ وَشِيجَةُ الغناء الوَاشِجَةُ، تحمل الموسيقيين والشعراء جميعا معا، على أن يجتمعوا على لُغَةٍ سَواءٍ، وعندئذ يراجعون ذلك الأصل البعيد؛ فتلتبس أنغام الموسيقيِّ بتفعيلات الشاعر، والبحر العروضيّ بالمقام الموسيقيّ، وتتفجر اللغة السواء! ويتجلى خصب توظيف العروض توظيفا موسيقيا.
ولقد ينبغي أن يعرف متلقو الشعر، أن الشاعر يغني شعره في أثناء تكوينه، وإن باعدته الموسيقى بآلاتها، ولا يمر عمله على ورقته حتى يمره على أذنه!