هامش على "حقيقة كلمات ماركس الثلاث"الدين أفيون الشعوب"
أكتب هذه الأسطر بين"سكرة"و"فكرة"!! .. أي سكرة الفكر .. وأتذكر كُليمتي "ترجمة مسبوكة .. وغير مسبوكة"والأسئلة التي لا تنتهي حول"أمانة الترجمة". في البداية أترككم مع ما كتبه الأستاذ " ضياء حميو " تحت عنوان"حقيقة كلمات ماركس الثلاث : الدين أفيون الشعوب.
(ماكنت أظن ان يبدأ يومي ذلك اليوم على صراخ ابنتي الكبرى ذات الخمسة عشر ربيعا حينها ،وقد عادت لتوها من المدرسة على سؤال :
- أبي..!هل حقا ان " كارل ماركس " قال:" ان الدين أفيون الشعوب "!!؟.
- أصبحنا وأصبح الملك لله ..!من قال هذا ومااهميته بالنسبة لكِ؟!
- معلم مادة المجتمع واللغة الدنماركية..وما اغاضني انه قالها بصيغة ضاحكة ليدلل على غباء " ماركس"!!.
كنت أظن قبل هذا الموقف ان استخدام كلمات "ماركس" بهذا الشكل كانت محصورة في الإعلام بحديه السلطوي والديني في العالم الإسلامي ضمن حربه ضد الأفكار الماركسية ،وكان استخدامه ذكيا نجح نجاحا كبيرا في تحويل الأنظار والفهم عن جوهر فكر وفعل ماركس من صراع طبقي ضد الاستغلال الرأسمالي للطبقات الفقيرة وانتهاك حقوقها إلى ضد الدين وحسب ،على الرغم من ان الرجل لم يؤلف كتابا واحدا في نقد الدين بشكل خاص..!
وها أنا اكتشف ان هذه الحرب الإعلامية ليست سلطوية دينية في العالم الإسلامي وحسب بل في كل العالم الغربي أبان الحرب الباردة ،وكذلك في أمريكا وأفريقيا وآسيا ومازالت " اسطوانة مشروخة "تُستخدم من ذات الماكنة الإعلامية الرأسمالية العملاقة..!لتحويل الأنظار عن قبحها وسوءتها.
المضحك والمحزن بآن معا ان هذه الكلمات الثلاث " أنتزعت بمنتهى الخبث والذكاء من جملة سبقتها ، من دونها تكون كقولنا " لاتقربوا الصلاة"..!
النص الأصلي الذي أورده هنا كان من ضمن مساعدتي لابنتي في ان تدرك الحقيقة من خلال جهدها في البحث عنها بنفسها، ورد النص في اللغة الانكليزية وكالآتي : (Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people) Marx, K. 1976. Introduction to A Contribution to the Critique of Hegel’s Philosophy of Right. Collected Works, v. 3. New York.
( الدين هو تنهيدة المضطهد ، هو قلب عالمٍ لاقلب له ،مثلما هو روح وضع " شروط " بلا روح ،إنه أفيون الشعب ) ماركس "نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية" 1844 "
كلمة the sigh of تُرجمت بأكثر من كلمة ولم يختلف المراد ( تنهيدة ، آهة ، زفرة ) المقصود هو إنها آخر ماتبقى للإنسان المضطـَهد ...وأين..؟! في قلب العالم الرأسمالي وفي زمن " ماركس " كان هذا القلب هو " بريطانيا ، فرنسا ، ألمانيا ، أمريكا"وبشكل ما روسيا،ويسخر " ماركس منه بأسى بوصفه لهذا العالم بإنه بلا قلب أي بلا رحمة أو شفقة ،وهذا الدين هو روح هذا العالم البشع الذي بلا روح ..!!
لا أظن ان أي شخص وخصوصا المؤمن ممكن ان يجد وصفا منصفا للدين أكثر من وصف ماركس..!!
أما الكلمة الأخيرة في النص فقد تم تغييرها من صيغة المفرد إلى الجمع لتكون عامة وشاملة لكل شعوب العالم، فصارت " الدين أفيون الشعوب " بدلا من النص الأصلي "إنه أفيون الشعب "لأنهم لو أوردوها كما وردت في النص لانفضحوا ولما تم لهم استخدامها بفائدة حققها لهم مسخ النص وتحويره..!!.ولسنين زادت عن المائة وخمسين عاما ومازالت..!!
وقبل الخوض في الجملة الأخيرة" الدين أفيون الشعب "، ولم وكيف استخدمها "ماركس" أعود لابنتي في بحثها عن الحقيقة...وبحثها هو من سيجيب على هذا السؤال..!.
كنتُ اعلم انها وفي خضم حبها للقراءة كانت قرأت أشياء عن ماركس ،ونظريته..وصارت تبدي إعجابها بأطروحاته،ولكنني ومناكدة مني لها قلت :" وما المشكلة في ان يكون "ماركس" غبيا ..هل هو من بقية اهلك؟!...قالت :"لا لا أريد الحقيقة..من غير الممكن " ان يقول "ماركس" هذا القول وبهذه الطريقة الساخرة والغبية التي صورها المعلم"..!
قلت : حسنا ..قد أقول لك رأيي ويكون مخالفا لمعلمك ولكنه في النهاية رأي شخصي يحتمل الصواب والخطأ ، والأفضل ان تكون هذه الجملة بكلماتها الثلاث (الدين أفيون الشعوب ) تجربة لك للبحث بنفسك عن حقيقة تدركينها بجهدك وحينها تستطيعين الدفاع عن قناعاتك. والبداية ستكون في بحثك عن متى عاش "ماركس " ومتى قال هذا وفي أي مكان وماهي الظروف التاريخية المحيطه به وبهذا القول ،وسأقوم بمساعدتك في البحث"..!.
وهكذا قسمنا العمل بيننا هي ستأخذ كلمة ( الأفيون ) وكل مايتعلق بها...!وانا أراجع النص الذي ورد فيه القول كاملا ومارافقه..!
وفي النهاية صار لديها تقرير كامل عن ماهية القول قدمته كمادة بحث في دراستها ){(حقيقة كلمات ماركس الثلاث : الدين أفيون الشعوب) / ضياء حميو / الحوار المتمدن 2009 }
نعم. لقد أسكرتني هذه الأسطر .. تفكرا في "تغرير"الترجمة بأمثالي من "الأميين"الين لا يجيدون لغة أجنبية ،وإن كانت الترجمة في كلمات "ماركس"يبدو أنها قد غررت بمن يجيد لغات أجنبية! فكلنا – شرقا وغربا – في التغرير بنا سواء! وأسكرني بحث الأستاذ الكاتب – وابنته – عن الحقيقة .. وتقسيمه العمل بينهما .. إلخ.
طاف بنا الأستاذ"حميو" في قطار البحث عن الحقيقة أروقة مادة"أفيون"وما كانت تعنيه في ذلك الزمن .. واستعمالها في العمليات الجراحية،وتوقف بنا القطار في محطة"حروب الأفيون"وإجبار "الغرب المتحضر" الصين على فتح أبوابها للأفيون،تحت قعقعت المدافع!! وطُرزت جنبات القطار مقولة الفرنسي فيكتور هوجو،معلقا على تلك الحرب :
(دخلت العصابتان البريطانية والفرنسية كاتدرائية آسيا،أحدهما قام بالنهب والآخر قام بالحرق.وأحد هذين المنتصرين ملئ جيوبه والثاني ملئ صناديقه،ورجعوا إلى أوربا يدهم في يد بعض ضاحكين. إن الحكومات تتحول أحيانا إلى لصوص ولكن الشعوب لا تفعل ذلك).
وأخيرا علمنا – من مقالة الأستاذ الكريم – أن ابنته قدمت بحثها لأستاذها،فحصلت على العلامة الكاملة،مع شكر الأستاذ لها على تصحيح معلوماته.
هنا وضعت "السكرة"أوزارها.
تقول نكتة سودانية،أن صاحب فكر اعتقل في عهد "النميري"فذهب صديق له يتشفع له،وقال للرئيس : الراجل دا كان يدافع عنك في شلة من الخونة والمتآمرين.
فرد النميري :
الله .. هو الأستاز دا جالس شلة الخونة والمتآمرين يعمل شنو؟!!
أنا أيضا قلت .. الله .. هو كارل ماركس لم يكتب عن الدين سوى هذه الكلمات الثلاث؟! وإذا كان قد فعل .. فما هو رأيه في الدين؟ .. فهذا هو مربط الفرس .. بعيدا عن إساءة ترجمة كلماته ذائعة الصيت.
قبل ذلك .. سنضع بين"السكرة"و"الفكرة"برزخا عسى ألا يبغي أحدهما على الآخر .. فلا علاقة بينهما ..
نبدأ بعميد "المتراجعين"علنا – إن صح هذا التعبير – أي أبو الحسن الأشعري – 260 /324هـ - وكنا نقرأ في كتب"المثقفين"أنه وقف على كرسي في المسجد،وقال : من عرفني فقد عرفني ،ومن لم يعرفني فأنا فلان .. كنت أقول بكذا .. وأصبحت أقول بكذا ..إلخ. وذلك عند تراجعه عن مذهب "المعتزلة".
من التراجع المعلن عنه إلى ما أسماه "بيجوفتش"الازدواجية :
(النموذج التقليدي لهذه الازدواجية – وأعني بها الصدام بين الفكر والحياة،أو بين الطبيعة والحياة – يبرز عند الفيلسوف الألماني "كانت"في نقْديه "نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي". ففي الثاني،أحيا"كانت"الأفكار الدينية عن الألوهية والخلود والحرية،وهي الأفكار نفسها التي نسفها في نقده الأول."كانت"المنطقي العَالِم هو الذي تحدث في"نقد العقل الخاص"،أما ""كانت"الإنسان والمفكر،فقد تحدث في"نقد العقل العملي". يُبرز النقد الأول النتيجة التي لا فكاك منها لكل عقل ومنطق،ويرمز الثاني على إبراز المشاعر والخبرات والآمال التي تسيطر على حياة الإنسان. ){ص 190 ( الإسلام بين الشرق والغرب) / علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة /دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}.
ومن"كانت"إلى"نيتشه" يقول بيجوفيتش :
(الاختلاف عن الأخلاق هنا واضح وتام : "حطم الضعفاء"بدلا من"احم الضعفاء".. هاتان الدعوتان المتعارضتان تفصلان البيولوجي عن الروحي،الحيواني عن الإنساني،الطبيعة عن الثقافة،العلم عن الدين. وكل ما فعله"نيتشه"أنه طبق بثبات قوانين علم البيولوجيا ونتائجه على المجتمع الإنساني. وكانت النتيجة نبذ الحب والرحمة وتبرير العنف والكراهية .. والمسيحية عند"نيتشه"،وبخاصة الأخلاق المسيحية،"هي السم الزعاف الذي غُرس في الجسم القوي للجنس البشري"){ ص 193 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}.
"نيتشه"القاسي هنا .. لا يشبه "نيتشه"الآخر .. ودائما عبر بيجوفيتش :
(كان نيتشه إنسانا مرهف الشعور،ولم يكن يشبه بأي شكل "أوبرمنخ Ubermenscha". في السنة الرابعة والأربعين من عمره تعتم عقله،وفوقا لكاتب سيرته كان السبب المباشر لذلك مشهد في ميدان تورينو،عندما خرج الفيلسوف من منزله،ليرى حوذيا وهو يضرب حصانه بلا رحمة،تقدم من الحيوان وعانق رقبته،وانخرط في البكاء وهوى ،عاش بعدها اثنا عشر عاما،لكن عقله لم يعد إليه أبدا.
ما نحن .. هو نحن،وليس ذاك الذي نعتقده،أو نرغب في أن نكونه){ ص 69 ( هروبي إلى الحرية )..}.
نعود إلى سؤالنا عن ماركس .. هل له رأي في الدين،غير تلك الكلمات الثلاث .. الشاعرية في تشبيهها لأثر الدين ؟
في البدأ يقول بيجوفيتش،عن هذه النقطة تحديدا :
(يزعم"نيتشه"أن الأديان قد ابتدعها الضعفاء ليخدعوا بها الأقوياء. أما ماركس فيقول بالعكس. فإذا سلمنا بأن الأديان مفتعلة،سيبدو تفسير"نيتشه"أكثر إقناعا،لأنه تأسيسيا على الدين فقط،يستطيع الضعفاء المطالبة بالمساواة. أما العلم وكل ما عدا الدين،فقد أكد عدم المساواة بين الناس.){ ص 101 ( الإسلام بين الشرق والغرب) }.
في عودة إلى "التراجعات"أو "التناقضات" كتب بيجوفيتش عن ماركس :
(كتب ماركس"الشاب"في مكان ما : "لأن جذر الإنسان هو الإنسان ذاته"كيف يمكن لهذه الجملة المثالية أن تنسجم مع نظرية الانعكاس،وارتقاء حقيقة الحياة الروحية من المادية؟ الجواب الوحيد أن ماركس لا يوافق ذاته أي أن ماركس "الناضج"يناقض ماركس الشاب وينكره){ص 327 ( هروبي إلى الحرية) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : إسماعيل أبو البندورة / دار الفكر / دمشق / الثالثة 1429هـ = 2008}.
ويقول عنه أيضا :
(ليس بالإمكان إقامة نظام إلحادي متسق مع نفسه،بينما التقاليد الراسخة تشع من حوله دينا هامسا مُتَشَرَّبَا في بيئته. حتى إن"ماركس"نفسه لم ينج من تأثيرات من هذا القبيل. ولكننا لا نعلم على وجه اليقين أي مصادر روحية أو فكرية استلهمها في كتاباته الأولى،إلا أن تأثير دراسته للعوم الإنسانية والأدب ظاهر في أعمله المبكرة { في الهامش : صرح"ماركس"نفسه أن"أسخيلوس"و"شكسبير"و"جوته"هم الكُتاب المفضلون عنده. وكان "ماركس"يقرأ "أسخيلوس"كل سنة مرة في لغته اليونانية. وكثيرا ما كان يتلو أشعار"هوميروس"و"أوفيد".وأما تأثير :جان جاك روسو"فمعترف به في أعمال"ماركس"الأولى،على سبيل المثال فكرته عن أصل"اللامساواة الاجتماعية وأصل الملكية} فنظريته عن"الاغتراب"تكاد تكون في جملتها نظرية أخلاقية إنسانية،ولذا فإنها مُستغربة تماما وغير متوقعة من فيلسوف مادي. ويظهر أن :"ماركس"نفسه – مع مرور السنين – قد أصبح واعيا بضلاله في أيام الشباب.فمن الواضح أنه يوجد اختلاف بيّن بينَ "ماركس المبكر"و"ماركس الناضج"على حد تعبي النقاد. هذه العملية الداخلية للنضج تتجلى في حقيقتها في اطّراح التراث المثالي"وهو في أساسه ديني أخلاقي"وتقبُّل متزايد للنظريات المادية المتسقة مع نفسها.
إن الجيل الراهن الذي هو لا ديني اسما،بل حتى الملحدون من هذا الجيل لم ينشأوا على جهل بالدين وإنما على الأرجح في عداء له. فهم،وإن لم يقبلوا مبادئ المسيح في الحب والإخاء والمساواة باسم الله،إلا أنهم لم يرفضوا هذه المبادئ أصلا. وإنما بنوع من الوهم الغريب احتفظوا بهذه المبادئ باسم العلم. ولهذا السبب،ليس من حقنا أن نعتبر هذا الجيل وعالمه برهانا على إمكانية الثقافة الإلحادية){ص 207 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}.
وبعد .. لاشك أنني استمعت بقراءة ما كتبه الأستاذ "حميو" .. ولاشك – أيضا – أنه غير ملزم بأن يكتب عن رأي "ماركس"في الدين .. خارج الكلمات الثلاث .. المفترى عليهن.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني