بعدَ أن انتهى هو وزوجته من رسمِ ملامحِ المستقبلِ الزاهرِ الذي يخططانِ له وبعد خروجهما من ذلك البيت الوهمي الذي طالما حلما بامتلاكه وتلك السيارةِ الصغيرةِ التي يركبانها دوماً في أحلامهمِ الوردية.
كعادته يومياً وقبلَ الخلودِ إلى الفراشِ قامَ وصلى ركعتينِ شكراً لله تعالى الذي أنعمَ عليه بتلك الوظيفةِ التي مضى على عملهِ بها عامُ كامل، ذهب إلى فراشه مبتسماً يخفي عن زوجته مفاجأةً سيخربها بها صباحاً بعد أن أخبرها أنَّ يومَ غدٍ سيكون يومَ إجازةٍ له من العملِ وكان يضمر في باله أن يصطحبها للغداء في مطعم فاخرٍ احتفالاً بمضي عامٍ على عمله بتلك الوظيفة.
وفي الصباحِ وعلى غيرِ العادةِ استيقظَ على صوتِ هاتفه الخلوي لا على صوتِ المنبهِ الذي اعتادَ أنْ يستيقظَ عليهِ، نظرَ إلى هاتفهِ فإذا برقمِ المؤسسةِ التي يعملُ بها:
-ألو .... وعليكم السلام ... إن شاء الله سآتي حالاً.
-إلى أين ستذهب وهذا يومُ إجازتكَ...؟
- المدير يطلني في أمرٍ هامٍ جداً.
قام وارتدى ملابسَه مسرعاً وباله مشغولٌ بهذا الاستدعاء المفاجئِ والذي لم تفصح عن تفاصيلهِ السكرتيرة رغم إلحاحه عليها كي تخبره ما الأمر، فخرجَ مسرعاً ناسياً أو متناسياً وجبة الإفطارِ وابتسامةِ الوداعِ التي اعتاد أن يفارق زوجته عليها عندَ بابِ الشقة.
وصل إلى مكانِ عمله بعدَ أن عانى زحمةَ المواصلاتِ ودخلَ إلى المؤسسةِ مسرعاً دون أن يلقي التحيةَ على زملاءه حتى وصل إلى مكتب المدير:
-السلام عليكم كيف حالك؟ خاطب السكرتيرة راجياً إياها أن تفصحَ له عن سببِ هذا الاستدعاء الهامّ وطلب منها الإذن بالجلوسِ فطلبت له فنجان قهوةٍ حتى يريحَ أعصابه وبعد أن شربه كأنّه كأس ماءٍ بادر في يوم حار، قام وطرق الباب على المدير ودخل وسلم وجلس وبدأ الحديثُ بينهما عن الأمور العامة وأحوال الطقسِ وارتفاع الأسعار وهو يقول في نفسه( هيا ما الذي تريده مني)
-أنت موظفٌ نشيطٌ وخلوقٌ وتؤدي عملكَ ببراعة.
-شكراً سيدي أنا على أقوم إلا بما يمليه عليَّ ضميري وواجبي حتى أرضي الله عز وجل وأرضي نفسي وأُحَلِلَ قرشي.
-أنت تعلم أننا نعيش أزمةً ماليةً خانقةً في المؤسسةِ ولقد قمنا نتجيةً لذلك ببعض التعديلاتِ فأتمنى عليكَ أن تقدِّرَ موقفنا وتتفهم الصورة بروح رياضةٍ عاليةٍ كما هي أخلاقك، فلقد استغنينا عن جهودك في المؤسسةِ في هذا اليومِ وسيكون هذا هو آخرُ يومٍ لك في العملِ والآن اذهب إلى السكرتيرةِ لتعرف حقوقكَ وتأخذها.
فخرجَ صامتاً وكأنَّ على رأسه الطير لا يدري ماذا يقول، وإذا بشريط أحلامهِ يمر سريعاً أمامَ عينيهِ ليراه يبدأ في التحطم، وتذكر تلك المفاجأةِ التي خبأها عن زوجتهِ وقد تحولت إلى خبرٍ سيءٍ فتنهدَ قليلاً وابتلع ريقهُ وابتسمَ ابتسامةً حزينةً بعد أن اغرورقت عيناه وقال رحمكَ الله يا أبي أورثتني هذه المقولة

( ابن الغني بطلع غني وابن الفقير بضل فقير).