حصيلة العمر
thepoet1943@hotmail.com
http://hasanalafandi.blogunited.org
كثيراً ما يمر الفرد بنوع من السأم, زاد أو نقص, ولكنه بكل المعايير سأم وملل من الحياة أو مما حوله أو من طبيعة عمله أو أوضاعه المحيطة به, ومر كثير من الشعراء بذلك السأم, إما إحساساً بعدم القدرة على تحقيق الغايات التي يعملون ويؤمنون بها أو لطول العمر وكثرة المرض ربما وكثرة التجارب والأحداث, ومن أشهر من تبكى طول العمر لبيد بن ربيعة, وهناك غيره ممن سنعرض لهم, ولكن السأم في الكثير الغالب ارتبط بعمر الثمانين! وعجيب أن يرى سيدنا نوح الحيـاة كوخاً لـه بابان متقاربـان, دخل من أحدهما وخرج من الآخر, على الرغم من حياته تسعمائة وخمسين عاماً بعد أن أوتي النبوة.
ولقد سئمت من الحياة وطولها = وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
وقـول آخر:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش = ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم
ومر الأمير عبد الله بن الطاهر بالشاعر عوف بن محلم الشيباني, سلم عليه مرات فلم يسمع, وكان يستفسر عما قال الأمير, حتى سئم الأمير وأخيراً علم أو أدرك عوف الموقف, فأنشده قائلاً:
يا ابن الذي دان له المشرقان = طرا وقـد دان لـه المغربان
إن الثمانيـــن وبلغتـها = قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بشـطاط انحنـا = وكنت كالصعدة تحت السـنان
فقـربـاني بأبـي أنتـما = إلى وطني قـبل اصفرار البنان
وقبـل منعـاي إلى نسوة = ديـارها حـران والرقتــان
وأشار شوقي إلى سأم لبيد وهو يخاطب أبا الهول:
أبا الهول طال عليك العُصر = وبلغت في الأرض أقصى العمر
فقال بيته المعروف:
وشكوى لبيد لطول الحياة = ولو لم تطل لتشكى القِصر
ولبيد شاعر مخضرم عاش في العصرين الجاهلي والإسلامي, وأسلم وحسن إسلامه, وهو شاعر إحدى المعلقات الشهيرة, من بحر الكامل ومطلعها:
عفت الديار محلها فمقامها = بمنى تأبد غولــها فرجامها
فمدافع الريان عري رسمها = خلقا كما ضمن الوحي سلامها
وله شعر حسن كثير, فهو القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل = وكل نعيـم لا محالة زائل
وقيل إن الرسول (ص) استثنى نعيم الجنة. ولبيد أيضاً من رثى أخاه اربد بأجمل الشعر وأعظمه وأرفعه, في عينية تسترعى الانتباه وتأخذ بالألباب:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالـع = وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وما المال والأهلون إلا ودائع = ولابد يوماً أن ترد الودائــع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه = يحور رماداً بعد إذ هو ساطـع
لعمرك ما يدرى المسافر هل له = نجاح ولا يدرى متى هو راجع
وفي نفس سياق هذا المعنى للبيت الأخير يقول شوقي:
ويا وطني لقيتك بعد يأس = كأني قـد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيؤوب يوماً = إذا رزق السلامة والإيابا
وأذكر أني وجدت العالم المصري المعروف البروفيسور فاروق الباز والذي ارتبط اسمه بناسا, على شاشة تلفزيون الشارقة, فسألته كيف وصل لبيد في العصر الجاهلي إلى ما وصل إليه العلم الحديث في بيته الذي تحدث فيه عن هلاك الشهب وتحولها إلى رماد؟ وللعلم ذلك يغذي الأرض بالحديد الذي ليس أصيلاً من مكوناتها. تلك لا شك المعرفة بالفطرة والإلهام الشعري الذي فيه شيء من الإيحاء واستقراء المستقبل البعيد واكتشاف المجهول والغوص فيه, وذلك ما يميز شاعراً مبدعاً عن شاعر يقول أي كلام والسلام, وأنا أكثر المؤمنين بأن العرب جاؤوا بما لم تستطعه الأمم منذ القدم وخلال العصر الجاهلي, في حين أن غيرهم من الأمم وخاصة في الغرب, كانوا يغطون في نوم عميق وجهل فاضح وعبودية الإنسان الحقة. كان للعرب معرفة وعلم وحكمة وفلسفة وحس فني غير محدود وذوق أدبي بعيد, أهلهم لاستقبال إعجاز القرآن البلاغي العظيم, وتفهم رسالة السماء, ويكفي أن زهير بن أبي سلمى مثلاً من أكبر شعراء العالم كما قال الدكتور عبد الله الطيب ـ عافاه الله وشفاه ورد غربته ـ وإن كنت أعتقد أنه أعظم من صهرت التجربة الإنسانية شاعراً, فجاءنا بالحكم وجاءنا بالدعوة إلى السلام في وقت مبكر جداً:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ = وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميــمة = فتضرى إذا ضريتموها فتضرم
وأتحدى شاعراً غربياً وصل إلى ما وصل إليه زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده = فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم
وأيضاً:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله = ولكنني عن علم ما في غد عمى
تصور شاعراً في العصر الجاهلي , يذهب إلى ما ذهب إليه الرجل! وبعد ذلك كله أعجب من أدعياء ثقافة هذا العصر الذين يعيشون تبعية نفسية وأدبية غريبة للغرب , وكأن عالم الشعر والأدب ما ظهر منه وفيه سوى تي. إس. إليوت وموليير وشكسبير وجوتيه وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان! فشلوا في كتابة الشعر الخالص ومعرفة أسسه وقواعده, فراحوا يدعون إلى ما يعرف بالتجديد وبحرية الشعر, إما أن يكون الشعر شعراً أو لا يكون, فليس هناك من شعر كلاسيكي وشعر حر وشعر تفعيلة وشعر منثور, ورحم الله الشاعر هاشم الرفاعي:
أيها الناطقون بالشعـر حراً = ولكم بــه دعـوة طنانه
اسمعونا إن استطعتم قريضاً = لا حديث جالس في حانه
ليس شعراً وإنـما هو شيء = فوقه الشعر رتبة ومكانـه
إنما الشعر ما تدفـق عذبـاً = في بنــاء فأحكموا بنيانه
ليست الفكرة الجديـدة تأبى = عرضها في جزالة ورصانه
لا تحيطوا تراثـنـا بلهـيبٍ = في غد تكـره العيون دخانه
وقديماً قال الحطيئة أبياته الشهيرة:
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه = فليس خليقاً أن يقال له شعـر
وهو نفس الشاعر الذي خاطب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ = زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة = فاغفر عليــك سلام الله يا عمر
فعفا عنه, وقد هجا والدته وهجا نفسه واشتهر بالهجاء كثيراً.
و رحم الله لبيدا :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم = وبقيت في خلف كجلد الأجرب
إلا ما ندر من الفحول.
وعلمت من تجوالي أن بالسودان شعراء عظماء, لم يجدوا مجالاً للانتشار والمعرفة في مساحات شاسعة بالوطن العربي والعالم أجمع, ولعل ذلك يرجع إلى ضعف الإعلام عنهم والتركيز عليهم وعلى ما قدموه من شعر وإنتاج غزير, ومن هؤلاء شاعرنا الكبير أحمد محمد صالح, شغل منصب عضو مجلس السيادة في حقبة من تاريخ السودان, ربطته بالشاعر المصري علي الجارم صلات معروفة, فقد صدف أن زار الأخير السودان وكان وزيراً للمعارف المصرية, أقيمت لـه حفلة كبيرة ولم يدع إليها الشاعر السوداني, وعلى ما يظهر أثر ذلك عليه كثيراً, فقد كان رقماً ما كان يجب تجاهله, ذهب في نفس الليلة إلى جريدة النيل حيث كان من المتوقع أن تنشر قصيدة الجارم التي ألقاها يومها في الحفل للقراء لتكون بين أيدي العامة صباح اليوم التالي, قرأها الشاعر السوداني وكتب على التو قصيدته فينوس يجاري على ذات البحر والقافية وسلمها للجريدة ونشرت بجانب قصيدة الجارم, وكانت أجود نسيجاً وأفضل رصانة من قصيدة الجارم, والقصيدة معروفة للأدباء السودانيين ومحفوظة محفورة في وجدانهم. وتـقول أبيات منها:
أخلفت يا حسناء وعدى= و جفوتنى و منعت رفدى
فينوس يا رمز الجما= ل و متعة الأيام عندى
لما جلوك على الملا= و تخيروا الخطاب بعدى
هرعوا إليـــك جماعة= و بقيت مثل السيف وحدى
استنجز الوعـــد النسيم= و أسأل الركبان جهدى
يا من رأى حسناء تخـ= طر فى ثياب اللازورد
لو كان زندى واريا= لقيتهـــم كفى و زندى
أو كان لى ذهب المعز= لأحسنوا صلتى وودى
لمــا تنـكر ودهـــم= جازيتهم صدا بصد
هذى اليراعة فى يدى= لو شئت كانت ذات حد
لو شئت سالت علقما= سما يرى عند التحدى
فــإذا رضيت فإنـهـا= شهد مصفى أي شهد
لى من بيانى صارم= و كتائب العزمات جندى
حسناء ليس أوبوك با= لرجل البخيل المستبد
حجبوا سناك و ما دروا= أن الكواكب ذات وقد
لما طلعت على شبا= ب القطر فى يمن و سعد
و تضوع الوادى و فا= ح شذاك من عطر و ند
و بدت معانى السحر فى= كل العقول فليس تبدى
رفعوا العماد و هللوا= و أتوك وفدا إثر وفد
نهلوا و علوا من جما= لك فاستطابوا خير ورد
******
ملك القريض ووارث المـ= جد المؤثل من معد
غرد كما شاء البيان= محدثاً عن خير عهد
أيام كان لواؤنا الجبار= مــن سهـل لوهــد
واذكر لنا عهد الجدود=وصف لنا أيام أحد
في القادسية يوم سار= النصر من بـنـد لبند
وتغـن من فـنـن إلـى = فـــنن ومن غور لنجد
يا وارث الأدب التليد= وبانـــي الأدب الأجـد
علم شباب الواديين= خلائـــق الرجل الأشد
علمـهـم أن الخنـو= ع مــــذلـة والجـبن يردى
علمهـــم أن الحيــاة= تسير في جزر ومد
علمهــــم أن التمســح= بالفرنجة غـير مجدى
علمهم أن العروبـة= ركن إعــزاز ومـــجــد
آه, لقد نسيت نفسي مع هذه الرائعة ووجدتني أنساق وراء كتابة كل ما أحفظ منها, فهي أثيرة إلى نفسي, قريبة منها, والشاعر أحمد محمد صالح, حفظنا له من قبل رائعته التي خاطب بها دمشق أيام العدوان الفرنسي عليها واحتلال سوريا الشقيقة, فغنى بها وسار من لا يغني مغرداً:
صبراً دمشق فكل طرف باكي يــوم استبيح مع الظلام حماك
جرح العروبة فيك جرح سائل = بكــت العـروبـة كلــــها لبكاك
جزعت عمان وروعـت بغـداد = واهتزت ربى صنعاء يوم أساك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى = وسمعت بالحـرمـين أنـة باكــي
صبراً فرنسا فالحوادث جمـة = والـدهــــــر دوار مع الأفــلاك
وغدا تدور الدائرات فشمـري = سأكــــون أول شامت يـنعـاك
وعبر عن تعاطف السودانيين مع الرئيس محمد نجيب عندما أقصي في مصر الشقيقة عن الحكم, خاصة وأن نجيب تربطه بالسودانيين وشائج قربى وعواطف متقاربة مشتركة, وأخذنا ننشد شعره :
ما كنت غـدارا ً ولا خوانا = كلا ولم تك يا نجيب جبـانا
يا صاحب القلب الكبـير تحية = من أمـة أوليتها الإحسـانا
عرفتك منذ صباك حراً وافيـاً = فوفـت إليـك وآمنت إيمـانا
الثورة البيضاء كنـت صمامها = من كل شائبة وكنت ضـمانا
وأعتقد أن معظم السودانيين كانوا يؤمنون بأن إعطاءهم حق تقرير المصير, كان بدعم ومساندة من الثورة المصرية ومحمد نجيب بصورة خاصة, وامتدت جفوة مشاعر بين كثير من السودانيين والثورة المصرية حتى كان الاعتداء الثلاثي الغاشم على مصر الشقيقة وتأميم قناة السويس, وشعبنا السوداني عاطفي مثله في ذلك مثل الكثيرين من شعوبنا العربية, فنسي كل شيء وتسامح وحارب إلى جانب الإخوة في مصر, وظلت مشاعري بعيدة عن التعاطف مع جمال العرب حتى كانت النكسة وحتى تحمل القائد العظيم المسؤولية كاملة في شجاعة الرجال الكبار العظماء الشجعان, وبكيت يومها كثيراً ووقفت تحت ظل الشمس المحرقة حتى أعلن هرم العروبة عودته إلى الحكم, فقد كنت أرى أن الحرب لها هدفان, أولهما سياسي والآخر عسكري, فإذا خسرنا الجانب العسكري, كان علينا ألا نمـرر المخططات السياسية التى تستهدف قيادتنا, جمال كان أمة وكان قيادة أمة فعلية.
ولختام حديثي عن أحمد محمد صالح الشاعر العملاق, وله من الشعر ما لا يحصر, كان علي أن أتعرض إلى قصيدته التي أنشأها زائراً للمدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام:
لا تسلني علام فيــم النحيب = أنا من أثقـلت خطاه الذنوب
أنا ضيعت في الغواية عمري = وكأن لم يكــن علي رقيب
وعظ الشيب أخوتي ولداتـي = فأنابــوا ولم يعظن المشيب
وضللت الطريق ربي فمالـي = خفيت علـي دونهن الدروب
يا أبا القاسم المرجى سـلام = أنا أشكو وأنت أنت الطبيب
الديانات عند دينـــك تخبــو = والحضارات تختفي وتذوب
جئتنا بالجديد في عالم الروح = فخـفت إلـى لقـاك القلـوب
في كتاب حوى الفضائل طرا = فيـه سر الحيـاة والتهـذيب
فـيه وعـد وفيه ثـم و عـــيد = كل شيء مسطر مكتـوب
ليتهم قدروا تعاليمــك السمحة = واستوعبت هــداك الشعوب
لو رعوها ما قام في الأرض جبار ولا عمـت البـلاد الحروب
ولعاش السلام في الأرض حراً = واستوى في الحقوق شاة وذيب
وما أحوجنا في هذا الوقت بالذات إلى مثل هذه الأشعار وهذه المعاني, حيث يعلم الصغير والكبير ما آل إليه الحال وما تشتهي النفوس والصدور بعودة مرتقبة لمعتصم الإسلام والعرب.
وحصيلة العمر عشرات المئات من القصائد وعشرات الآلاف من الأبيات, ونعم الحصيلة هي إذا تفاخر الناس بالمال والحلال والقصور والعمارات, ولكن أكثر ما يثيرني هو الذكاء العربي الواضح والمتميز, تذوق المعاني وفهم الشعر كما ينبغي, وقد تعرضت في وقت ما إلى موقف هارون الرشيد من خاصته من بني هاشم وقصيدة أبي ذؤيب الهذلي وحزنه لعدم معرفتهم بها والذي فاق حزنه على موت ابنه, ولا تخفي على فطنة القارئ كيف فهم الإنشاد:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد = وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرة واحـدة = إنما العاجز من لا يستبد
فكانت نكبة البرامكة وكانت صورة جديدة ومسيرة جديدة لحكم الدولة العظمى, بعد أن ضاق الناس ذرعاً بحكم البرامكة.
وفي قصيدة اليتيمة ما يوحي أيضاً بذلك الذكاء الوقاد الذي نعتز به ونطرب له, قيل إن ملكة في اليمن أو أميرة دعت الشعراء إلى التباري في مدحها ووصفها وذكر جمالها, على أن تتزوج صاحب أجود قصيدة, وبينما شاعر اليتيمة في طريقه إلى اليمن, قابله آخر ولم تكن قصيدته تصل مستوى اليتيمة لا معنىً ولا حبكةً ولا لفظاً, فقتل صاحب اليتيمة وأخذ القصيدة ووصل اليمن, وبدأ ينشد:
هـل بالطلول لسائـل رد = أم هـل لها بتكلـم عهـد
درس الجديد جديـد معهدها = فكأنمـا هي رَيطة جَرد
من طول ما تبكي الغيوم على = عرصاتها ويقهــقه الرعد
فوقفــت أسألها وليس بهـا = إلا المها ونقانـق ربــد
ومضى في القصيدة ومعانيها المشهورة:
فالوجه مثل الصبح مبيض = والشعر مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا = والضد يظهر حسنه الضد
وهو ما يعرف في الإنجليزية بالـ (CONTRAST), يعطي صورة رائعة, وأخذت القصيدة تصف كل جسد الأميرة من أعلى رأسها إلـى أخمص قدميها كما يقولون, ولم تهمل جزءاً منه, والمفاجأة كانت عندما أُنشد البيت:
أن تُتهمي فتهامة وطني = أو تنجدي إن الهـوى نجد
حيث صرخت الأميرة (وا بعلاه, وا بعلاه, لقد قتل الرجل زوجي المرتقب) وتجمع الحرس والحاشية وأخذوا يستفهمون ويتساءلون: ما الخبر؟ فشرحت لهم أن شاعرها من تهامة لقوله ذلك, بينما منشدها من نجد حسب ما يوحي لسانه بذلك! وأمسك بالرجل المنشد وضيق عليه الخناق, فاعترف بما حدث, وللأسف لم يكن يعرف اسم شاعر القصيدة الحقيقي قبل قتله, ولذا لم يعرف لها مؤلف مؤكد, فسميت باليتيمة, وتضم أجمل أبيات من الشعر الخالص مثل:
لهفي على دعد وما خلقت = إلا لفـرط تلهفي دعـد
والمرأة الدعد الناعمة البضة التي ترتدي الملابس الناعمة.
ومثل الأبيات:
فالجد كندة والبنـون هم = فزكا البنون وأنجب الجد
فلئن قفـوت جميل فعلهم = بذميم فعلي إنني وغــد
أحمل إذا حاولت في طلب = فالجِد يغني عنـك لا الجَد
وإذا صبرت لجَهد نازلـة = فكأنــه ما مسك الجهد
ليكـن لديـك لسائل فرج = إن لم يكن فليحسن الرد
وتستمر الحصيلة, فتقفز إلى ذهني آلاف الأبيات التي ربما لا تتوافر مصادرها وتكون في متناول يد الكل, ولذا فإني أوثر أن أترك معظم هذا الفصل لمختارات من الحصيلة, فربما أفادت, وكل إناء بما فيه ينضح, وكما يقول الشاعر عبد الحميد الطيب العباسي, وهو من شعراء السودان الفحول:
لـو كنت ذا مـال لكنت بــه = للصالحات وفعل الخير سباقا
وما رضيت لكم بالغيث منهمراً = منى ولا النـيل دفاعاً ودفاقا
ولكننا لا نعطي إلا ما نملك, ولنا عزاء في قول عروة بن الورد, وهو أحد الصعاليك أو المطاريد, ولعله أول من استخدم كلمة شركة أو شراكة في العربية, فأضاف جديداً إلى قاموسها:
إنـي امرؤ عافي إنــائي شركـة = وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى = بجسمي مس الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة = وأحسو قراح الماء والماء بارد
وكنت قد أشرت إلى هذه الأبيات في قصيدتي (حراسة الرمة), ومنها:
أحب المال لا شرهـا ولكن = أريد بــه مساعدة لغيري
فإن أمدد ذراعي يوم ضيق = لمحتـاج يسر رضاه حجري
وإن تعجز يميني عن نوال = أقام الحزن في قلبي وصدري
كأني عروة بن الورد فيها = وإن ظن الجميع فساد أمري
وقولي كلهُ شعـر وغيري = من الشعراء مفضوح بذكري
أنا من نسل من ملكوا القوافي وجدي جندح من صلب حجر
ورغم ما أملك من ثروة شعرية ضخمة ومختارات غير محدودة, فما ترى أقدم وما ترى أختار للقارئ, ألامية العرب للشنفري:
أقيمـوا بني أمي صدور مطيـكـم = فإني إلى قـوم سواكم لأميــل
وفي الأرض منأى للكريـم عن الأذى = وفيها لمن خاف القلى متعزل
هم الأهـل لا مستودع السر ذائـع = لديهم ولا الجاني بمـا جر يخذل
وإن مدت الأيـدي إلى الزاد لم أكن = بأعجلهم إذ أن أجشع القوم أعجل
أم لامية أمية بن الصلت يخاطب ولده العاق به:
غذوتك مولـوداً وعلتـك يافعاً = تُعل بما أجني إليـك وتُنهل
إذا ليـلة نابتك بالشكو لم أبت = لشكواك إلا ساهـراً أتململ
كأني أنا المطروق دونــك بالذي = فجعت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنـها = لتعلم أن الموت حق مؤجل
فلما بلغت السن والغايـة التي = إليها مدى ما كنت فيـك أؤمل
جعلت جزائـي غـلظة وفظاظة = كأنـــك أنت المنعـم المتفضل
فليـتك إذ لم ترع حق أبوتي = فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكـن = علــي بمال دون مالـك تبـخل
وما أكثر اللاميات, فلو تابعناها لاحتجنا إلى وقت طويل, ولكنني أنبه إلى لامية الشاعر إبراهيم طوقان, أميل إليها بحكم المهنة, فهي مرحة ظريفة تحكي معاناة المعلم:
شوقي يقول وما درى بمصابنـا = قــم للمعلــم وفــه التبجــــيلا
أقعد فديتك هل يكون مبجــلاً = من كان للنشء الصغار خليـلا
لو أدرك التعليم شوقي ساعــة = لقضى الحياة شقـاوة وخمولا
ويكاد يقتلني الأمـير بقـولـه = كاد المعلـم أن يكون رسولا
ولو أن في التعليم نفعاً يرتـجى = وأبيك لم أك بالعيـون بخيـلا
لكــن أصحح غلطة لغويـــة = مثـلاً واتخـذ الكتـاب دليــلا
وأكاد أبـعـث سيبويه من البلى = وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى ابن جهــل بعد ذلك كله = رفع المضاف إليـه والمفعولا
يا من يريــد الانتحار وجدتـه = إن المعلـم لا يعـــيـش طويـلا
مـئة على مئـة إذا هي صححت = وجـد العمى نحو العيون سبيلا
وبالمناسبة للشاعر محمود غنيم قصيدة لامية, عن المعلم وهي طويلة ومطلعها:
قالوا المعلم قلت لست أغالي = إن قلت هذا صانع الأجيال
وتحمل أجمل المعاني والإطراء والمديح والثناء بما يستحق المعلم:
صنع الصواريخ المبيدة غيره = وعلى يديه يتم صنع رجال
أبدا يبشر بالسلام وليس من = صنع الرجال كقاطع الآجال
وليته لو قال: كقاصف الآجال. وتمنيت أن لو عرضت القصيدة كلها ولكنها موجودة بديوانه دون شك, فالمعلم يطبع تلاميذه على حسن الأخلاق والأدب والخلال, ومنهم من يغدو صديقاً منه مقرباً, ومنهم من يحترمه, ويكفي ذلك رصيداً له في الحياة, ولكني أريد أن أشركك معي في تصوير حال المعلم معداً مجهزاً محضراً لأداء دروسه:
ولقد يبيت وكتبـه من حـوله فكأنـه منهـن بـيـن تلال
ويبيت يهذي بالدروس كأنه = في الفصل بين إجابة وسؤال
أو نازل بجزيرة أو سابـــح = في البحر بين الرأس والشلال
أو بين أشكال وبين دوائــر = مخروطة الألـوان والأشكال
أو بين أفعال صحاح ما شكت = عللاً ومعـــتلا من الأفعــال
أو بين معمله يخوض تجارباً = ومع اللغات يخوض كل مجال
والمختارات تطول, ولكنى كنت وما أزال معجباً بقصيدة بشر بن عوانة العبدي, وهو أحد الصعاليك, حينما طلب ابنة عمه فاشترط عليه أن يسوق ألف ناقة مهراً من نوق خزاعة, يريد هلاكه بالسير في طريق وعرة مليئة بالمخاطر, وفي الطريق قابله أسد, وكانت القصيدة:
أفاطـم لـو رأيـت ببطن خـبت = وقد لاقى الهزبر أخاك بشـرا
إذن لـرأيـت ليـثـا أم لــيـثـا = هزبـرا أغلـــبـا لاقـى هزبرا
تبهـنس إذ تقاعس عنـه مهـري = محاذرة فقــلت عقـرت مهـرا
أنـل قدمـي ظهر الأرض إنـي = رأيت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت لــه وقـد أبـدى نصالاً = محـددة ووجهـا مكـفـهــــرا
يـــدل بمخلـــــب وبحـد نـاب = وباللحظات تحسبهن جمـــرا
ففـيــــم تروم مثـلى أن يـــــولى = ويجعل في يديك النفـس قسرا
وقلبـي مثـل قلبـك ليس يخشى = مصاولة فكيف يخاف ذعـرا
وأنت تـروم للأشبــــال قـوتـاً = وأطلب لابنـة الأعمام مهــرا
نصحتك فالتمـس يا ليث غـيري = طعــامـاً إن لحمي كان مـرا
فلمــا ظن أن الغــش نصـحي = وخالفنـي كأني قلـت هجـرا
مشى ومشيت من أسدين راما = مرامـاً كان إذ طلبـاه وعـرا
هززت لـــه الحسام فخلت أنـي = سللت به لـدى الظلماء فجرا
وأطلقـت المهـنـــد من يميني = فقـد لـه من الأضلاع عشرا
فخـر مجنـدلا بــدم كأنـــــي = هدمـت بـه بنــاء مشمخرا
وقلـــــت لــــه يعــز علـي أنـي = قـتلـــت مناسبي جلـداً وفخرا
ولكـن رقــــــــت شيئاً لـم يرقــه = سواك فلـم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمـــني فـــــــــــراراً = لعـمر أبيـك قد حاولت نكرا
فلا تجزع فــــقــد لاقـيت حــــــراً = يحاذر أن يعـاب فمـت حرا
ولما كان الحديث عن الحب والتضحية, فما أحلى أن نورد للواوي الدمشقي قوله:
أنيسة لو رأتها الشمس مـا طلعت = من بعـد رؤيتها يوما على أحد
سألتـها الوصل قالت لا تغر بـنا = من رام منـا وصالاً مات بالكمد
فكم قتـيل لنـا بالحب مات جوى = من الغرام ولم يبـدئ ولم يعد
واسترجعت سألت عنى فقـيل لها = ما فيـه من رمق, دقت يداً بيد
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت = وردا علــــى العنــاب بالــبـــرد
وأنشــــــدت بلسـان الحال قائـــلة = من غير كـره ولا مطل ولا مدد
والله ما حزنـت أخت لفــــــقـد أخ = حزنـــــي عليـه ولا أم على ولد
وإذا ما أطلقنا العنان للذاكرة, فإن الأمر يطول والقول يجر أقوالاً, وأتمنى أن يمتد بي العمر فأتمكن من جمع مختاراتي كاملة غير منقوصة في كتاب يكون في متناول يد القراء, وإن بدأ يُغني الكمبيوتر والإنترنت عن الكتب وطويل البحث والاستقصاء, وأكتفي أخيراً بقول أبي البقاء الرُندي:
لكل شيء إذا ما تــم نقصــان = فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول = من سره زمن ساءته أزمان
ــــــ
أحد فصول كتابى ( ليالى الاغتراب بالتراي ستار - ج1)
حسن إبراهيم حسن الأفندي