كِبْرٌ ما هُمْ ببالِغـيه !
هو خلق ذميم كانت الذرّة منه كفيلة إذا ما تسلّلت إلى قلب صاحبها بأن تصرعه وترديه مهما أوتي من بسطة في العلم والجسم ، أو سعة من المال ووفرة من الجاه والسلطان ! إنه الكِبْر ذاك الخلق المذؤوم ، والخََـلَّة المُردية ، التي قال عنها النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه : ( لا يدخل الجنة أحدٌ في قلبه مثقال ذرة من كبر )
والكبر هو : ( استعظامُ النفسِ ورؤية قدرها فوق قدر الآخرين )
والكبر يفضي بصاحبه إلى بَطَر الحق أي ردّه والتعالي عليه ، وإلى غمْط الناس أي ازدراءهم وانتقاصهم !
وبهذا صار الكبرحجاباً دون الجنان ، لأنه يحجب صاحبه عن هداية الرّحمن ، كما يحجبه عن التخلّق بأخلاق المهتدين ، لذا قال عزّ وجل : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق } ( الأعراف 146)
وكفى بالكبر جرماً أنه أولُ ذنب عُصي به الله تعالى , فلمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا : ( إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين )
( البقرة 34) فالكبر إذن خصلة إبليسيّة مقيتة ، من تورّط به فقد جارى إبليس في صفة من صفاته .
كما حجب الكبر أقواماً عن الإيمان بالله تعالى ، والإذعان للحقائق الشاخصة الماثلة ، فقوم نوح يقولون له : ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون )
( الشعراء 111) يقصدون ضعفاء الناس وفقراءهم ، وكذا قايض ساسة قريش وزعاماتها إيمانهم بطرد النبي – صلى الله عليه وسلم - لفقراء المسلمين وضعفائهم فكان جواب ربّ العالمين { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه } ( الأنعام 52)
واقترن الكبر والعلو بالفساد : فالكبر يورث العلوّ ، والعلوّ يسوق إلى الفساد في الأرض ، وعليه :
فمن الناس من اتخذ العلو سبيلا للفساد كفرعون : ( إنّ فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ) ( القصص 4 )
ومنهم من اتخذ الفساد سبيلاً للعلو كاليهود : ( لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوّا كبيرا ) ( الإسراء 4 ) وكلّ من الفساد والعلوّ خصلتان مذمومتان مشؤومتان موصّدة دونهما أبواب الجنان ، قال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين }
( القصص83)
في ضوء ذلك : أشعرت السنن الرّبانية بانقلاب حال المتكبّر ومجازاته بنقيض مقصوده و بضدّ أهدافه ؛ وعليه : فكلّ من آتاه الله تعالى مالاً ، أو حباه جاهاً ، أو بوّأه مقاماً ، أو أورثه سلطاناً أو أنزله منزلاً فتكبّر به على الله تعالى أو شرعه أو نبيّه أو خلقه كان عُرضة لأن تتناوشه وتطاله ثلاثُ عقوبات دنيوية فضلا عن الأخروية ، هذه العقوبات جرت في ربوع المتكبّرين مجرى السنن الإلهيّة والقوانين الرّبّانيّة التي لا تتخلف ولا تحيد :
أولاها : إخراجه وتجريده من تلك الحال !
ثانيها : تصغير حاله !
ثالثها : تعذيبه بمآله الذي آل إليه !
فهذا إبليس حينما قال مستكبراً مستنكرا عن السجود مستنكفا: ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ( الأعراف 12) و قال: ( أأسجد لمن خلقت طينا ) ( الإسراء 61) كانت عاقبته:
أولاً : إخراجه وتجريده من تلك الحال { فأخرج منها فإنك رجيم }( ص77 ) أخرجه الله تعالى من زمرة الملائكة التي رفع إليه ، ومن الجنان التي فتحت له أبوابها !
ثانياً : تصغير حاله : { فاخرج إنك من الصاغرين } ( الأعراف 13)
ثالثاً : تعذيبه بمآله الذي آل إليه : { وإنّ عليك اللعنة إلى يوم الدين }( الحجر35)
فكبر إبليس كبر نفسيّ ، فمن اختزن في نفسه الكبر النفسيّ فمَثلُُهُ مَثلُ إبليس في حاله ومآله !
وهذا فرعون قد مسّته نفخة الكبر السياسيّ ؛ كبْر الجاه والملك والسلطان السياسيّ ، فها هو يقول لرعيّته { ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرّشاد }( غافر29 ) فلا رؤية سياسية إلا رؤيته ولا مشروع إلا مشروعه ، وبلغ به الأمر أن ينازع الله تعالى في ربوبيته فقال ( أنا ربكم الأعلى ) ( النازعات 24 ) ثم نازع الله تعالى في ألوهيّته فقال ( يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري ) ( القصص 38) وبلغ به الاغترار بالجاه والسلطان أن يقول : { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين } ( الزخرف 51،52) ) فكانت عاقبته :
أولا : تجريده من ذلك كلّه { فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل } ( الشعراء 57-60 )
ثانياً : تصغير حاله : فقال تعالى بحقّ فرعون وجنده وسحرته { فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } ( الأعراف 119 )
ثالثها : تعذيبه بمآله الذي آل إليه ؛ فقد قال حين مسته نفخة الكبر ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي ) فأجراها الله من فوقه وهو غريق !
{ فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليمّ ما غشيهم وأضلّ فرعون قومه وما هدى } ( طه 78 )
فكبر فرعون كبر المُلْك والجاه والسلطان السياسيّ ، فمن اختزن في نفسه كبر المُلْك والجاه والسلطان السياسيّ فمَثلُه مَثل فرعون في حاله ومآله !
وعلى هذه الشاكلة درج يهود ؛ فتكبّروا كِبْر البغي والاستطالة والعدوان ، بغو وطغوا واستطالوا على حرمات البلاد ورقاب العباد فلم يسلم منهم البشر ولا الشجر ولا الحجر ، فقالوا بلسان الكبر { نحن أبناء الله وأحباؤه } ( المائدة 18 ) { وقالوا ليس علينا في الأمّيين سبيل } ( آل عمرا ن 75 ) يعنون بالأمّيّين أمّة العرب ، فليس دونهم حرمات ولا مواثيق ولا عهود ولا وعود فهم يستحلّون ذلك كلّه بلا حسيب ولا رقيب .. فكان أن جرت عليهم تلكم السنة الرّبانيّة والقانون الإلهيّ :
فجرّدهم الله تعالى من ذلك كلّه: سحبت منهم النبوّة وميراثها التليد ، فقد كانوا يستفتحون على أمّة العرب بنبيّ منهم يظهر في آخر الزّمان ولسوف يؤمنون به ويتبعونه وينصرونه ويقاتلون به أمّة العرب { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم، فلمّا جاءهم نذير ) ( فاطر 42 ) لكنه ليس من بني إسرائيل بل من أمّة العرب إنه محمّد – صلى الله عليه وسلم – فعندها ( ما زادهم إلا نفورا استكباراً في الأرض ومكر السيّء } (فاطر 42) قد جرّدهم الحقّ ممّا كانوا به يتكبّرون على الخلْق ، من شرف النبوّة ومجدها التليد !
ثمّ صغّر اللهُ حالهم { وضربت عليهم الذلّة والمسكنة } ( البقرة 61 )
ثمّ عذّبهم الله تعالى بمآلهم الذي آلوا إليه : { وباءوا بغضب من الله } ( البقرة 61 ) ، { وإذ تأذّن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } (الأعراف 167) فليبعثنّ الله تعالى عليهم من يجرّعهم الغصّات ، ومرارة الهزائم ! ليصير بذا بغيهم إلى انخزال وانخذال وانهزام !
فكبر يهود كبر البغي والاستطالة والعدوان، فمن اختزن في نفسه كبر البغي والعدوان والاستطالة على رقاب العباد فمَثلُه مَثل يهود في حالهم ومآلهم !
ومن بغي يهود وعدوانهم المتجدّد : استطالتهم على المسجد الأقصى المبارك ، وإصرارهم على تدنيس حرمته مرّة تلو أخرى ، على مسمع ومرأى من العالم أجمع ، وأمّة العرب والإسلام لاهية قلوبها ، شاخصةً أبصارها ، تقاصرت ألسنتهم حتى عن التنديد ، كما قصرت أيديهم عن الذود عن حمى فلسطين ومجدها التليد ، فتركوا أهل فلسطين وحدهم في مقارعة عدوّها وعدوّهم !
كما هم يتركون الآن أهلنا في الشام كلأ مباحاً لكلّ سائمة سوء ترتع في ربوعهم ، وتولغ في دمائهم ، وتستبيح حرماتهم ، وتستحل ّ بيضتهم ، وتثب على أموالهم وأعراضهم وخيرات بلادهم بلا حسيب ولا رقيب ، ولا نصير لهم ولا مجير ولا مجيب ... والله المستعان على ما مسّ أهل فلسطين والشام من بغي وظلم وعدوان وخذلان !
وبعد : فقد توعّد الله المستكبرين وقوى البغي والاستكبار العالميّ في كل وقت وحين ، بسنة نفسية جارية تطاردهم وتلاحقهم : ( إنّ الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) (غافر 56) إن ْفي صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأنّ الله تعالى مذلهم ، و ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر وليسوا بمدركيه ولا نائليه ؛ فلن يبلغوا الارتفاع الذي أمّلوه بالكبر ، فلن يبلغوا بالكبر مآربهم ، ولن يحققوا أغراضهم ! فالمتكبّرون الباغون هم أصغر وأضأل من هذا الكبر الذي يحيك في صدورهم
وعليه : فما متكبّرو هذا الزمان الآخِرين من قوى البغي والاستكبار العالميّ الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ ، ويثبون على حرمات الشعوب ، ويستحلّون دماءهم وأعراضهم وأموالهم وديارهم ، ويدنّسون مقدّساتهم ويبذرون بذور الفتنة والفرقة فيما بينهم ، ليسوا بخير من أولئكم الغابرين ، فسيحيق بهم ما حاق بأسلافهم ، وسيفعل بهم ما فعل بأشياعهم من قبل ، إنهم كانوا في شك مريب ، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار !!
( ويستنبئونك أحقّ هو ؟ قل إي وربّي إنه لحقّ وما أنتم بمعجزين ) ( يونس 53) .
وختاماً : ( فارتقبهم واصطبر ) ( القمر 27 )