لحظة أخرى .. حين أنتهي من قراءة كتاب ما . لا يتعلق الأمر بكل كتاب،بل ببعضها فقط .. فثمة كتب الانتهاء منها "عيد" .. وبعضها على العكس فاقه صعب .. أمس احتسيت القطرة الأخيرة من السيرة الذاتية للأستاذ عبد الله بن إدريس .. لاشك عندي أن بعض الكتب يخرج مها القارئ وقد أصبحت بينه وبين المؤلف ألفة .. بعد تلك الصحبة أو الرحلة التي جمعتهما .. فحين تعيش - قارئا – مع إنسان مرحلة طفولته .. ثم شبابه .. وصولا إلى كهولته .. تلك رفقة عمر .. بشكل من الأشكال.
البداية مع شكل الكتاب .. فهو من القطع المتوسط .. والنص يسبح في بحر من البياض .. الحواشي كبيرة،خصوصا من الأعلى .. ويتربع النص "الأسود"في وسط ذلك البحر الأبيض ..
شكل الكتاب طار بي إلى رواية قرأتها في صغري .. لا أذكر إلا عنوانها"مولن الكبير" وهو عنوان فرعي لعنوان آخر أنسيته .. وفي المخيلة وقع أحداث سلسة .. هادئة .. في ريف رائق ..
كانت النية أن أقوم بسياحة في الكتاب .. ولكنني خشيت أن ينضم الكتاب إلى كتب أخرى .. ولدت لديّ النية ثم اختفت في زاوية من زوايا الذاكرة المتعبة.
تجنبا لذلك المصير .. رأيت أن آخذ ومضات من المذكرات .. أسمي "المذكرات" و"الرحلات" المادة الأولية للتاريخ .. التاريخ،يكتبه المنتصرون،كما يُقال،أما المذكرات والرحلات .. فتزف إليك معلومة بطريقة عفوية .. يستطيع الباحث التاريخي أن يكمل بها أجزاء الصورة.
اللافت في مذكرات الأستاذ عبد الله .. أو الصفة الأبرز،ربما،تلك الصفة التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم .. الاعتزاز بالنفس .. وإكرامها .. وصفة أخرى صعبة جدا .. أن يقول وجهة نظره كما يراها دون مداهنة.. وفي وجه الكبير قبل الصغير.
قبل أن نأخذ الومضة الرئيسة .. مرة أخرى نقف مع نقاط صغيرة هنا أو هناك .. سنأخذها مما أهمله الأستاذ الكريم .. وسطره،في المقدمة،ابنه الأستاذ "إدريس" .. والذي يقول :
(من صفات الوالد اللافتة التورع الديني والنزاهة المالية،أما التورع الديني،فقد لمسته في أبي خلال تعليقات بعض زملائه وأصدقائه الذي { هكذا - محمود} يسافرن معه في مهمات عملية إلى خارج المملكة،وكان على خلاف بعضهم لا يتعاطى الممنوعات،فكان مثار تعليقاتهم الساخرة المازحة لفرط تورعه وتقاه ){ ص 9 (قافية الحياة : سيرة ذاتية / عبد بن إدريس / الطبعة الأولى 1434هـ = 2013 "د.ن }.
لو اكتفى الأستاذ"إدريس" بقوله"لفرط تقاه" لكان أكمل .. لأن "الورع"تجنب المشتبه"أو"المكروه" والحديث عن"الممنوعات" .. وفي هذه النقطة ما فيها!!
ويقول أيضا :
(.. الوالد وصل إلى وظائف عليا في كثير من القطاعات التي عمل فيها،ولم يستخدم بعضا من المتاح مثل بعض الموظفين حتى ممن هم أقل منه وظيفة ،فيما كنا نرى نحن أبناءه بعض من هم أصغر منه وظيفيا يتنزهون في سيارات القطاع ..){ ص 10 (قافية الحياة ) ..}.
هنا إشارة إلى "الفساد" أو أحد أوجهه!!
تجنبا للإطالة .. سنذهب إلى الومضة الرئيسة .. حين تحدث الأستاذ "ابن إدريس" عن علاقته بالأستاذ حمد الجاسر .. (ولعل أشد متاعبه وإحباطاته ما واجهه بعد كتابة مقاله الشهير "مرحبا برسول السلام"،والذي كتبه بمناسبة زيارة "جواهر لال نهرو رئيسة { هكذا - محمود } وزراء الهند" إلى الرياض حوالي منتصف السبعينات الهجرية بدعوة من الملك سعود بن عبد العزيز .
لقد غُضب على الشيخ حمد غضبا شديدا من جراء مقاله هذا،وأقيل من وظيفته كمساعد للمدير العام للكليات و المعاهد العلمية. (..) لم يُكتف بإقالة الجاسر من وظيفته،وإنما سُحبت منه الصحيفة نهائيا،وأخلد الجاسر إلى الراحة غير المريحة فترة من الزمن،ثم غادر الرياض بأسرته إلى بيروت حيث أقام هناك عدد سنين،وأنشأ مكتبا ومكتبة في عمارة العزارية المطلة على ساحة البرج في بيروت.
بعد سحب اليمامة من الجاسر بحثت الجهة المعنية عمن تمنح له الصحيفة ويتولى إصدارها مجددا ،حيث مازالت صحافة الأفراد هي القائمة قبل صدور نظام المؤسسات الصحفية،وقد دعاني الأمير عبد الله بن عبد الرحمن – رحمه الله – وهو كبير المستشارين عند الملك سعود،إلى جلسة منفردة معه،وكانت تربطني به علاقة جيدة،فقال : إن الحكومة ترغب أن تعطيك "اليمامة"ملكا لك"هكذا بالحرف" وتعيد إصدارها بما يخدم الدين ومصلحة البلد إن شاء الله. هذا العرض من الأمير عبد الله بن عبد الرحمن لابد أن يكون باطلاع وموافقة الملك سعود رحمهما الله.
كان موقفي من هذا العرض هو الرفض القاطع .. سألني الأمير عبد الله : إيش السبب؟ قلت : هي ثلاثة أسباب لا سبب واحد،السبب الأول : أنها ملك لحمد الجاسر كملكي لمشلحي الذي على ظهري،قال : هي ملك الحكومة تعطيها من يصلح لها،قلت : عندي علم أن الأمير طلال بن عبد العزيز قد حاول شراءها من الأستاذ حمد بـ 60000 ستين ألف ريال،ورفض حمد بيعها،سألني : والسبب الثاني؟ قلت : إن الأستاذ حمد الجاسر أستاذي،وليس من المروءة أن أقبل أخذ حق أستاذي بوجه غير شرعي،قال والسبب الثالث :،قلت : إنكم ستفرضون عليّ التوجه الذي تريدونه دون أن يكون لي حق فيما أريد .. وفي نهاية المفاهمة قال الأمير تأكد أنك إن لم تأخذها فسيأخذها غيرك! قلت :عفى الله عنا وعمن يأخذها. ){ ص 325 – 326 (قافية الحياة) .. }
ونختم بهذه الومضة .. عند الحديث عن فترة تلقي العلم في الرياض،على يد الشيخ محمد بن إبراهيم،في الهامش تُسمى مساكن الطلاب الوافدين بـ"الرباط"وقد كتب المؤلف تحت عنوان"الرباط في الرياض" :
(هو أحد مساكن طلبة العلم العديدة في الرياض للوافدين من أنحاء المملكة للدراسة على العلامة الجليل الشيخ محمد بن إبراهيم (..) ومع ذلك،فنحن "الوافدين"من المدن والقرى خارج الرياض ،نسمع أحيانا من يسمينا "جُنّب عَجرا"،ونقول لهم،مازحين،"جُنّب"عرفناها : أجانب،لكم ما المراد بـ"عجرا"؟ فيقولون :"إن بداية الوافدين كان الواحد منهم يحمل على كتفه "العجرا" أي العصا ذات الرأس الكبير المدورة" كل هذا يسير بيننا وبين بعضهم بأسلوب المداعبات،دون غضب منا،أو توتر منهم،ولكن ما استغربناه من بعضهم وأضحكنا أن نسمع عن مؤذن في مسجد ومدير مدرسة كتاتيب يدعو الله عندما يرى هؤلاء"الأجانب!"ومن جملة دعائه "اللهم كما بليتنا بهؤلاء الأجانب،اجعل بلوانا بهم كفاّرة لذنوبنا".
وهذا النوع لا يمثل إلا قلة نادرة"رحمهم الله وعفا عنا وعنهم"){ ص 47 – 48 (قافية الحياة) .. }.
العجيب أن الأستاذ"ابن إدريس" لم يسأل لماذا كان "الوافد"يحمل "العجرا"على كتفه!! ثم ما الذي جعله يتخلى عنها!!
وبعد .. لاشك أن الكتاب مليئ بما لذ وطاب ..
استومضها لكم : س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب