الفنان التشكيلي جهاد العامري يحفر عميقاً في تاريخ القدس

[ريمه الخاني]

الفنان التشكيلي جهاد العامري يحفر عميقاً في تاريخ القدس

غازي انعيم

يعد الفنان جهاد العامري ، الذي قدم للمشهد التشكيلي الأردني في السنوات الأخيرة العديد من المواضيع الجديدة والمثيرة على صعيد الجرافيك ، من الفنانين الشباب الذين أثبتوا حضورهم على المستوى المحلي والخارجي. كعادته ، عزف الفنان جهاد العامري في تجربته الجديدة على وتر جديد حمل عنوان "القدس أول العتبات". هذه التجربة ضمت نحو خمس وعشرين لوحة غرافيكية من القياسات المختلفة ، استعرض الفنان من خلالها موهبته الفنية التي بلورتها الدراسة الأكاديمية بالخبرة ، وزادت من ألقها الممارسة المستمرة لتقنيات الغرافيك. وقد استطاع العامري من خلال هذه التجربة أن يمزج تقنيتين أو أكثر (الطباعة الحجرية ، والخشبية والشاشة الحريرية) ، واستطاع من خلال تلك التقنيات أن يحفر عميقاً في تاريخ (القدس) ، ويستحضر مكانتها التاريخية والدينية من خلال مخططات المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة وما فيهما من جماليات هندسية وزخرفية وحروفية ومخططات جامعة لذكريات الماضي البعيد ليومياتها.

وجاء تركيز العامري على القدس لأن القرآن الكريم والسنة أكدا في الكثير من نصوصهما على فضل تلك البقاع وقدسيتها ، والتي لا يمكن انتزاع مكانتها من وجدان أي عربي ومسلم. كما جاء تركيزه على قبة الصخرة لأنها تمثل إحدى أهم المعالم المعمارية الإسلامية في العالم ، ذلك أنها ـ إضافة إلى مكانتها وقدسيتها الدينيتين ـ تمثل أقدم نموذج على شكل ثُمانيّ الأضلاع في العمارة الإسلامية من جهة ، ولما تحمله من روعة فنية وجمالية تطوي بين زخارفها الجصية وقبتها الذهبية التي تغطي الصخرة وتحيط بها بصمات الحضارة الإسلامية على مر فتراتها المتتابعة من جهة أخرى.

قدم العامري لوحته على ما ذكر ، وعلى مفردات تقوم بكامل عناصرها على استحضار الخرائط القديمة والمخططات المعمارية والأختام التي أنتجت في فترة الحكم العثماني ، والتي دامت ما يقارب 400 عام ، حيث مزج بين تلك الخرائط والمخططات المعمارية والأختام التي كانت مستعملة في تلك الفترة وبين نصوص شعرية تعود للشعراء: محمود درويش ، أحمد مطر ، إبراهيم نصر الله ، خالد أبو خالد ، يوسف عبد العزيز ، حيدر محمود ، عصام السعدي ، نزار قباني ، عبد الله رضوان ، سميح القاسم ، هارون هاشم رشيد والمتوكل طه. ومنشأ فكرة مشروع "القدس أول العتبات" هو "العاطفة" التي تشد الفنان العامري ، مثله كمثل أي فنان مسلم وعربي ، نحو مدينة القدس ، لكن ما هو جديد في فكرة هذا المشروع أن الفنان اعتمد في تناوله مدينة القدس على الخرائط والمخططات المعمارية والنصوص الشعرية. وهو ، بهذا التوجه ، قدم لوحة لتخدم أغراضاً متعددة في وقت واحد: فهي أقرب إلى البحث المعماري والتاريخي ، من دون أن يغفل الناحية البصرية بحشده محمولات من العناصر المعمارية مثل: (السور ، القباب ، الأقواس ، العقود ، الأعمدة ، النوافذ ، الأبواب ، المساطب ، الأروقة ، المحاريب والأسبلة...) ، والجماليات البصرية الأخرى من حروف وزخرفة وخط وتجريد ، وكلها قائمة على الانسجام والتوافق. وبالإضافة إلى ذلك ، أضفى تنويعات من الأحاسيس في بحثه التشكيلي سواءً كان على صعيد الناحية البصرية أو على صعيد التقنية. ورغم أن مكونات لوحة جهاد هي واحدة تكنيكياً (الطباعة) ، غير أنه يقدم من خلالها تنوعاً في الأحاسيس ، مرة يكون بإحساس الطباعة الحجرية والخشبية ، ومرة أخرى بإحساس الطباعة الخشبية والشاشة الحريرية ، وثالثة بإحساس الطباعة الحجرية والخشبية والشاشة الحريرية. تلك التقنيات التي تتكرر في لوحات "القدس أول العتبات" كافة ، جاءت لإضفاء المزيد من الشاعرية البصرية الناتجة عن طريقة المزاوجة ، وهذا يساعد في حضور أجواء لونية جديدة على مسطح اللوحة ، ما جعل نظر المشاهد يتقلب من مستوى إلى آخر داخل فضاء اللوحة. وهنا يؤكد الفنان العامري من خلال تلك اللوحات أنه لا مناص للمبدع العربي من أن يكون امتداداً للمسات وتراتيل إبداعية موغلة في هذه الأرض المقدسة التي تتعرض للتهويد والاقتلاع وطمس الهوية من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني ، وإنْ كانت الترتيلة القديمة تأتي هنا كأنها تسجيلية ، لكن ـ مع التأمل ، والإحساس الذي يقدمه المشهد البصري لجهاد العامري ـ يؤكد أنه قدم تجربته من خلال خط غرافيكي اتخذه لشغله البصري والبحثي معاً ، وهذا الخط توضحت معالمه باتجاه التركيز على السطح الذي منح العين إحساسا بالمخططات الأثرية للقدس ، وتتحاور عليه لعبة اللون تاركاً الفراغ يدخل ويخرج في آن واحد من جسد يأخذ لونه من السطح أو من الخط الذي يحدده.

والمدقق في لوحات هذه التجربة يلاحظ أن قبة الصخرة كان لها حضور لافت ، حيث دخلت على اعتبارها نسيجاً بصرياً أساسياً إلى جانب الأختام والعقود ومخطط المسجد والقبة بشكلهما الثمانيّ الأضلاع في فضاء لوحاته. واللافت أيضاً ، أنها شغلت كامل مساحة اللوحة سواء في مقدمة اللوحة أو في وسطها أو في خلفيتها رغم حضورها المكثف في لوحات أخرى ، وبطريقة بانورامية ومتتابعة ، وقد عالجها الفنان أحياناً بطريقة التكرار والتناظر في محاولة مقصودة لكسر الرتابة في التكوين.

في هذه التجربة طرح العامري أمام مشاهديه جمالية لوحته الجديدة التي وصل من خلالها إلى غنائية الأزرق الفاتح والبرتقالي والبنفسجي والرمادي والأسود والأخضر مع التحويرات ، وحركة الخط الإيقاعية المتصاعدة والمعبرة عن الحرية في التعاطي مع الجوهر التكويني والتلويني ، وهي تشير بخطوطها ، وألوانها ، وأشكالها ، إلى الخبرة والثقافة الواسعة التي يملكها الفنان في مضمار الغرافيك ، والتي جاءت بعد دراسة وممارسة معمقتين.

أخيراً ، لم تكن لوحات الفنان التشكيلي جهاد العامري ، الذي يجهد كثيراً في عملية إنجاز لوحته ، مجرد ناقل لموضوعْ معين أو لفكرةْ قد تخطر بالبال ، بل كانت تلك اللوحات تتأثر وتعبر بطريقتها الخاصة عن موضوع القدس الذي شغل ـ وما زال ـ يشغل العالم ، من خلال تفاعل الفنان معه عاطفياً وأخلاقياً وروحياً ، لذلك يلاحظ المشاهد من خلال لوحاته الغنية بالمفردات والرموز كم امتدت فيها روحه ومشاعره. وهو يقترح ، من خلال خطوطها وألوانها وعناصرها وتكوينها بصيصاً ، من الضوء والأمل.

ghaziinaim@yahoo.com
التاريخ : 09-04-2010

[ملده شويكاني]

شكرا لك ريمه لتقديم فنان نحترمه ونحترم فنه
ملدا