هل تغيّر الإسلام؟
سامي مروان مبيّض
في عام 1809 قرّر الكونجرس الأمريكيّ شراء مكتبة الرّئيس توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتّحدة الأميركيّة. ضمّت المكتبة 6487 عنواناً فى شتّى الموضوعات، كان من ضمنها نسخة نادرة من القرآن الكريم، تعود طباعتها إلى عام 1734.
كانت هذه الطبعة ترجمة عن اللاتينيّة، وضعها المستشرق البريطانيّ جورج سيل، وعندما قرأها الفيلسوف الفرنسيّ الشهير فولتير، كتب مقالاً عنها بعنوان: «عن القرآن ومحمّد».
النسخة الإنجليزيّة من القرآن موجودة اليوم ضمن مقتنيات مكتبة الكونجرس، أمّا النسحة اللاتينيّة التى اعتمدها سيل في ترجمته، فهي محفوظة فى إحدى مكتبات جامعة أوكسفورد البريطانيّة تحت رقم (MS Sale 76).
يُعتقد أنّ الرّئيس جفرسون اقتنى نسخته من القرآن عندما كان طالباً جامعيّاً، واحتفظ بها طيلة سنوات حكمه في البيت الأبيض وحتّى وفاته سنة 1826.
اهتمّ جيفرسون بالقرآن من الناحيّة القانونيّة، ليتمكّن من دعم المبشّرين الأمريكيّين المتّجهين إلى الشرق الأوسط، ولمعرفة قواعد الحكم والشريعة فى الدولة العثمانيّة، القائمة فى حينها. وتُضيف قناة التاريخ الأمريكيّة أنّ القرآن كان من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتّحدة في منتصف القرن الثامن عشر (Best-Seller)، اقتناه عدد من المبشّرين الأجانب، منهم دانيال بلس، مؤسّس جامعة بيروت الأمريكيّة، ومئات المسلمين الذين سيقوا مكبّلين عبيداً إلى القارّة الجديدة من شمال إفريقيا.
بعد تلك الحادثة بمئتي سنة ونيّف، قامت جامعة هارفارد الأمريكيّة بحفر الآية 135 من سورة النساء على مدخل كلّيّة الحقوق، ضمن معرض لأهمّ العبر عن العدل فى تاريخ البشريّة.
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».
اختارها القائمون على كلّية الحقوق بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزيّة، مع عبارات من الميثاق الأعظم البريطانيّ، ومن أقوال للرئيس نيلسون مانديلا، وبنجامين فرانكلين، العالم الموسوعيّ وأحد الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة.
وفى عالمنا العربيّ، كان المسيحيّون يقرؤون القرآن، ويستشهدون ببلاغته وفصاحته إمّا إعجاباً به وإمّا لكي يتمكّنوا من محاججته ودراسته، أو نقده. ولكثرة ما أعجب به رئيس الحكومة السوريّة الراحل فارس الخوريّ (وهو مسيحيّ بروتستانتيّ) استعان بجمل منه في أحد خطاباته أمام الأمم المتّحدة، عند تأسيسها سنة 1945.
يُحكى فى سورية أنّ فارساً الخوريّ سكن يوماً بالقرب من جامع الأفرم بدمشق، وكان مؤذّن الفجر رجلاً ذا صوت شجيّ اسمه أكرم الخُلقي، يعرفه جيّداً سكّان حيّ المهاجرين المُطلّ على العاصمة السوريّة. ذات يوم لاحظ المؤذّن أنّ فارساً الخوريّ أطفأ النور في غرفة نومه قبل أذان الفجر بقليل، وظنّ أنّه ذهب إلى النوم بعد يوم شاقّ ومُضنٍ، فقرّر ألّا يرفع الأذان من الجهة القريبة من غرفة رئيس الحكومة لكيلا يزعجه، لأنّ مصالح الناس تقتضي أن يأخذ فارس بك حصّته الكافية من الراحة لكي يتمكّن من خدمتهم بأفضل وجه.
فاتّجه أكرم الخُلقي من الباب الجنوبيّ إلى الشماليّ لكي يرفع الأذان، ولا يصل صوته إلى غرفة نوم فارس الخوريّ.
فى اليوم التالي، سأل الرئيس الخوريّ عن مؤذّن المسجد ليطمئنّ عليه، ظنّاً منه أنّه أصيب بمكروه منعه من رفع الأذان فى الوقت المعتاد. طلب حضور المؤذّن إلى السراي الحكوميّ، وسأله عن سبب عدم رفع الأذان. روى له الخُلقيّ ما حدث، فانزعج فارس بك رحمه الله، وقال: «هل تعلم أنّني لا أنام قبل أن أستمع إلى أذان الفجر منك، وأستلهم منه ما يعينني على متابعة عملي؟ غداً، يعود الأذان كالمعتاد.»
يبقى السؤال: ماذا تغيّر اليوم ليصبح رفع الأذان أو تلاوة القرآن عملاً مشبوهاً بالنسبة لكثير من الناس، يؤدّي إلى نعت صاحب الفعل بالداعشيّ أو المُتخلّف؟
هل تغيّر الإسلام؟ أم نحن الذين تغيّرنا؟
نشر في جريدة الأهرام يوم 21 حزيران 2021,