الكاتب البلجيكي مارك بيرون (Marc Pairon) سيرته وأعماله.
الكاتب البلجيكي مارك بيرون (Marc Pairon)
سيرته وأعماله


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

بقلم : د. عبد الرحمن السليمان


ستصدر ضمن "مطبوعات الجمعية الدولية لمترجمي العربية باللغة العربية"، الترجمة العربية لرواية (ألعاب الأولاد) للأديب البلجيكي مارك بيرون، وكذلك لمختارات من أشعاره منتقاة من دواوينه الأربعة. لذلك ننتهز هذه المناسبة للتعريف بالأديب والشاعر البلجيكي مارك بيرون، وبأعماله، ونتوقف قليلا عند نصوصه المترجمة إلى العربية.

ولد الأديب والشاعر البلجيكي مارك بيرون في مدينة أنتورب في بلجيكا في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1959. ونتيجة لظروف أسرية صعبة توقف عن الدراسة وهو في سن الخامسة عشرة، فقضى سنوات صباه شبه متسول في أوربا. وكان وقتها - في أثناء زياراته القليلة إلى بلجيكا – يتكسب قوته من بيع النصوص الشعرية المكتوبة بقلم الرصاص في مقاهي مدينة أنتورب. وهكذا لفت أسلوبه الشخصي الخاص الشاعر المعروف بول سمولدرن (Paul Smolderen) الذي قدم الشاعرَ المشهورَ نيقولا فان بروغن (Nikolaas van Bruggen) ومجموعة "شعراء البينك". (1)

في سنة 1981 أصدر له الناشر البلجيكي والتر سوتهاوت (Walter Soethoudt) ديوانه الأول "شظايا" الذي استقبله الجمهور استقبالا طيبًا، فقدمه الشاعر نيقولا فان بروغن للجمهور، ووصفه وقتها بقوله: "إن مارك بيرون يكتب الشعر وهو يبدو وكأنه يمتطي صهوة بيخاسوس (2) يجوب به آفاق الحب".

ثم بعد نصف سنة أصدر ديوانه الثاني "غسل الجوارب".

على الرغم من أن الجمهور استقبل ديواني مارك بيرون استقبالا طيبًا، وعلى الرغم من النقد الإيجابي لشعره الجريء، فإنه اعتبر مسيرته الشعرية بأنها محاولات متواضعة وصلت إلى نهايتها، فتوقف عن كتابة الشعر ليستغل موهبته الإبداعية في عالم الاقتصاد الفني، وبالتحديد في الاتجار بالأعمال الفنية.

إلى جانب الشعر مارس مارك أيضًا كتابة القصة القصيرة والرواية. ففي سنة 1987 أصدر مارك بيرون مجموعة قصص سوريالية بعنوان "موقف بشأن النزعات المِثْلِية لفرس البحر في أمواج جبل طارق الباردة"، وهي مجموعة قصص قصيرة جدًا حول آلام الفراق. وقد أدّى هذه النصوص إلقاءً وتمثيلاً ثمانين مرة، ففتح أداؤه المسرحي المجنون لعمله هذا أبواب المسارح البلجيكية والهولندية والمهرجانات الأدبية المختلفة له على مصراعيها، وسرعان ما اشتهر في العالم المسرحي والأدبي البلجيكي والهولندي، وأصبح ضيفًا حاضرًا في معظم المهرجانات الأدبية والفنية الموسمية.

وفي سنة 2006 كانت روايته الرائعة (ألعاب الأولاد) وهي قصة تدور أحداثها في مدينة كبيرة من مدن فلاندرز، وهي المقاطعة الناطقة باللغة الهولندية في بلجيكا. تسرد الرواية قصة زوجين أنجبا عددًا كبيرًا من الأولاد والبنات، ثم شاخا وتعرضا لمرض عضال، فقاوما المرض حتى توفيا معا دون كثير اهتمام من أبنائهما وبناتهما الذين اقترحوا عليهما – تلميحًا لا تصريحًا – أن ينهيا حياتيهما بالموت الرحيم، وذلك بسبب انعدام الوقت للاهتمام بأبويهم .. وتنتقد الرواية بطريقة ضمنية انتشار الحياة المادية والعقلية الفردية لدى الأسر الغربية بشكل عام، وتعالج ظاهرة اليأس من الأمراض الفتاكة وسرعة الدعوة إلى إعمال الموت الرحيم في الحالات الطبية الميئوس منها .. وقد نجح الكاتب مارك بيرون في هذه الرواية نجاحًا منقطع النظير في تشويق القارئ وشده إلى قراءة الرواية مرة واحدة لما اجتمع فيها من عناصر تشويق يمتزج الحب فيها بالحزن والخيبة - خيبة الأمل.

النوع الأدبي الثالث الذي مارسه الكاتب بنجاح منقطع النظير هو الأمثال والحكم الحياتية العامة. ويشرح الكاتب في مقدمة كتابه الذي يحتوي على حوالي ألف حكمة من وضعه بقوله: "إذا كان الناس في المستقبل سيقتصرون على الاقتباس من كلامي، فلأقتصر من الآن على الجوهر". والحكم التي وضعها هي نصوص صغيرة مكونة من خمس إلى عشر كلمات، ولا يمكن اختزالها عند اقتباسها. ويمكن تمييز نوعين منها: نوع جذوره في الحكمة الإنسانية العامة التي يعكسها على الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ونوع ثقافي الجذور بمعنى أنه تحوير لأمثال موجودة في الثقافتين البلجيكية والإنسانية بطريقة تتلاءم مع فلسفته- كما فعل جبران خليل جبران عندما حوّر بعض الأمثال الموجودة في الثقافتين العربية والإنسانية أيضا بطريقة تتلاءم مع فلسفته هو الآخر، فقال: "عصفور على الشجرة خير من عشرة في اليد" ردًا على المثل الشهير "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة". وقد مارس مارك بيرون هذا النوع من التحوير للأمثال والحكم كثيرًا، وفي الوقت نفسه وضع حكمًا جديدة كثيرة منها:

ليست الألمعية أن تكون محبًا، بل الألمعية أن تبقى محبًا.
تكذب النساء صنعةً .. ويكذب الرجال سليقةً!
من يتكلم في نومه، لا يسيطر على كذبه!
كلما زاد شكك، كلما ترسَّخ إيمانك!
المؤمن الذي يبهرج الكافر، لم يفهم شيئًا من إيمانه!
من يدعِ الحقيقة، يعد مستمعيه بالكذب!
عندما يفهم الرجل ما تقوله المرأة، فإنه لم يفهم شيئًا!
من يصمت يعرف ماذا يفعل!
من يدافع عن الإجهاض، فعليه أن يقدم القدوة أولاً!
عاملها سيدةً، تتوجْك ملكًا!

إن بعض الحكم الموضوعة له علاقة مباشرة بالثقافة الغربية الآنية التي يعايشها ـ مثلاً: "من يدافع عن الإجهاض، فعليه أن يقدم القدوة أولاً"، فإن هذا القول صدى للنقاش الاجتماعي في بلجيكا بخصوص شرعية الإجهاض وتقنينه –، وهذا من شأنه أن يقرب بين المرسل والمتلقي في فهم النص واستيعابه. (3)

في سنة 1994 نشر ديوان شعر جديد بعنوان "مائة ملاحظة على هامش ليلة غير متوقعة"، ولم تكن هذه المجموعة الشعرية شعرًا تقليديًا، بل هي قطع غنائية وكأنها تلغرامات ملحنة للغناء.

غير أن مارك مر بمرحلة من التوقف عن الكتابة – بين 1985 و1991 – فبدأ خلالها يعمل في مجال الإدارة الفنية الدولية، وأدار شؤون بعض الفنانين الكبار، ومنهم الفنان التشكيلي الفرنسي باتريك ريناود (Patrick Raynaud)، ونظم معارضهم الدولية في الفترة الممتدة من سنة 1985 إلى سنة 2006، وأشرف على إدارتها.

أصدر في سنة 2006 كتاب (Art Deco Ceramics - Made in Belgium)، وهو كتاب مميز يؤرخ لفن السراميك، فصدر بحجم كبير بثلاث لغات، حيث يعتبر أفضل كتاب في نوعه، إذ أن مارك أصبح خبيرًا في فن السراميك، وعالج في هذا الكتابة مجموعة من أعظم أعمال فن السيراميك بلجيكا.

في سنة 2008 استأنف مارك بيرون الكتابة الأدبية. ويبدو أنه كان يؤجل استنئاف الكتابة الشعرية حتى بلوغه سن الخمسين من العمر، إذ أصدر سنة 2009 أربعة دواوين شعرية معًا، وقد لاقت رواجًا كبيرًا في بلجيكا لجمالها وجرأتها اللغوية والموضوعية، ذلك لأنها تدور حول العلاقة بين الجنسين وخصوصيتها. (4) ولكن بساطة اللغة ووضوح المعاني جعلا من شعر مارك بيرون شعرًا سهلا ممتنعًا كتب له رواج، حتى اعتبر أكثر الشعراء الفلمنكيين ـ وهم البلجيكيون الناطقون بالهولندية ـ قراءة في بلجيكا. وتبدو بساطة لغته الشعرية جليةً من القطعة التالية:

ليست كتابةُ شعر الغزل،
إلا حكَّ الورق عندما يَخِزُ الجلدُ؛
فيستفحلُ الداءُ،
ويستحيلُ عياءً.

هنا نجده ينأى بنفسه عن الترميز والتشفير، ويكتب قصائده بلغة سهلة واضحة تصويرية، كما نشاهد هذا البوح ، وهذا التصوير الغنائي فيما يلي:

منذ وقت قصير
خبأتك عندي
في
أوراق
لعبتي
سرّا.

أليس سحرا؟
أن نعشق
دون نزوات؟
أن نرفرف
دون أجنحة؟
أن نجرح أنفسنا
دون شظايا؟

أليس سحرا؟
أن نكون؟

فاللغة سهلة الأداء والتوصيل، وفيها مشاركة المتلقي، وكأنه مدعو للإجابة عن السؤال، بل ننتظر منه أن يجيب. وهذا "التبسيط" أو البوح أوصل الشاعر إلى أكبر عدد ممكن من القراء، وهو - بالضبط ومن جهة أخرى - ما عرّض الكاتب لنقد شديد، وذلك بسبب تيسير لغته، ووضوح طرحه، ومباشرته المعاني بحسية مطلقة.

يتبع ...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحواشي:

(1) شعراء البينك (Pink Poets): مدرسة شعرية في الشعر الهولندي أسسها في مدينة أنتورب البلجيكية الشاعر نيقولا فان بروغن (Nikolaas van Bruggen). أهم ما يميز هذه المدرسة الاهتمام الكبير ببديع اللغة وأساليبها الفنية من جهة، ونمط الحياة "النؤاسي" من جهة أخرى، حتى كأنهم يبدون وكأنهم نطفة من أبي نؤاس آتت أكلها في بلجيكا!
(2) بيخاسوس (Pegasus): حصان أسطوري ذو جناحين لعب دورا كبيرا في الأساطير اليونانية التي تعتبره "مطية للشعراء". وتذهب الأسطورة اليونانية إلى أنه ضرب بحافره الأرض التي تقيم فيها إلهات الإلهام الشعري وهواتفه التسع ("الموزات"/Muses) فابثقت منها عين صافية يلهم كل من يشرب منها بقرض الشعر.
(3) هذا المثل يذكرنا بالآية الكريمة: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" . أو بالمثل الشعبي الشامي: "قبل ما تقول كش اكسر إجرها"، وبقول الشاعر الدؤلي: "ابدأ بنفسك وانهها عن غيها === فإذا انتهت عنه فأنت حكيم". ويلاحظ الدارس أن هناك أمثالاً تتصادى وتتقاطع مع الثقافة العربية، وهذا موضوع دراسة مستقل.

تتمة المقالة:


إن القارئ الذي يقرأ هذه الترجمة العربية لقصائد الشاعر سيجد في أشعار نزار قباني الكثير مما هو مشترك، فهذا نزار الذي يقول:

"إني خيرتك فاختاري
ما بينَ الموتِ على صدري..
أو فوقَ دفاترِ أشعاري..
اختاري الحبَّ.. أو اللاحبَّ
فجُبنٌ ألا تختاري..
لا توجدُ منطقةٌ وسطى ما بينَ الجنّةِ والنار"

لكن التخيير لدى مارك في الحب نفسه، وليس بين الحب واللاحب كما هو في شعر نزار، ولنقرأ:

لك أن تختاري ...
لك أن تختاري
كيف أحييك
كيف أقبلك
لأن شفاهك تكفيني
لبسمات
حين أقبلك.

لك أن تختاري
أين أريح ذراعي
حولك
- كشجيرة تلتهب
عندما نتحول
إلى مآلنا حيث لا مكان للصدفة -
حتى تنطقين باسمك "يا أعز عزيز".

لك أن تختاري
متى تمسحين أنسجتي
فجأة
وتبعثرين كياني
في ما لا ينتهي
في الكون الأكبر.

لك أن تختاري
كيف أقدم حبي لك
بين اندفاع عاشق
أو الحذر.

بالطبع فإن كل خيار لديها سيبعث فيه النشوة والرعشة ومزيدًا من التعلق بها، والحيرة هي لديه: هل يقدم حبه لها بجنون عاشق واندفاعه أم أنه سيكون حذرًا، وباختصار عليه أن يختار تبعًا لاختيارها المعمق للحب في كل تجلياته بين: الحذر أو اللاحذر. إن المتلقي يعايش هذه الصور والتصورات، وخاصة ذلك الذي وقع في التجربة، فأراد أن يلامس واقعها من خلال ملامسة الآخر الذي يعبر عنه وينطلق بهيامه.

في القصيدة التالية سنجد مثل هذا التوجه في الانتقال من الجملة الخبرية إلى الإنشائية، يتخلل ذلك وصف رومانسي، فالليلة الصفية السراء، والسماء الرمادية الكحلاء هي أوصاف رسام، أو قل إنها في عين الكاميرا مناظر حزينة يتوقف عليه المشاهد، وكم بالحري سيتساءل لماذا هذه العصافير الغريدة قد وجمت، ولماذا توقف النسيم عن هبوبه؟ صور الأسى مربدة ومشاركة للطبيعة في تعثر هذا الحب العميق الذي لن ينساه، فكيف يجب عليه النسيان؟ كيف يمكن أن ينسى الحب؟

حدثيني!
كم تقصُر الأيام وتنهك
قبل أن أنطق حال الجنون!

ليلة صفية سرّاء
بسماء رمادية كالحة.

كعصافير غرّيدة
أَُرتِج عليها ..خرست
والنسمة الصبا قد أَقعِدت
بحــِمالها ثقلى خفيت.

حدثيني
حين أتعثر بغيابك
إذ تلاحقني أسهم الظلم
ثم يغيب عني التعثر
فلا يكون إلا غيابك
وراء دروع
القصائد الموتى.

حدثيني
كيف يجب علي النسيان؟
بسحبة قلم واحدة وحيدة:
من تعلم حبًا يَـــنسَـه.
من تعلم حبك .. يُنسَ.

وفي قراءتنا لقصيدة "كآبة" – أدناه- فإننا نجد مثل هذا التشاؤم، وهذه النبرة الأسيانة في شعر مارك:

كآبة
إذا هب الماء
إلى بحر الأسى
فسأهب للوقوف في وجهه.
لأنه لا غنى عن
معاناة الروح
كي تستمتع بالسعادة.

فلأشرب كأسي
على نخبٍ بلا مناسبة
وليكن خمري معتَّقا
جافَّ المساغ ،
بل فليكن فيه ما يكفي من التكوير
لدوران كآبتي!

من جهة أخرى، لننظر إلى قصيدته " وراء الأبواب " فثمة تخييل يتمثل في التجانس الصوتي من صوت ولون وحركة واستخدام الحواس في تنقل العبارة الشعرية.

وإذا كنا تحدثنا عن نماذج تدخل في الأدب المقارن فإن وصف الشاعر فيما يلي يذكرنا بوصف مجنون ليلى وهو يهيم بمعشوقته:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لي ليلى بكل سبيل

ولننظر مثل هذا التصادي والتمثيل التصويري بين النصين:
وراء لأبواب
ما فتحت بابا
إلا وكنتِ وراءه.

ما نظرت من نافذة
إلا ورأيتكِ من خلالها.

غريب أن تتواجدي حيث لا تكونين
عجيب أن أسمعك
وأنت صامتة تنظرين.

أقبلك
تبتسمين
فأعرف أنك هناك
تنتظرينِ.


لقد نجح مارك بيرون في لفت الأنظار إليه باتباعه أسلوب "السهل الممتنع" في نصوصه الشعرية والنثرية، واستغل الإعلام المرئي والمسموع بذكاء منقطع النظير كي يروِّج لأعماله ويقربها من القارئ ليقرّب- في نهاية المطاف- القارئ منه كثيرًا، ويتمثل ذلك في ترجمة روايته (ألعاب الأولاد)، وكذلك كثير من قصائده إلى أكثر من سبع لغات عالمية أيضًا، وحسبك من دليل على حرصه على تعريف القارئ العالمي به وبإنتاجه الأدبي.
للمزيد
http://www.etlaforums.com/new/showth...-سيرته-وأعماله.