الفجوة الثقافيةليس هناك من شك أن النخبة المثقفة الواعية هي الرصيد الحقيقي في جميع المجتمعات ولدى سائر الشعوب والأمم، ذلك أن الصفوة المتعلمة أو النخبة الواعية من جمهرة المثقفين هم ركيزة كل نهضة في أي مجتمع من المجتمعات البشرية، وكلنا نتحدث ونسمع عن تشجيع الدول والحكومات للثقافة والمثقفين، وهذا أمر معروف ومفروغ منه، ولكن ما هو غير معروف أو غامض أو مشوب بالتباسات كثيرة هو تشجيع المجتمع، الناس، الجماهير للثقافة، وهو أمر يحتاج إلى بحث واستقصاء وحوار، ونستطيع في هذه العجالة أن نقارن بين تشجيع المجتمعات المتقدمة للثقافة، وتشجيع المجتمعات النامية لها، وسنفعل ذلك من خلال توضيح درجة الاتصال والتفاعل الثقافي بين منتجي الثقافة ومتلقي ومستخدمي ومستهلكي الثقافة.
فإذا تكلمنا عن استهلاك ثقافي للمادة الثقافية كما يحدث تماماً في استهلاك أي مادة أخرى، فإننا سنكون وجهاً لوجه أمام علاقة منظمة وحيوية في الدول المتقدمة قائمة بين المنتجين الثقافيين والمستهلكين الثقافيين من الشعب والمجتمع، وهذه العلاقة تكشف عن وعي وحيوية وحضارة المجتمع، فالمجتمع الذي يجعل الثقافة جزءاً من استهلاكه اليومي يختلف عن المجتمع الذي لا يجعل من الثقافة جزءاً من استهلاكه اليومي أو الشهري أو السنوي، ويكاد مجتمعنا العربي أن يكون هو هذا المجتمع التقليدي، الذي يعتبر الثقافة نافلة وزائدة عن الحاجة للاستهلاك، فما الذي يحدث في هذه الحالة؟ تصاب مؤسسات الإنتاج الثقافي بالعطب أو تتوقف عن الاستمرار، تماماً مثلما تتوقف أي مؤسسة أو شركة منتجة لتوقف التمويل المادي الضروري للاستمرار، ونحن لا نملك مؤسسات ثقافية كثيرة كما نملك مؤسسات تجارية كثيرة، إذاً فالمجتمع مثل الحكومة يستطيع أن يرفع أو يحط من قدر الثقافة ومؤسساتها.
ورغم أننا جملة نعيش- في عالمنا العربي- في مجتمعات نامية وجديدة في التعلم ولكنها لا تشجع الثقافة، ولذلك فإننا نجد أن المجتمع لا يرفع من قيمة المنتوج الثقافي ولا من قيمة المؤسسات الثقافية، بل يتركها حائرة وقلقة ووحيدة، وبالتالي فهو يساهم في طمسها، وهذا الطمس الثقافي يحدث على المستوى الفردي أو على المستوى المؤسساتي ضد الفرد المنتج للثقافة وضد المؤسسة الثقافية. ونحن سمعنا بالطبع عن مجموعة من كتّاب العالم الغربي الذين تفرغوا للكتابة بعد طبع كتاب أو كتابين، لأن الجمهور القارىء المستهلك للثقافة في شكل كتاب سيستهلك ملايين النسخ أو مئات الآلاف أو عشرات الآلاف أو على الأقل آلافاً فقط، مما يتيح للمؤلف التفرغ للإنتاج، وفي المسرح تذهب الجماهير بالآلاف على مدار أعوام في الدول المتقدمة لمشاهدة مسرحية واحدة وهناك مسرحيات ظلت تعرض عقوداً، مما يعني أن هذه المؤسسة المسرحية قد أصبحت قادرة على تغطية نفقاتها، وتوزيع ريع من الأرباح على منتجي وفناني المسرح ليتفرغوا ويبدعوا.. هكذا.
وفي حالة الكتاب فإن الأمر يبدو أكثر وضوحاً والفجوة الاجتماعية الثقافية تبلغ الذروة، ففي بلدان عربية يبلغ سكانها عشرات الملايين تطبع بضعة آلاف من النسخ، بل وفي بعضها تطبع مئات من النسخ. إذاً فالجمهور الواسع الذي يستهلك كل شيء ولا يتحمس لاستهلاك الثقافة واستخدامها يجر أضراراً كبيرة على الثقافة. ويقول لنا أحد موزعي الكتب، نحن نبيع في حدود مائتي نسخة أو أقل من أفضل الكتب ولأفضل كتّابنا وأدبائنا المعروفين وخلال مدة الستة أشهر الأولى، ونستطيع أن نلاحظ بأن هذه الأشهر الأولى هي المهمة وبعدها يموت الكتاب، فيما الكتاب الجيد في الدول المتقدمة يستهلك منه خلال شهور عشرات الآلاف من النسخ، ولذلك فإننا نجد أن وضعية منتج الكتاب في عالمنا العربي مؤسية جداً، ومؤلف الكتاب سيتلقى في هذه الحالة صفعتين، الخسارة المادية وإحساسه ثانياً بأنه غير مقدر أو مثمن في مجتمعه، مما يحيله إلى الإحباط وربما التوبة من معاودة التجربة مرة أخرى، بل أستطيع القول بأن الخسارة المادية أهون كثيراً على الكاتب من الخسارة المعنوية، وسيكون المؤلف في وضع لا يحسد عليه من الشعور بالمرارة، فإما أن يكون هو في مجتمع لا يقدر الثقافة ويستخف بها وعليه في هذه الحالة أن لا ينتج لهذا المجتمع، وإما أن يتعالى على هذا المجتمع وينغمس في كتابة هلوسات تضاعف من عزلته وشعوره بالغربة. ولن ننتهي من موضوعنا قبل أن نذكر تقصير المؤسسات التجارية الخاصة في مجال استهلاك الثقافة وتعزيز انتشارها، فبوسع هذه المؤسسات أن تتبنى مشاريع ثقافية كاملة.


د. أحمد غنام