المقاومة مشروع استشهادي
سوسن البرغوتي
ما أن وقعت جريمة اغتيال الشهيد المحبوح النكراء، حتى تجندت الأقلام الإعلامية الوطنية، للرد على حفنة من الأقلام الساقطة الساعية إلى تشويه الصورة الناصعة للشهيد، بالاعتماد على خبر ملغوم تناقلته الصحافة "الإسرائيلية"، مفاده (أن امرأة أوقعت الشهيد في الفخ، كونها طرقت باب غرفته)، وهذه الإشارة الخبيثة افتعلتها الصحافة "الإسرائيلية" عن عمد لاستبعاد تواجد القتلة في الغرفة، وذلك في تمويه واضح لبصمات المتورطين بالجريمة.
إن ما ذكرته الصحافة الصهيونية عن المرأة، يحدث في كل فنادق العالم، حيث تبحث بنات الهوى عن زبائن، ولكن الواضح والثابت حتى الساعة، أن القتلة كانوا داخل الغرفة، ولم يدخلوها من بابها بعد دخول الشهيد، وإلا لقاوم أو صرخ، والفندق عامر، وليس بمكان نائي، فضلاً عن نفي نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، موسى أبو مرزوق ما تردد من أن المبحوح كان في مدينة دبي من دون احتياطات أمنية، مؤكداً أن (الحماية كانت متوافرة له). كما أضاف القيادي أسامة حمدان في حركة حماس، حول استهجان البعض من عدم توفر الحماية الشخصية والأمنية للمبحوح، أن (هذه تحليلات، وهم لا يعرفون تفاصيل الأمور ونحن لسنا بصدد الحديث عن هذه التفاصيل، لأن هذا جزء من الأداء الذي ربما يحرص الصهاينة على معرفته). إذن لمجرد فتح الباب سيثير شكوك الحماية الأمنية.
التصريح الآخر الذي أدلى به قائد عام شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان تميم، لم يستبعد ضلوع الموساد في عملية الاغتيال، على الرغم من أن القتلة يحملون جوازات سفر أوروبية، وكشف عن أن (طبيعة نشاط القيادي المبحوح في دبي كانت تجارية بحتة، ولا علاقة لها بأسلحة أو ما شابه، واصفاً الأصوات "الإسرائيلية" التي قالت:" إنه كان يذهب إلى دبي للقاء شخصيات إيرانية"، بالكاذبة والسخيفة، معللاً: لو أراد المبحوح لقاء إيرانيين كان بإمكانه لقاءهم في سورية، وهذا سهل لأنه لا صعوبة في زيارة الإيرانيين إلى سورية، ودخول الإيرانيين إلى دبي ليس بهذه السهولة، أو ربما كان بإمكانه زيارة إيران؛ فلماذا يلتقيهم في دبي؟.. لذلك هذا ادعاء باطل وكاذب).
لا شك أن الحلقة الوحيدة الغامضة بالتصريح، الإشارة إلى أن الزيارة كانت تجارية بحتة، وربما جاءت لدواعي أمنية إلى حين استكمال التحريات والتحقيقات، لم يشأ مدير الشرطة العام الكشف عن أسباب الزيارة، مع العلم أن معظم نزلاء فندق البستان روتانا، هم من المارين مؤقتاً إلى جهة أخرى، وأغلب الظن أن وجهة الشهيد كانت مدينة عربية أخرى، قد تكون لطلب تقديم العون المادي والمعنوي للشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع، وللمرابطين الصامدين في القدس تحديداً، كونها مدينة مقدسة تخصّ كلّ العرب والمسلمين في العالم، أو للتباحث حول ما آلت إليه القضية الفلسطينية من محنة قاتلة، وليست مجرد أزمة عابرة.
وبالربط بين التصريحات، فإن كل الأدلة تشير إلى ضلوع الموساد بشكل مباشر بالجريمة النكراء، والمستفيدين من اغتيال قائد بوزن محمود المحبوح، بصرف النظر عن الأدوات التي نفذت الجريمة، سواء أكانت مافيا غربية مأجورة أو شركة (البلاك ووتر) الأمنية، أو "دود البلاء منا وفينا".
على أي حال، ما حدث قد حدث، ووقعت الواقعة، إلا أن من الضرورة بمكان، الإشارة إلى رسائل "إسرائيلية"، أهمها:
أولاً ـ أن لها اليد الطولى في كل المدن العربية الممانعة والمعتدلة على حد سواء، ولعل اغتيال القائد مغنية في دمشق، وبعده بفترة وجيزة اغتيال العميد محمد سليمان، وكذلك محاولة اغتيال القيادي أسامة حمدان قبل شهر ونيف، واستشهاد عنصرين وجرح آخرين، يثبت ذلك.
ثانياً ـ إن "إسرائيل" تخوض حرب الاغتيالات والغارات على القطاع، وملاحقة المقاومين في الضفة والقدس المحتلة، وبتبادل الأدوار مع سلطة محمية رام الله، وتستطيع أن تصل لهم أينما كانوا، فلماذا تشن اعتداء همجي وسافر آخر، وهي تحقق مكتسبات وانجازات دون مواجهة الرأي العام العالمي، وكشف المزيد عن حقيقة هذا الاحتلال الإلغائي الاستيطاني؟..
أو كما ذكر أحد الكتاب الأفاضل، إن "إسرائيل" وجهت رسالة إلى حماس، بالضغط عليها، لتخفيض سقف شروطها في ملف صفقة التبادل، وملف التهدئة، وإيصال رسالة إلى قيادة الخارج أن الموساد يستطيع أن يصل إلى معاقلكم متى شاء.
فليكن.. بالمقابل تستطيع حماس أن تعكس الصورة، بحيث يتم رفع سقف شروط المقاومة، وإمهال قيادات الصهاينة أيام معدودات، لتنفيذ صفقة إطلاق الأسرى، فشاليط ليس أغلى ولا أعز من أسرانا وشهدائنا، وأخيراً وليس آخراً، الشهيد المبحوح. فالتحقيقات الأولية، والإعلام الصهيوني، يؤكد على الأقل تخطيط الإرهابيين الأوائل، وهذه ليست أول جريمة لهم، وقد أتت قافلة الرضوان، كثمرة من أوراق الضغط على "إسرائيل" بعد اغتيال الشهيدين مغنية وسليمان، فلتكن قافلة الفرقان متوجة باسم الشهيد محمود المبحوح، ولن نعدم الأمل والوسائل.
الأمر الذي يجهله الصهاينة، أن المقاومين مشاريع شهداء، وكل الجبهات المقاومة العربية قادرة على إعادة بناء كوادرها وتجديد عناصرها وقياداتها السياسية والميدانية بسرعة تفوق تصورهم المريض بالترهيب والتخويف، إلا أن ما يدمي القلب فعلاً، أن المدن العربية أصبحت مستباحة استخباراتياً صهيونياً، هذا وقبل الشروع بالتطبيع الرسمي العلني، فما بالك إن تحقق لـ "إسرائيل" ما تسعى إليه وفق ما يُسمى المبادرة العربية، ودون شروط من قبل العرب الجانحة لـ "السلام العادل والشامل".
في الوقت ذاته نبه الكثيرون من الكتاب والإعلاميين، على ضرورة توخي الحذر والحرص من جميع القيادات السياسية والعسكرية، والإقلال من التحرك في هذه الآونة، لتفويت الفرصة على الموساد وأذرعه أياً كانت للاستمرار في مخطط الاغتيالات، مع ابتداع وسائل مقاومة كالبراميل المفخخة، وغيرها التي لن تعجز الأدمغة العملاقة عنها، كي تشيع الخوف والقلق للعدو. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أذكر قصة روتها لي أخت من رام الله المحتلة أثناء الانتفاضة الأولى، أن مجموعة أطفال وضعوا قطة في علبة، ورموها بجانب دورية عسكرية، فأثارت الرعب لديهم، عندما تحركت القطة، وأتوا بخبراء التفخيخات واستنفروا أجهزتهم بسبب قطة!.
لم يعد خافياً أن الصهاينة جبناء لأنهم يدركون أن لا حق لهم وأنهم غزاة ومغتصبون ومحتلون، لذلك فإن أي حركة تثير هواجس الخوف لديهم، هو أمر مطلوب، ونحن بحاجة لإشغالهم عن أمور أخرى يعملون عليها لتصعيد فرص المواجهة وتثبيت احتلالهم، ومساعيهم للقضاء على ثقافتنا وقضيتنا.
إن هذا السلوك المقاوم يهدف إلى عدم إتاحة وقت للعدو للتفكير والاستمرار بحرب الاغتيالات، وبالتالي إرباكه، وستجد "إسرائيل" نفسها محاصرة، فلا هي قادرة على شن اعتداء على القطاع، ولا العدوان على لبنان كدولة، وكذلك على سورية، ونحن نتابع تهديداتهم اليومية، وهذا يعني أن لا حل لإنهاك قوة العدو وقدراته إلا بحرب العصابات داخل الأرض المحتلة، لتحقيق توازن الردع.