لطالما كانت مسألة المذهبية مسألة ثانوية في مجرى النقاشات القائمة في الأوساط الجزائرية، سواء من جانب المثقفين، أو من ناحية المسئولين السياسيين، حيث أنها تنصب عادة حول الإصلاح السياسي والاقتصادي، ومسائل التعثر الديمقراطي و قضايا التنمية، لكن يبدو أن الجزائر لم تحافظ على مناعتها ضد الصراع المذهبي القائم واقعيا في منطقة الشرق الأوسط، على الرغم من تاريخها المعروف بتهادن المكونات الدينية داخل الجمهورية، سيما المكون المالكي كمذهب يشار إلى أنه المذهب الرسمي، والمذهب الإباضي، هذا الصراع الذي تحمل رايته قوتان إقليميتان هما المملكة العربية السعودية باعتبارها دولة سنية، والجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتبارها دولة تتخذ من المذهب الشيعي الإثنى عشري مذهبا رسميا لها.

الثورة الإيرانية 1979، وغزو العراق سنة 2003، وإعدام الرئيس العراقي في 2006، وبداية الربيع العربي 2011، كلها عوامل جعلت الأصوات المستنكرة والمحذرة من وجود مد شيعي يحاول التغلغل في المجتمع الجزائري المعروف بتمسكه بخلفيته المالكية تصبح أكثر وضوحا ويقينية في الوقت الذي كان الحديث عن شيعة الجزائر يعتبر أمرا مستبعدا، أو لا يغدو عن كونه حالات فردية، تماما كظاهرة التنصير التي يشار إليها في كثير من الأحيان، فتعاظم الأدوار الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، في العراق، سوريا، لبنان، اليمن، جعل الكثير يعتبر أن الجزائر مرشحة لتكون العاصمة الخامسة، حيث أن بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء يوصفون صراحة كونهم مناطق نفوذ ضخمة لإيران، ولولاية الفقيه التي تنقل الخطر الشيعي من كونه خطر عقدي هوياتي إلى خطر سياسي استراتيجي، من منطلق أن الجماعات الشيعية في كل العالم تصبح محركة من طرف شخص الولي الفقيه في إيران.

والملاحظ أن التحذير من خطر التشيع، لم يبق حبيس الأوساط غير الرسمية من شخصيات سلفية، وكذا بعض الصحف الوطنية، بل انتقل إلى اعتراف واضح من شخصيات سامية في الحكومة الجزائرية، والتي عبرت بوضوح عن وجود خطر تشيع حقيقي يهدد المجتمع الجزائري، فالمسألة هنا تجاوزت طابعها الصراعي الفكري ضمن ثنائية السلفية-الشيعية، أو طابع التوجس من الأدوار التي تلعبها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في كامل المنطقة، بل أصبحت تهديداً واقعاً تحمله خطابات الأمننة الصادرة عن السلطات الجزائرية، خاصة وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، ليسدل الستار عن المناطق الجزائرية المخترقة، وعن بعض الإحصائيات لتعداد متشيعي الجزائر، وارتفع مستوى النقاش من المستوى المحلي إلى المستويين الإقليمي والدولي لتخصص مؤسسات إعلامية براقة كمؤسسة الجزيرة إضافة إلى شبكة الCNN بالعربية مساحات إعلامية لمناقشة هذا الموضوع .

بناءً على ما سبق يحاول هذا التقرير رسم صورة التشييع في الجزائر من خلال تحديد من يقف ورائها، والمناطق المستهدفة بها، وكذا الدافع الذي يجعل من قوى نشر التشيع ترى في الجزائر بيئة خصبة لنشر أفكارها وأجنداتها الإقليمية مما يعرض البيئة الأمنية المجتمعية الجزائرية للعطب عبر محاولة إعادة رسم معالمها السنية المالكية التي يتم الدفاع عنها في الداخل الجزائري باعتبارها جزءاً من البناء الهوياتي المتمثل في الإسلام، الأمازيغية، والعروبة.

التشيع كتهديد للأمن المجتمعي الجزائري؟

كثيراً ما يشير مناهضو المد الشيعي بالجزائر إلى أن الأمن المجتمعي الجزائري في خطر، حيث أن تزايد عدد الأشخاص المعتنقين لهذا الخط المذهبي من شأنه تقويض ركائز الهوية الجزائرية، هذا الادعاء يحتاج ربما إلى أدوات تفحصه وتحلله، خاصة فيما يتعلق بقضية الأمن المجتمعي، ومنه الأمن الديني، الذي بات الشعار الأكثر بريقا في عملية تجريم المد الشيعي، باعتباره قادراً على جعل التشيع يبدو مرادفا في وعي المتلقي لهدم الموروث الديني والتركيبة الهوياتية للمجتمع الجزائري.

تم إطلاق مفهوم “الأمن المجتمعي” فيما يتعلق بقضايا الهوية، الهجرة، والأجندة الأمنية الجديدة في أوروبا، وقد تم تطويره استجابة لسلسلة من النزاعات الوطنية، أكثرها عنفا في يوغسلافيا سابقا، وكذا الاتحاد السوفيتي ، يعرف المختصون في الدراسات الأمنية الأمن المجتمعي: بأنه قدرة المجتمع على الحفاظ على طبيعته الجوهرية تحت ظروف متغيرة، وتهديدات واقعة أو محتملة، ففي الوقت الذي كانت الدولة هي الفاعل المستهدف بالتهديد في الأمن السياسي، العسكري، الاقتصادي والبيئي، يكون المجتمع هو المعني بالعملية الأمنية فيما يخص الأمن المجتمعي، هذا الأمر يفتح المجال واسعا للحديث عن الأمن الهوياتي[1]، وكذا الروحي الديني، هذا التوصيف النظري يتطابق إلى حد ما مع الواقع داخل الجزائر، حيث ينظر إلى الأمر من منظور هوياتي سني مالكي في مقابل هوية وافدة غير مرحب بها بصفتها دخيلة، والمراد منها تهديم قيم المجتمع الجزائري وجعله يسير ضمن أجندة سياسية ترسمها القيادات الشيعية في الداخل الإيراني، ومن منطلق أن الأمن المجتمعي لا يمكن فصله عن التهديدات والهشاشات التي تمس الثقافات والهويات الجماعية[2]، يفتح النقاش بصوت عال في الأوساط الجزائرية حول مدى هشاشة/صلابة المركب الهوياتي الجزائري -الذي يوصف دينيا بأنه إسلامي مالكي- في مواجهة التيار الشيعي.

لماذا الجزائر؟

ليس سراً أن المشروع الشيعي، أو بالأحرى مشروع نشر مذهب التشيع، لا ينفصل عن فكرة عالمية الدين الإسلامي باعتباره مذهبا متفرعا عنه، حيث لا يستهدف الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فقط، وإنما يصل مداه إلى القارات الخمس، فمن غير المستغرب الحديث اليوم عن شيعة أمريكا الجنوبية، وشمال أوروبا وغير ذلك، فالجمهور المستهدف بخطاب التشيع لا يقتصر على الجزائر كبلد عربي إسلامي يشار إلى أنه سني، بل يتجاوز ذلك، لكن ليس من الخطأ التساؤل عن الغاية من جعل الجزائر هدفا شيعيا تقصده قوى التشييع وتثبت أطراف داخلية لخدمة غاية مشروعها عبر جعل أكبر عدد ممكن من الجزائريين يتحولون، أو يعودون-حسب تعبير قوى التشيع- إلى المذهب الشيعي الإمامي الاثنى عشري الذي تتخذه الجمهورية الإيرانية مذهبا رسميا لها؟

من الناحية التاريخية، لا يمكن إنكار التاريخ الشيعي للجزائر، هذا التاريخ الذي مازال حاضرا في الخطابات السياسية الراهنة، ففي 2016 مازال بعض السياسيين النافذين في الجزائر يذكرون بتاريخ الجزائر الحافل بالتقلبات والانتقالات، على غرار الأمين العام لثاني أكبر حزب سياسي في الجزائر وهو السيد أحمد أويحيى الذي صرح أن “أجدادنا كانوا شيعة ورفعوا راية الشيعة لكننا اليوم مالكيون”[3] ، تصريح كهذا رغم طبيعته، ورغم أن التاريخ يقره، لم يمر بسلام في الأوساط الجزائرية، حيث لم يتوقف الأمر عند الردود المستهجنة من طرف الجمهور العام ، بل تعداه نحو تحول القضية إلى سجال سياسي/تاريخي ترجمه رد قائد أحد الأحزاب الإسلامية الجزائرية القريبة من الإخوان المسلمين، وهو السيد عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السلم، الذي اتهم أويحيى بأنه جاهل بالتاريخ، كما تساءل عن دوافع فتح ملف الهوية باعتباره مهددا للوحدة الوطنية[4] ، ما يمكن فهمه من هذا المد والجزر الذي حصل عقب مجرد الحديث عن أن للجزائر ماض شيعي، والتأكيد على الهوية الحالية المتمثلة في الخط السني على مذهب الإمام مالك بن أنس هو أن الخطر الشيعي أضحى حقيقة تقرها الخطابات السياسية للنافذين في الحكومة، كما تتفهمها الأحزاب المحسوبة عن المعارضة وتصنفها ضمن تهديدات الوحدة الوطنية الجزائرية رغم أن الجزائر الحالية ليست دولة تنوع ديني ملحوظ، كما أن النظام الاجتماعي العام لا يتقبل – رغم أن الدستور لا يمنع – الممارسات والشعائر التي تبدو غريبة عن الدين الإسلامي ومذهب أهل السنة.

بالعودة إلى السؤال الجوهري المتعلق بدوافع استهداف الجزائر، لا يجب أن يقتصر التحليل على الشق الهوياتي المرن، بل يجب أن يتعداه نحو تحليل سياسي منطقي لا ينفصل عن السياق الاستراتجي لكامل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذا سلمنا بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تقف وراء نشر التشيع باعتبارها حصنا دينيا شيعيا تتوجه له أنظار جميع الأقليات الشيعية في العالم عبر رابط ولاية الفقيه، فإنه لا بد أن ننطلق من منطلقات هذه الدولة نفسها، التي يمكن أن تلخص في خمس نقاط رئيسية: مصلحة إيران، تعزيز قوتها الإقليمية، السيطرة والتأثير في المعابر المائية في الخليج، الشيعية السياسية باعتبارها إيديولوجية وأداة في العلاقات مع الطوائف الشيعية المحيطة بإيران، وأخيراً العداء للسياسة الأمريكية [5]، إذا ما تم إقصاء العداء للسياسة الأمريكية، وقضية المعابر المائية كون الجزائر دولة شمال إفريقية، سنجد أن الركائز الثلاث الباقية تخدم فكرة تشييع الجزائر، حيث أنه من مصلحة إيران وجود طائفة شيعية قوية وصلبة ترتكز عليها سياسات إيران في منطقة المغرب العربي ترتبط بها روحيا وحتى سياسيا، وهذا ما من شأنه جعل إيران تحكم قبضتها على كامل المنطقة العربية من الخليج إلى المغرب، أي من صنعاء وصولا إلى الجزائر، مما ينتج عنه جعل القوى الخليجية مطوقة من كامل النواحي، خاصة وأن الجزائر تجاور المملكة المغربية التي توصف كونها شريكا استراتيجيا لدول مجلس التعاون الخليجي.

المستهدفون بالتشيع

في الوقت الذي تغيب فيه إحصائيات رسمية لعدد الشيعة في الجزائر، ترد بين الوقت والآخر بعض الأرقام التقريبية التي تنشرها مواقع شيعية، والتي تشير إلى وجود 300 ألف شيعي جزائري[6]، حسب تدوينة نشرت سنة 2012، والعدد يبدو هنا مبالغا فيه، أما في مقال للصحفية زهية منصور، نشر في فبراير 2016، فقد استشهدت بإحصائيات عراقية تشير إلى أن عدد الشيعة يقدر ب 75 ألف شيعي[7]، وهنا يمكن ملاحظة حجم التباين في التقديرات الكمية لعدد شيعة الجزائر أمام تهرب من مواجهة الوضع بطريقة علمية أي القيام بعمليات إحصائية تكشف تعداد الكتلة البشرية الشيعية في المجتمع الجزائري، لكن فيما يخص المناطق الجزائرية المستهدفة، فإن التصريحات هنا صادرة عن شخص وزير الشؤون الدينية والأوقاف الجزائري محمد عيسى حيث تناقلت وسائل الإعلام عن لسانه أن قوى التشيع تضرب الولايات الحدودية الشرقية والغربية للجمهورية الجزائرية[8]، هذا ما أكده بعض المتتبعين لحركة التشيع الذين أكدوا بدورهم أن الشيعة بالجزائر يضمون في صفوفهم نخبا مثقفة، و يتواجدون في ولايات الشرق خاصة تبسة، باتنة، سطيف، عنابة، برج بوعريرج ،البويرة ، أما في الغرب الجزائري فنشاطهم يتركز في وهران، بلعباس، مستغانم، عين تموشنت، معسكر، وتيارت، دون إغفال العاصمة الجزائر[9].

والملاحظ أن وسائل الإعلام العالمية وصلت لدرجة استعمال مفهوم الأقلية في وصف شيعة الجزائر، وهنا الحديث حول مقال نشره موقع CNN بالعربية بتاريخ 07/11/2015 يتناول موضوع شيعة الجزائر[10]، خلال المنشور تقربت CNN من بعض النماذج الشيعية على غرار الكاتب الصحفي صادق سلايمية الذي صرح للموقع أن “عقلية الرفض والتحجر” تقف عائقا أمام إعلان متشيعي الجزائر عن هويتهم المذهبية، وفي أسباب التشيع في الجزائر حمل نفس المقال تصريحا للأستاذ عبد الحفيظ غرس الله، الذي عزاه إلى ضعف المؤسسة الدينية في تأطير المفاهيم السنية عقائديا وفكريا مما جعل البعض لا يحملون هوية سنية قارة وثابتة.

المتهمون بنشر التشيع

في تصريح أثار الكثير من الاستنكار وردود الفعل السلبية، حمل وزير الشؤون الدينية والأوقاف السابق أبو عبد الله غلام الله، اللاجئين السوريين جزءا من مسؤولية انتشار ظاهرة التشيع بالجزائر، إلى جانب ما تبثه القنوات الفضائية من طقوس شيعية [11]، وقد جوبه هذا الادعاء بكثير من الانتقادات أهمها أن جمهور اللاجئين السوريين بالجزائر هم من أهل السنة، وأنهم هربوا بحثا عن الأمن لا عن نشر معتقداتهم ومذاهبهم، كما أن قصة التشيع قد تعود جذور تفجرها إلى نجاح الثورة الإسلامية بإيران، أي قبل تدفق جموع اللاجئين السوريين عبر العالم، هذا الاتهام الذي لم تتقبله الأوساط الجزائرية، لم يستطع-ربما- التغطية أو التمويه حول من يقف وراء عملية التشييع التي تمس المجتمع الجزائري، حيث لا تتردد كثير من وسائل الإعلام، و الشخصيات المهتمة والمناهضة للمد الشيعي بتوجيه أصابع الاتهام إلى دول وسفارات معينة مشيرة إلى أنها تضخ أموالا ضخمة في سبيل دعم قوى التشييع بين أوساط الجزائريين.

في الوقت الذي تتحاشى السلطات الرسمية –علنيا على الأقل- اتهام السفارة الإيرانية، يتم توجيه أصابع الاتهام إليها من طرف الكثير، بالتحديد للدبلوماسي الإيراني أمير موسوي، حيث يشار إلى أنه تجاوز مهمته الدبلوماسية وصار يعمل كمنسق سري مع المتشيعين الجزائريين، وينظم لهم رحلات إلى طهران، وقم والنجف، حيث يلتقون مسئولين شيعة نافذين[12]، ولم يتوقف الأمر عند حد اتهامه بنشر المذهب الشيعي بل تعداه إلى الادعاء بأنه وراء الأحداث الطائفية التي وقعت في ولاية غرداية الجزائرية أين يتعايش المكونين الإباضي والمالكي[13]، وفي مقال نشر على موقع جريدة الإخبارية الجزائرية بتاريخ 27/01/2016، تم الحديث نقلا عن مصدر إيراني أن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية أصدر قرار رسميا بتعيين الموسوي مسئولا عن ملف نشر الفكر الشيعي في دول المغرب العربي وعلى رأسها الجزائر[14]، بصرف النظر عن صدقية هذا الخبر، تبدو جرأة نقله دون تحفظ في الأوساط الجزائرية وكأنها تخفي واقعا أكثر تأزما حول تغلغل الفكر الشيعي في الجزائر، وعلى أن سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن طريق ملحقها الثقافي السابق تلعب دورا واضحا في عملية تشييع المجتمع الجزائري، كل هذا يقابل بشيء من التردد من طرف السلطات الجزائرية خاصة وأن الأمر يتعلق بحساسية علاقات رسمية وحصانات دبلوماسية قد تقف عائقا ضد أي إجراء أمني.

لا يمكن الحديث عن إيران دون التطرق إلى العراق، حيث أن السفارة العراقية في الجزائر اتهمت بدورها بالتشجيع على التشيع، عقب إعلان السفارة العراقية بالجزائر عن إمكانية التقدم للحصول على فيزا لدخول الأراضي العراقية بهدف الزيارة الدينية[15]، وعزمت على تقديم تسهيلات استثنائية للراغبين في الذهاب إلى المزارات الشيعية في النجف وكربلاء[16]، لا يمكن اعتبار إعلان كهذا صادر عن هيئة سيادية عراقية موجهة للمجتمع الجزائري إلا إقرار صريح على وجود شيعة جزائريين ينبغي التعامل معهم، واستقطابهم روحيا عبر تمكينهم من التنقل إلى الأماكن الشيعية المقدسة، وقد ردت السفارة العراقية برفضها لتهمة عملها على نشر التشيع بالجزائر، حيث تم عقد لقاء بين السفير العراقي عبد الرحمان الحسيني وزير الشؤون الدينية الجزائرية ولمح له أن الأمر لا يتعدى كونه فبركة إعلامية مبنية على أكاذيب[17]، رغم صحة نشر الإعلان ومن ثم سحبه.

“مستبصرون” جزائريون

تصف المواقع والفضائيات الشيعية المتشيعين بالمستبصرين، و كثيرا ما تتلقى هذه الفضائيات اتصالات من جزائريين، حيث أن أحد الجزائريين “المستبصرين” اتصل بالسيد كمال الحيدري على قناة الكوثر الفضائية، وعبر له “أن الآلاف من الجزائريين هم من مريديه” [18]، كما تلقت نفس القناة اتصالا من سيدة جزائرية قالت أنها ” هي وزوجها وأبناؤها اتبعوا مذهب أهل البيت بكل حب وبكل صدق” [19]، إذا ما ناقشنا مفهوم “المستبصر” في وصف من ينتقل من المذهب السني المالكي إلى المذهب الشيعي الإمامي الاثنى عشري، قد تتكشف لنا نظرة من يروجون للتبشير الشيعي إلى المجتمعات غير الشيعية، إذ أن النقيض البسيط للمستبصر هو الأعمى ، ومن هنا يتم إعطاء عملية التشييع معنى تنويريا ورسالة حضارية تستهدف من خلالها الجماهير التي لا تبصر الحقيقة من وجهة نظر شيعية، كما أنه من الخطأ تجاهل العينات الفردية الجزائرية التي تظهر عبر الفضائيات الشيعية من منطلق أنها تشكل أدوات واقعية لمعرفة أسباب اعتناق مذهب التشيع، وكيفية التعرف على المذهب ومن يقف وراء هذه العملية، فلا يجب إنكار أنه إلى جانب الجهود الأجنبية المنهجية قد تتم عملية التشيع انطلاقا من رغبة أو اقتناع شخصيين بمعزل عن تأثير الدوائر التي تروج لذلك.

التنافس السلفي-الشيعي في الجزائر

في الوقت الذي تفيد العديد من الخرجات الإعلامية لمسئولين جزائريين بأن الجزائر لن تدخل في الصراع القائم بين ” التشيع والوهابية”[20]، وأنها تنأى بنفسها عنه [21]، تشير المعطيات الواقعية إلى وجود تنافس شرس بين التيار السلفي الذي يحاول بجدية وبمنهجية السيطرة على الجماعة الدينية الجزائرية في مقابل أي طرف، أصيل كان كالطرق الصوفية، أو وافد كالتشيع أو الجماعة الأحمدية التي تقر الدوائر الرسمية بأنها تحاول التغلغل في المجتمع الجزائري[22]، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن التيار السلفي الجزائري يكاد يكون التيار الوحيد الذي يجابه جميع أشكال العقائد والنحل التي يراها دخيلة أو شاذة بحزم، وفي بعض الأحيان بقسوة، بالرغم من كونه تيارا مرفوضا من بعض النخب الوطنية التي تقترب من الخط العلماني، والتي تراه امتدادا لسياسيات دول إقليمية أو مدخلا للتطرف من شأنه ضرب الإنجازات الأمنية المحققة منذ 1999، خاصة وأن الجزائر صاحبة تاريخ دامي مع الجماعات الإسلامية طوال التسعينات، والتي دخلت بعضها المعترك السياسي، وفازت بالانتخابات لكن تجربتها أجهضت [23].

استفاد التيار السلفي العلمي بالجزائر من الوضع الأمني المتعثر طوال التسعينات فيما بعرف في الأدبيات الجزائرية بالعشرية السوداء، وقد عملت السلطة الحاكمة على تقويته ليكون درعا في مواجهة السلفية الجهادية المسلحة، والحركية التي تسعى للوصول إلى السلطة كالجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة حاليا، وقد تم السماح لهم باستغلال المساجد من أجل إقناع الشباب بمبادئهم وأفكارهم التي تبتعد عن السلاح أو عن فكرة أخذ السلطة، أي التوقف عن فكرة نصح من في السلطة دون الخروج عنهم[24] ،لكن يبدو أن السلطة الحاكمة في الجزائر لم تتمكن من إيقاف الجماعات السلفية عند حد النصح والتلقين الديني، حيث برزت أحزاب سياسية ذات خلفية سلفية يقودها سلفيون تطالب باعتماد رسمي، كما نزعت بعض القيادات التقليدية للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة للدخول مجددا إلى المعترك والساحة السياسيين وسط رفض غير مبرر –ربما- من طرف الجهات الرسمية [25]، ورفض قاطع من بعض الأطراف العلمانية والتيارات الوطنية الموالية للسلطة.

الأمر المؤكد ان السلطة في الجزائر لا تسمح بأن يأخذ التيار السلفي أكثر من حجمه أو اكبر من الدور المرسوم له، لكن في الوقت الذي يكون فيه الحل الأمني بمفهومه الفعلي صعبا فيما يتعلق بتشيع بعض الأفراد الجزائريين من وجهة نظر حقوقية إذ أن الدستور يكفل حرية المعتقد، ستكون السلطة مجبرة أن تغض الطرف عن التيار السلفي كونه ربما الأكثر قدرة على الوقوف في وجه الوافد المذهبي الجديد، هذا الأمر الذي بدأت مؤشراته تطفو الى السطح عبر الظهور المتكرر لبعض الشخصيات السلفية عبر الإعلام، والتي لا تتردد في تجريم التواجد الشيعي بالجزائر وتبديعه واستنكاره، مستعملة خطابات وعبارات قد تمتنع السلطة عبر قنواتها الرسمية الإتيان بها، لهذا تبدو الاستعانة بالسلفية في مواجهة التشييع من طرف السلطة أمرا واقعا، وهذا ما يؤكده الكثيرون [26].

في هذا السياق تظهر حالة من التنافس بين الشباب السلفي وقوى نشر التشيع في الوقت الذي يخضع كلاهما للمراقبة من طرف مصالح الأمن [27]، في الوصول إلى الجماعة الدينية في الجزائر التي توصف بالخط المعتدل والوسطي الذي طالما تدعو الجهات الرسمية إلى التمسك به[28] باعتباره ضمانا للأمنيين الديني والهوياتي للجمهورية، هذا ما تبينه الحملات التي يشنها التيار السلفي في بعض المناطق الذي يشار الى وجود مريدي المذهب الشيعي بها كولاية عين تموشنت غرب البلاد، عبر توزيع مطويات معنونة ب”التحذير” يتحدث فيها شخصية تدعى “ربيع بن هادي المدخلي” وهو رمز لأحد أكثر المجموعات السلفية تشدداً وتركيزاً على فكرة طاعة ولي الأمر ويعرف أتباعه بالمداخلة أو الجامية. عن خطر انتشار دين “الروافض”[29]، في نفس السياق تتحدث الصحافة الجزائرية عن مجموعة من الشباب مجهولي الهوية تقوم بتوزيع منشورات ومطويات تدعو صراحة إلى اعتناق المذهب الشيعي عبر عدة دور عبادة بولاية البويرة الجزائرية [30] الواقعة جنوب العاصمة .

وفي الوقت الذي يوزع الشباب السلفي الجزائر مطويات للشيخ السعودي ربيع المدخلي [31]، دعا الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر في أواخر سنة 2015 شيعة الجزائر إلى عدم الخضوع للمتشددين، كما دعاهم التحرك والخروج من قوقعتهم والتنسيق مع الأقليات الدينية الأخرى من أجل نيل حقوقهم[32]، وصولا إلى استعمال عبارة “الثلة الضالة”[33] في وصف من يظلمون شيعة الجزائر، كما لم يتوانى في توجيه الانتقاد للخارجية الأمريكية لتجاهلها وجود أتباع لمذهب التشيع بالجزائر من منطلق أن تصريحه كان عقب صدور التقرير الأمريكي الخاص بالحريات الدينية في العالم لسنة 2015 [34]، كل هذا يشير إلى أن الصراع السلفي/الشيعي بالجزائر أضحى غير قابل للانفصال عن سياق الصراع العالمي بين التيارين الذي يظهر جليا عبر كامل الشرق الأوسط، وبدأ ينتقل بخطوات محتشمة لكن خطيرة إلى المجتمع الجزائري.

هنا تفتح أبواب التساؤل على مصراعيها حول إمكانية السيطرة على هذا التجاذب بين التيارين داخل المجتمع الجزائري، والمحافظة على سلميته وعلميته، آي اقتصاره على منشورات ومطويات، وفي بعض الأحيان وقفات احتجاجية ذات صلة بالصراع[35] ، فإحساس التيار السلفي بكونه مدعوم جماهيريا وحتى سلطويا ربما، وتنامي شعور شيعة الجزائر بعدم الأمان كفيل بإحداث تصادم مذهبي مسرحه المجتمع الجزائري الذي ليس له تجارب فيما يخص هذا النوع من النعرات والتوترات ذات النزعة الدينية، هذا النوع من الصراعات الذي لن تتردد أطراف إقليمية في تغذيته خاصة وأن الجزائر تعتبر من الدول ذات التجارب الرائدة فيما يخص الاستقرار وصلابة المؤسسات الإستراتيجية.

خاتمة

لا يمكن للسلطات الجزائرية أن تقبض على مواطن جزائري أو تحاكمه لأنه صار شيعيا انطلاقا من أن الدستور الجزائري يقر حرية المعتقد، كما أن أمرا كهذا لا يعد من أعراف وأخلاقيات الجمهورية، لكنها في الوقت ذاته لا تتسامح مع من يروج له، أو يقوم بعمليات تبشيرية تجذب إليه، كحيازة منشورات أو نشاطات جمعوية تبشيرية وهذا ما تتناوله وسائل الإعلام في غالب الأحيان[36]، وهنا يتضح وجود مأزق وحساسية أمنيتين فيما يخص ملف التشيع في الجزائر، ففي الوقت الذي تضغط جهات إعلامية وكذا تيارات إسلامية على السلطة وتوجه أنظارها كل مرة إلى خطر المد الشيعي تقف الإدارة الجزائرية أمام الحاجز الحقوقي والدستوري فلا يمكن الزج بآلاف ممن صاروا شيعة في السجون أو تقديمهم أمام محاكمات لأن التهمة هنا تكون غير منطقية، كما أن حجب المواقع والفضائيات، ومنع استيراد الكتب، كلها استراتيجيات تبقى قاصرة أمام التطور التكنولوجي، إذ يمكن منع دخول كتاب عبر المطار، لكن لا يمكن منع تحميله من على الإنترنيت.

الحل المتاح إذا ما اعتبرنا أن المد الشيعي تهديدا واقعا للأمن المجتمعي الجزائري هو تحييد مراكز التأثير والتي تثار حولها شبهات نشر المذهب الشيعي، كسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث أنه من حق السلطات الجزائرية لضرورات أمنية مراقبة تحركات البعثة الإيرانية، وجولات المسئولين الإيرانيين عبر كامل تراب الجمهورية، مع منع الجمعيات الشيعية من إقامة نشاطات تبشيرية أو توزيع منشورات أو غير ذلك من أدوات الترويج الفكري، هذا المسعى يتصاحب معه دور روحي تأخذه المؤسسة الدينية على عاتقها عبر دور العبادة ووسائل الإعلام في سبيل تقويم التكوين الديني للفرد الجزائري مما يجعل مناعته الهوياتية أكثر يقينية وصلابة أمام المؤثرات الخارجية والأفكار التي تمس جوهر نظامه العقائدي والديني.

الحديث عن كون الولايات الحدودية هي الأكثر استهدافا بعمليات التشيع، يستحضر بإلحاح واقع التنمية في هذه المناطق شرقا وغربا، إذ أن المدخل التنموي يلعب دوراً مهماً في انسيابية الترويج لمعتقدات وأفكار بين أوساط الفئات المهمشة والتي لم تشملها القدرات التوزيعية، والمشاريع التنموية التي تسطرها الحكومة الجزائرية، فالتنمية تعد عاملا حاسماً في تثبيت تمسك الأفراد بمكنوناتهم ومبادئهم في مواجهة قوى التغيير، والعكس إلى حد ما صحيح.

اليوم، وجود شيعة في الجزائر أضحى أمراً واقع، و وجود أطراف إيرانية تقف وراء ذلك أصبح متداولا من طرف وسائل الإعلام، والأوساط المثقفة، والتيارات الإسلامية ( السلفية تحديدا) بشكل صريح وواضح، والخطر قد يتعدى مسألة التشويش على الهوية إلى إمكانية وجود كيانات تشبه حزب الله اللبناني، وحزب الدعوة (بشكله السري في وقت الرئيس السابق صدام حسين) بالجزائر تنافس الدولة في ممارسة العنف المشروع وتقف ككيانات موازية لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جعل التيار السلفي يتولى مهمة التصدي للتشيع قد يجعل السلطة مجبرة على تقديم تنازلات له تجعله في موقع قوى ونفوذ تتخوف وتتوجس منها السلطة نفسها وكذا حلفائها السياسيين.

للتحميل من هنا

المصدر : مركز برق للأبحاث و الدراسات