*عنوان المقال: مشروع "التراث والتجديد" عند "حسن حنفي"، مخططه وسماته
*الدكتور بوبكر جيلالي،أستاذ بكلية الآداب واللّغات،جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف.
*الهاتف: 07.79.54.80.26
*البريد الإلكتروني:boubakerdjilali @ yahoo.fr
الملخّص باللّغة العربية:
ارتبط "مشروع التراث والتجديد" بالأزمة التي يتخبط فيها العالم العربي والإسلامي المعاصر فكريا واجتماعيا، انطلق من موقفين أساسيين، موقف حضاري من التراث عامة وموقف حضاري من الواقع ومن الآخر، كما اعتمد على محاولات إعادة بناء الفكر والعلم التراثيين، لذا وضع المقال يده على مخطط المشروع وعلى أسسه وسماته التي تمثل خصوصياته وشروط مشروعيته من الناحية النظرية.
مشروع "التراث والتجديد" عند "حسن حنفي"مخططه وسماته
1- مخطط مشروع "التراث والتجديد":
إن ما دفع الباحثين في الفكر العربي القديم والمعاصر إلى دراسة التراث وإلى التفكير في المشروع الحضاري القومي للأمة العربية والإسلامية هي الأزمة التي تتخبط فيها هذه الأمة، أزمة تتميز بالعمق والتعقيد وتزداد تفاقماً من وقت إلى آخر في وقت يزداد فيه الغرب المتقدم ازدهاراً. وأمتنا تراثية تاريخية، لا يمكنها أن تعيش خارج موروثها الثقافي والحضاري كما لا يمكنها أن تنعزل عما يجري في عصرها وهو عصر كله تحديات حضارية. وأمام أزمة الثورة والتغيير الاجتماعي وأزمة البحث العلمي وهي أزمة التراث والتجديد ينطلق 'حسن حنفي' وهو واحد من المفكرين المعاصرين في بناء مشروع فكري نظري حضاري قومي يكون عند صاحبه خطة عمل نظرية للخروج من التخلف وتجاوز الأزمة التي تعيشها الشعوب العربية والإسلامية في واقعها المعاصر.
انطلقت عملية التفكير في المشروع وبنائه وتدوينه في ظروف عصيبة وأوضاع صعبة تميزت بغياب القيم وغياب محددات وموجهات الفكر والعمل وضياع الذات العربية الإسلامية، بين ذوات كثيرة و مختلفة و تغربت في الآخر، وغاب لديها الفكر و النظر ، انطلق المشروع ليربط بين الحاضر والماضي، وتؤصل الحاضر في الماضي ويبعث التراث ويجده في الحاضر ليصبح قوة ومناعة في بناء الحاضر، على أساس أن الثقافة القائمة خارج الحياة والعصر لا معنى لها ولا جدوى منها، والفاقدة للبعد التاريخي وللارتباط بشعور ووجدان الأمة لا قيمة لها، وهذا ينطلق على المشروع وعلى الثقافة التي يدعو إليها. فالأمة التي تحيا حاضرها وعصرها بما فيه وتؤصل ما تملكه من خصوصية تراثية و تاريخية في عصرها وحاضرها متطلعة باستمرار إلى مستقبل مشرق مبني على رؤية محكمة يقوم عليها مشروع حضاري محدد الأبعاد والجبهات تكون أمة ذات وعي حضاري تاريخي قادرة على النهوض والاستمرارية في التقدم وهو الأمر ذاته الذي عرفته الأمم السابقة التي تحضرت أو الأمم المتحضرة حديثاً ومعاصراً.
ومشروع 'التراث والتجديد' من خلال جبهاته والموقف الحضاري فيه وخصائصه يظهر أنه لا يخص المفكر أو المثقف العربي الذي يعيش في البلاد العربية بمفرده ولا يخص الثقافة العربية الإسلامية وحدها فهو مشروع واقع ككل، واقع فيه أزمة التخلف الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى النفسي، فهو مشروع يريد به صاحبه تحرير الإنسان بشكل عام والإنسان العربي من التخلف وإعادة تشكيل عقله وفكره ووجدانه وتحريره من كل أشكال الاغتراب التي تحاصر وجوده من كل جهة وجانب، وتحرير الثقافة بشكل عام والثقافة العربية الإسلامية لدى الشعوب المتخلفة من أزمتها وجذور الأزمة الداخلية والخارجية، لذا الهدف الأكبر لهذا المشروع هو التحرر، تحرر الذات من ظاهرة الاغتراب الحضاري بنوعيه الداخلي والخارجي أي ترتيب البيت الداخلي وانطلاق معركة البناء الحضاري.
يقول 'حسن حنفي': يتكوّن"مشروع 'التراث والتجديد' من جبهات ثلاثة: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع (نظرية التفسير). ولكل جبهة يبان نظري."[1] والبيان النظري لكل جبهة من الجبهات الثلاث موجود في كتاب 'التراث والتجديد' الذي يمثل البيان النظري للمشروع برمته، جبهات وأقسام كل جبهة، وأجزاء كل قسم. فالجبهة الأولى هي جبهة الموروث القديم و الموقف الحضاري منه تقوم على دراسة و نقد التراث و نقله إلى حاضر الأمة و إلى عصرها ليصبح عنصر قوة وعامل تجديد وبناء وازدهار في جميع المستويات الحياتية لأنه لازال وبقوة مخزونا نفسياً في نفوس أبناء الأمة العربية والإسلامية وتحويله إلى طاقات وشحنات البناء الحضاري أمر ممكن. أما الجبهة الثانية من جبهة الآخر أو الغرب الأوربي المتقدم والموقف الحضاري منه من خلال قراءة الآخر ونقده في إطار جدل الأنا والآخر هذا الجدل المبني على المركز والأطراف كظاهرة فكرية وعلى مركب العظيمة عند الآخر ومركب النقص عند غيره كظاهرة سلبية وغير إنسانية، رؤى وأفكار تأسست بفعل الاستشراق وبفعل الأغراض التي تخدمها، والموقف الحضاري ببعده المستقبلي في هذه الجبهة يتوقف على 'علم الاستغراب' وهو العلم الجديد الذي ينشأ في مقابل الاستشراق ويؤدي لا محالة إلى "انتهاء 'الاستشراق' وتحوّل حضارات الشرق من موضوع إلى ذات، ومن أحجار إلى شعوب، وتصحيح الأحكام التي ألقاها الوعي الأوربي وهو في عنفوان يقظته على حضارات الشرق وهي في عمق نومها وخمولها."[2]
والجبهة الثالثة والأخيرة هي جبهة الواقع، والموقف الحضاري منها في المشروع الحضاري ككل يتمثل في إيجاد نظرية في تفسير الواقع تعتمد على منهج تحليل الخبرات تدرس الأنا و الآخر، الموروث والوافد لا على أساس التبرير والرفض أو الانعزال كما فعلت وتفعل الاتجاهات الفكرية والمشاريع الحضارية القائمة بل على أساس التنظير المباشر للواقع والتعامل مع تحدياته ومتطلباته في جميع جوانب الحياة لدى الفرد والمجتمع والأمة وحتى الإنسانية جمعاء. والجبهات الثلاث والموقف الحضاري المطلوب في كل منها ذات أبعاد زمانية الجبهة الأولى، جبهة التراث وزمانها الماضي والجبهة الثانية جبهة الآخر أو الغربي الأوربي وثقافة الوافد القديم والحديث، وزمانها المستقبل، أما جبهة الواقع وتحدياته ومتطلباته فزمانها الحاضر. و'التراث والتجديد' هو العنوان العام للمشروع كله الذي يتكون من ثلاث جبهات وثلاثة مواقف وثلاثة أبعاد زمانية فهو مشروع غزير وضخم، كثير الأجزاء والفصول والأبواب من يشتغل به يشتغل على أكثر من مستوى وعلى أكثر وجهة نظر وعلى أكثر من عصر، يتناول عوالم ثقافية متعددة ومتباينة وينظر في تجارب إنسانية مختلفة فهو ترسانة معرفية وثقافية يحشدها في وجه قرائه.
ويرى 'حسن حنفي' أن الجبهات الثلاث تشير "إلى جدل الأنا والآخر واقع تاريخي محدد. فالجبهة الأولى 'موقفنا من التراث القديم' تضع الأنا تاريخها الماضي وموروثها الثقافي. والجبهة الثانية 'موقفنا من التراث الغربي' تضع الأنا في مواجهة الآخر المعاصر وهو الوافد الغربي الثقافي أساساً، والجبهة الثالثة 'موقفنا من الواقع(نظرية التفسير)' فإنها تضع الأنا في نظم واقعنا المباشر تحاول تنظيره تنظيراً مباشراً فتجد النص جزءاً من مكوناته سواء كان نصياً دينياً مدوناً من الكتب المقدسة أو نصاً شعبياً شفهيا من الحكم والأمثال العامية، الجبهتان الأوليتان حضاريتان نصيتان بينما الجبهة الثالثة واقع مباشر. ويمكن رؤية الجبهات الثلاثة وكأنها أضلاع مثلث والأنا في وسطها. الأول للتراث القديم، (الماضي) والثاني للتراث الغربي، (المستقبل)، والثالث للواقع المباشر (الحاضر) على النحو التالي:



الأنا








فإذا كانت الجبهة الأولى تتعامل مع الموروث فأن الجبهة الثانية تتعامل مع الوافد. وكلاهما يصبان في الواقع الذي نعيش فيه."[3] وتتطابق الجبهات الثلاثة كما رأينا سابقاً مع أبعاد الزمان الثلاثة، الجبهة الأولى مع الماضي والجبهة الثانية مع المستقبل والجبهة الثالثة مع الحاضر. ويردّ صاحب المشروع الجبهات الثلاثة إلى اثنتين هما النقل والإبداع الزمان الماضي والمستقبل والمكان هو الحاضر أي الفكر والواقع، الحضارة والتاريخ، الأولى والثانية تراثيتان والتحدي أمامهما غياب طرف الواقع والإبداع، فالنقل موجود من التراث والوافد أما الإبداع غائب في الواقع. كما ترتبط الجبهات فيما بينها. " وبهذا نجد التراث القديم والوافد يعمل على إيقاف التغريب وفي "الواقع المباشر الذي يعاد فيه بناء التراثين القديم والغربي معاً فإن أخذ موقف نقدي منهما يساعد على إبراز الواقع ذاته وفرض متطلباته على قراءة التراثين معاً."[4] وبهذا تتداخل وتكامل الجبهات الثلاث والمواقف الثلاث وأبعاد الزمان الثلاثة من خلال نظرية في التفسير محكمة جريئة وقابلة للتنفيذ.
ومشروع 'التراث والتجديد' بجبهاته الثلاث مشروع قومي حضاري لا يعالج مناهج البحث في الموروث القديم أو في الوافد أو في الواقع المعيش فحسب بل مسؤوليته فردية ووطنية وقومية وحتى أممية، "فالمعركة الحقيقية الآن معركة فكرية وحضارية ولا تقل أهمية عن المعركة الاقتصادية أو المعركة المسلحة، إن لم تكن أساسها. وإن الهزيمة المعاصرة هي في جوهرها هزيمة عقلية كما أنها هزيمة عسكرية. وإن الخطر المداهم الآن ليس هو فقط ضياع الأرض بل قتل الروح وإماتتها إلى الأبد وانجرارنا إلى نقد الأصالة في تراثنا القديم ونقد المعاصرة التي حولها تراثنا القديم مع الثقافات المعاصرة له. 'التراث والتجديد' هو مشروع الأصالة والمعاصرة التي لم نستطع أن نحققها حتى الآن، وبعد توالي الهزائم، ولم نكن نلمسها إلا دعاية أو ادعاء. ويشمل 'التراث والتجديد' ثلاثة أقسام، تعبر عن موقفنا الحضاري الحالي الذي يحدد اتجاهات الدراسة والبحث."[5]
الأقسام الثلاثة التي يتكون منها مشروع 'التراث والتجديد' والتي تمثل الجبهات الثلاث، موقفنا من التراث القديم، وموقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع أو نظرية التفسير، كل قسم منها له أجزاء يكون "على النحو الآتي:



التراث والتجديد




1) موقفنا من التراث القديم
1- من العقيدة إلى الثورة.
2- من النقل إلى الإبداع.
3- من الفناء إلى البقاء.
4- من النص إلى الواقع.
5- من النقل إلى العقل.
6- العقل والطبيعة.
7- الإنسان والتاريخ.

2)- موقفنا من التراث الغربي.
1 - مصادر الوعي الأوربي.
2 - بداية الوعي الأوربي.
3- نهاية الوعي الأوربي.

3)- موقفنا من الواقع.
1- المناهج.
2-العهد الجديد.
3-العهد القديم.












القسم الأول تمثله الجبهة الأولى ويمثله موقفنا من التراث القديم يهدف أساساً إلى إعادة بناء العلوم التقليدية النقلية العقلية ابتداء من الحضارة ذاتها من خلال الدخول في بنائها والعودة إلى أصولها لإبراز نشأتها وبيان تطورها بالنسبة لكل علم أو بالنسبة لجميع العلوم، يتشكل هذا القسم من سبعة أجزاء كل جزء يخص علم أو مجموعة من العلوم، فالأول يخص علم أصول الدين ويسمى علم الإنسان وهو محاولة لإعادة بناء أصول الدين من خلال شعار وعنوان هذا الجزء 'من العقيدة إلى الثورة'. والثاني يخص الفلسفة أو علوم الحكمة ويسمى فلسفة الحضارة وهو محاولة لإعادة بناء الفلسفة وعلومها الإلهيات والطبيعيات والمنطق من خلال شعار أو عنوان هذا العلم 'من النقل إلى الإبداع'. والثالث يخص التصوف ويسمي المنهج الصوفي وهو وهو محاولة لإعادة بناء علوم التصوف التي شهدها تراثنا من خلال شعار أو عنوان لهذا العلم 'من الفناء إلى البقاء'. والرابع يخص علم أصول الفقه ويسمى المنهج الأصولي وهو محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه من خلال شعار أو عنوان هذا العلم 'من النص إلى الواقع'. والخامس يخص العلوم النقلية البحتة الخمسة (علوم القرآن، علوم التفسير، علوم الحديث، علوم السيرة، وعلوم الفقه) وشعار ذلك وعنوانه 'من النقل إلى العقل'. أما الجزء السادس فيخص العلوم العقلية الرياضية والطبيعية وهو محاولة لإعادة بناء هذه العلوم وشعار ذلك وعنوانه 'الوحي والعقل والطبيعة'. أما الجزء السابع والأخير فيخص العلوم الإنسانية الاجتماعية واللغوية والتاريخية وغيرها وهو محاولة لإعادة بناء العلوم الإنسانية بمختلف فروعها وشعار ذلك وعنوانه 'الإنسان والتاريخ'.
القسم الثاني تمثله الجبهة الثانية ويمثله موقفنا من التراث الغربي يهدف أساساً إلى إعادة بناء حضارة إسلامية جديدة بالإضافة إلى الحضارة الإسلامية القديمة الموروثة، وتحديد الموقف من التراث الغربي أو الوافد جزء من حركة التاريخ وتطور الحضارة واستمرارها بدأناه في العصر القديم وهو تحليل الواقع المعاصر الذي أصبح التراث الغربي جزءا منه خاصة لما أصبح العالم العربي والإسلامي منذ القرن التاسع عشر في مواجهة مفتوحة مع التراث الغربي والحال صار أسوءاً لما تحوّل الوفود إلى غزو، والتقليد إلى تغريب وتغرّب. والموقف من التراث الغربي واجب قومي ووطني لتأصيل الموقف الحضاري، وهو معركة مع الوافد في مواجهة الاستعمار الثقافي وإيقاف التغريب مهمة شرف، شرف الأنا لإظهار حدود الثقافة الغربية وبيان "محليتها بعد أن ادعت العالمية والشمول وإخراج أوربا من مركز الثقل الثقافي العالمي وردها إلى حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة."[6] كما يهدف هذا القسم إلى عرض الحضارة الإسلامية انطلاقاً من حضارة أخرى إما نقداً أو تأكيداً ذلك لوجود تقاطع بين علوم الحضارة الإسلامية وعلوم أخرى في حضارات أخرى في النشأة والتكوين والأهداف. والبحث مرتبط ليس فقط بحضارة الباحث بل بحضارات أخرى متاخمة له الأمر الذي يجعل الباحث ينقد فكر الآخر بلغة حضارته القديمة أو يعبر عن فكره بلغة حضارة أخرى. فالبدء دوما من حضارة ما حضارة الأنا أو حضارة الآخر. ويشمل القسم الثاني ثلاثة أجزاء، الجزء الأول والثاني كل منهما موزع على جزأين فالجزء الأول يخص مصادر الوعي الأوربي بالنسبة لعصر أباء الكنيسة وهو محاولة لدراسة نشأة الفكر الغربي في الفترة من القرن الأول حتى القرن السابع أي عند أباء الكنيسة اليونان ثم الرومان. وبالنسبة للعصر المدرسي الذي يمثل تاريخ الفكر الغربي في مرحلة العصر الوسيط المتأخر وهي فترة تواكب ازدهار الحضارة الإسلامية وبلوغها أوجها. الجزء الثاني يخص بداية الوعي الأوربي بالنسبة لمرحلة الإصلاح الديني وعصر النهاية وفي محاولة لدراسة تاريخ الفكر الأوربي خلال الإصلاح الديني والنهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وهي فترة رفض سلطة القديم وبداية التنوير. كما يخص هذا الجزء كذلك العصر الحديث وهي محاولة لدراسة بداية تاريخ الشعور الأوربي في القرنين السابع عشر والثامن عشر وبداية القطيعة بين القديم والجديد، بين الفكر في مستواه الصوري وفي مستواه المادي. أما الجزء الثالث في القسم الثاني يخص نهاية الوعي الأوربي بالنسبة للعصر الحاضر وهو محاولة لدراسة تاريخ الشعور الأوربي في لحظته الأخيرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين حيث يحاول الفكر أن يجمع بين الاتجاهين المثالي والمادي فأفقد الشعور توازنه "في رؤية الظواهر حتى أتت الفينومينولوجيا فاكتملت المثالية الأوربية وعاد الخطاّن المنفرجان إلى الشعور من جديد. وتحول الموضوع إلى الذات حتى قضى نهائياً على الصورية والمادية... فإذا كان القسم الأول من 'التراث والتجديد' وهو 'موقفنا من التراث القديم'، قد أغلق بداية شعور العالم الثالث كطليعة للتاريخ فإن القسم الثاني 'موقفنا من التراث الغربي' يعلن عن نهاية الشعور الأوربي، وتخلّيه عن دور القيادة للتاريخ البشري."[7]
القسم الثالث تمثله الجبهة الثالثة ويمثله موقفنا من الواقع أو 'نظرية التفسير'. الهدف منه إعادة بناء الحضارتين حضارة الموروث وحضارة الوافد معاً والبداية من جديد ابتداء من أصولها الأولى في الوحي أي في الكتب المقدسة، الغاية من هذا القسم هو تحويل الوحي إلى علم إنساني شامل وهذا لا يتم إلا عن طريق نظرية في التفسير تكون منطلقاً للوحي، كل أفكار الإنسان تخضع لنظرية في التفسير، تفسير النص أو تفسير الواقع، الأبنية الخاطئة في العلوم التقليدية، أو في المذاهب الغربية تعود إلى أخطاء في نظرية التفسير ونظرية التفسير بواسطتها تتم إعادة بناء العلوم التي تُحوّل طاقة الوحي إلى الإنسان وتصبها في الواقع، عرض التراث لا كحضارة لها زمان ومكان لكن باعتبارها فكراً حرّا مستقلاً نابعاً من الوحي ومؤسساً في العقل ومبنياً في الواقع. ويشمل القسم الثالث قسم 'مواقفنا من الواقع' ثلاثة أجزاء. الجزء الأول يخص منهاج الموقف وهو عبارة عن محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي شهدها التراث القديم الكلامية والفلسفية والفقهية والصوفية وتراوحها بين نفسية أو عقلية أو واقعية أو وجدانية ثم وضع نظرية للتفسير تكون جامعة لها كلها. والبحث عن منهاج هو غاية 'التراث والتجديد' محاولة للعثور على منهاج إسلامي عام شامل لحياة الفرد والجماعة ووصف الإنسان في الوعي في علاقته بقواه النظرية والعملية، المادية والروحية، وفي علاقته بالآخرين ومع الأشياء ويكون هذا المنهاج بمثابة الإيديولوجية التي يمكنها تنظير الواقع وهي الحقيقة التي يحث عنها الجميع في تراثنا الإسلامي القديم وفي التراث الغربي الحديث، ويقول 'حسن حنفي' في هذا الجزء: "وهو في الحقيقة حدسنا الأول الذي حدث لنا في مقتبل حياتنا الفلسفية والذي ظل موجهاً لنا في كل كتاباتنا. وسيتم إخراجه ابتداء من نصوص الوحي ذاتها بلا حاجة إلى تراث ويكون هذا هو جزء الوداع."[8] والجزء الثاني هو العهد الجديد وهو عبارة عن محاولة لتحقيق صحة الوعي في التاريخ ابتداء من مراحل الوحي السابقة حتى المرحلة الأخيرة بالنسبة للتوراة والإنجيل من خلال فهم النصوص وسلوك أهل الكتاب باستعمال مناهج النقل التاريخي الشفهي والكتابي والتعرف على الكتب الدينية المقدسة فهما وتمحيصاً وسلوكاً. "و في هذا الجزء تتم مراجعة العهد الجديد نشأة وتكويناً والتمييز بين أقوال المسيح وأقوال الحواريين والفصل بين الكتاب المقدس والتراث الكنسي. وهو نواة التراث الغربي، فالتراث الغربي كله ما هو إلا رد فعل هذه النواة الأولى."[9] أما الجزء الأخير الذي تشمله الجبهة الثالثة فيخص العهد القديم ويعتني بتحليل الكتاب المقدس لدى اليهود والتمييز بينه وبين كتب التوراة وكتب التاريخ وكتب الملوك وكتب القضاة وكتب الأنبياء وكتب الحكمة، دراسة تطور العقائد عند بني إسرائيل لمواجهة أهل الكتاب لأن تطور العقائد لدى بني إسرائيل غير مستقل "عن تاريخهم القومي: عصر البطاركة، عصر الأنبياء، عصر التدوين، والعصر الوسيط والعصر الحديث، وقد كانت هذه سنة علمائنا القدماء في التعرض إلى نقد الكتب المقدسة. وما زال المطلب قائماً. فنحن ما زلنا في مواجهة أهل الكتاب بمواجهتنا لمخاطر الاستعمار والصهيونية."[10]
لقد أنجز 'حسن حنفي' من مشروعه 'التراث والتجديد' البيان النظري للمشروع في كتابه 'التراث والتجديد' كما أنجز وينجز الجزء الأول في الجبهة الأولى، 'من العقيدة إلى الثورة' و'من النقل إلى الإبداع' و'من لنص إلى الواقع' ومن 'الفناء إلى البقاء' يصدر قريباً، كما أنجز البيان النظري للجبهة الثانية، والمشروع ككل أجزاؤه في طور الإنجاز لكن هذا الإنجاز لم يحترم الترتيب الذي وصفه صاحب المشروع فقبل إنهاء القسم الأول يقفز وينجز البيان النظري للقسم الثاني وربما يمثل القسم الثاني ككل. ذلك لاتساع المشروع وكبر حجمه وتركيبه الموسوعي. "وقصر العمر يشكل هاجساً لدى 'حسن حنفي' يهجس به منذ بدأ التفكير بمشروع 'التراث والتجديد' قبل ربع قرن، خصوصاً بعد أن بدأ تنفيذه. وقد قوي هذا الهاجس مع تقدمه في السن وإحساسه بأنه لن يف بما وعد به والأرجح أنه سيجد نفسه مضطرا إلى الاشتغال على الجبهات الثلاث واختصار المشروع أجزاءً وفصولاً."[11]
2- سمات مشروع "التراث والتجديد":
تميّزت فلسفة 'حسن حنفي' وتميز مشروعه الحضاري 'التراث والتجديد' بمجموعة من الخصائص، ارتبطت هذه الخصائص بالظروف الفكرية والثقافية التي تبلورت فيها ملامح مشروعه ومعالم فلسفته. وهي ظروف ارتبطت بماضي الأمة التي يرتبط بها صاحب المشروع تاريخياً وحضارياً فهي أمة تراثية تاريخية، وارتبطت بثقافة غربية أوربية اطّلع عليها المفكر واستفاد منها في دراساته وأبحاثه كما شرح وترجم ودرس بعض الجوانب فيها، كما ارتبطت بواقع أمته المعاصر وتحدياته ومشكلاته ومتطلباته، فجاءت فلسفته وجاء مشروعه يحمل خصائص أملتها ظروف المرحلة التاريخية المعاصرة الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وأفرزتها ثقافة المفكر الواسعة والمتنوعة حول التراث والوافد ومعرفته بالواقع وأزمته وتحكمه في عدة لغات. هذه السمات هي على النحو الآتي:
أ- التراثية: اشتغل صاحب مشروع 'التراث والتجديد' من بداية تعاطيه مع الفلسفة على التراث، ورسالته الأولى في مناهج التفسير جاءت في أصول الفقه، تحمل بوادر محاولة لقراءة أصول الفقه وإعادة بنائه وفق ما يقتضيه العصر وبأدوات مفاهيمية ومنهجية معاصرة وهي تعد مغامرة آنذاك. بعد ذلك تبلور المشروع واتضحت معالم فلسفته وصار التراث الميدان الأكبر الذي يشتغل عليه المفكر في فلسفته وفي مشروعه، فهو الجبهة الأولى والموقف الحضاري في جزئه الأول والأكبر هو 'موقفنا من التراث القديم'، والتراث في المشروع مسؤولية شخصية وقومية في إطاره الحضاري التاريخي، فلا سبيل إلى التخلص من الأزمة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي في غياب قراءة التراث وإعادة بنائه وفق مقتضيات الواقع المعاصر، لأن شعوب العالم العربي المعاصر تعيش على التراث وهو مخزون نفسي حالّ في نفوس أبنائها يؤثر فيهم شعوريا ولا شعوريا، وأيّة محاولة لتجاوز الأزمة خارج التراث ومن دونه هي ضرب من الوهم ونهايتها الفشل، والأمر يختلف عما حدث في الغرب الأوربي، حيث قامت النهضة الأوربية الحديثة بعدما تعرضت كل جوانب التراث للنقد والهدم، لأن الموروث التاريخي الغربي آنذاك ارتبط بجوانب مظلمة فكرياً وسياسياً واجتماعياً و دينياً يجب أن تسقط وتقوم مذاهب وأفكار ومعارف مشرقة تنويرية كانت هي بدايات النهضة الأوربية والحضارة الحديثة و المعاصرة.أما التراث عندنا فيمثل جوانب مشرقة في الثقافة العربية الإسلامية وهو صورة ومادة الحضارة الإسلامية الزاهية التي بلغت قوة أوجها وعزّتها. والتراث في فكر 'حسن حنفي' يمثل الجبهة الأولى وهي "أضخم وأكثر تفصيلاً لأنها أعمق في التاريخ إذ أنها تمتد إلى ما يزيد على الألف وأربعمائة عام. وهي الأكثر حضوراً في وعينا القومي وتاريخنا الثقافي."[12] فالتراث في الفلسفة و في المشروع منطلق وموضوع بحث ودراسة وهدف التجديد في واقع يتعاطى مع الموروث والوافد، وهو في أمس الحاجة إلى التغيير والتجديد ليساهم بدوافع وشروط لإبداع التي يتضمنها في داخله في تغيير العصر وفق مستجدّاته ومقتضياته الراهنة.
ب- التجديدية: إذا كان التراث منطلقاً وموضوع دراسة وهدف فإن التجديد في فلسفة 'التراث والتجديد' يمثل الوسيلة الرئيسية، والأداة التي بدونها لا تحصل عملية التغيير فكرياً واجتماعياً و حضاريا و تاريخياً. فالأزمة أزمة تغيير أوضاع اجتماعية وقبلها فكرية وثقافية، وأزمة بحث علمي ومشكلة منهج في التغيير، تغيير الذهنيات وتغيير العادات والتقاليد وتغيير مناهج البحث والدراسة فالقضية تجديد والمشكلة ليست مشكلة تراث ذاته بل مشكلة تجديد التراث، فلا سبيل لحل أزمة التغيير الاجتماعي وأزمة المناهج في الدراسات الإسلامية وهي أزمة البحث العامي إلا بواسطة التجديد، تجديد اللغة ومنطقها، وتجديد مستويات التحليل وتجديد البيئة الثقافية، وفشل المحاولات المتكررة لحل مشكلة التراث والتجديد يعود أساساً إلى ارتباط تلك المحاولات بحلول مستوردة لأزمة خاصة لها ظروفها وأوضاعها تختلف عن الأوضاع والظروف التي وجدت فيها تلك الحلول، أو الاكتفاء بحلول ذاتية موروثة من القديم ولم تعد تلك الحلول تناسب مشكلات العصر الذي تختلف ظروفه عن الظروف التي نشأ فيها التراث. فالحاجة ملحّة إلى التجديد وهو في مشروع "التراث والتجديد" يمثل كافة المحاولات لإعادة بناء العلوم التراثية بمختلف فروعها وهو ضروري في التعاطي مع الجبهة الثانية واتخاذ موقف حضاري من الغرب وثقافته خاصة إذا كان التجديد في الغرب واقعة تحصل يومياً وباستمرار وهي ميزة العصر وحضارته التي بلغت ذروتها في التقدم والازدهار على المستوى النظري والعملي معاً، والتجديد ضرورة ملحّة في التعاطي مع الجبهة الثالثة واتخاذ موقف حضاري من الواقع الذي صار يتحدد بفعل الوافد المحلي الذاتي. "فالتراث والتجديد هو القادر على التنظير المباشر لأنه يمدّ الواقع بنظريته في التفسير وقادرة على تغييره، فالتراث هو نظرية الواقع، والتجديد هو إعادة فهم التراث حتى يمكن رؤية الواقع ومكوناته."[13] والتراث والتجديد عند 'حسن حنفي' "يؤسسان معاً علماً جديداً وهو وصف للحاضر وكأنه ماض يتحرك، ووصف للماضي على أنه حاضر معاش في بيئة كتلك التي نعيشها حيث الحضارة فيها مازالت قيمة، وحيث الموروث ما زال مقبولاً."[14]
ت- النقدية: يمثل النقد في فلسفة 'حسن حنفي' الوسيلة لقراءة التراث والوافد والواقع من خلال جبهات المشروع الثلاث، والموقف الحضاري المطلوب في كل منها، الموقف من التراث يقوم على قراءة التراث ونقده ونقد قراءات المتعاملين معه من دعاة التواصل أو أنصار الانقطاع أو أصحاب الانتقاء. فالدعوة الأولى ذات الإصلاح الديني تأخذ التراث برمته بلا تفحيص أو تمحيص فتصطدم بالواقع المعارض لها فكرياً ودينياً وسياسياً وحتى عسكرياً. أما دعوة الانقطاع فهي الدعوة إلى أخذ ما ليس لها وترك ما لها فيقضي على الإبداع الذاتي من أجل التقليد الخارجي، "ويعطي الأنا أقل مما تستحق، ويعطي الآخر أكثر مما يستحق. يرفض تقليد القدماء ويقع في تقليد المحدثين أما الموقف الثالث وهو موقف الانتقاء ... قد يقضي هذا الاختيار على تاريخية التراث القديم وبفصل أجزائه عن الكل الذي نشأ فيه ... لذلك قد تكون الضرورة ملحّة إلى موقف رابع من التراث القديم يتجاوز المواقف الثلاثة السابقة: التواصل والانقطاع والانتقاء إلى إعادة البناء."[15] ويمارس النقد في الجبهة الثانية بل يبني العلم الجديد "علم الاستغراب" على أساس نقد الثقافة الغربية ونقد المتعاملين معها دراسة وتأثرا من خلال نزعات التواصل والانقطاع والانتقاء، "علم الاستغراب" بديل طبيعي يقوم على النقد والتأسيس، والنقد هنا لا لأجل النقد فحسب بل لرد الآخر إلى مكانه الطبيعي بعد تضخمه وامتداده واسترجاع الأنا لمكانه الطبيعي داخل المسار الحضاري التاريخي، ويعتمد على النقد في بناء الموقف الحضاري من الواقع أو في نظرية التفسير باعتبارها بديلاً عن موقف الرفض وموقف التبرير وموقف الانعزال وهي "لا تؤدي إلى تغيير الواقع أو حتى إلى فهمه بل تدل على عدم نضج في التعامل معه."[16] وبالتالي ضرورة وجود موقف يقوم على التنظير المباشر للواقع. ويمارس المفكر النقد في فلسفته بشكل عام فينقد الفكر المعاصر والتراث القديم والتراث الغربي، كما ينقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية في العالم العربي خاصة الأنظمة السياسية الجائرة في البلدان العربية وبلدان العالم الثالث المتخلفة أو في البلدان الكبرى التي تفرض هيمنتها على غيرها وتستغلّ ثرواته، كما ينقد أوضاع المرأة والتعليم والاقتصاد والإعلام وغيرها، فميزة الفكر والفلسفة عند حسن حنفي وفي مشروعه التراث والتجديد النقدية بل الثورية والتثويرية.
ث- الثورة والتثوير: تتميز فلسفة 'حسن حنفي' ويتميز مشروعه 'التراث والتجديد' بالطابع الثوري، فهما ثورة في وجه الأوضاع الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها العالم العربي والإسلامي المعاصر، أوضاع يسودها الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والضعف الفكري والثقافي والتخلف الاقتصادي في الداخل وتبعية وتغريب وضياع للهوية وسقوط الضحية بين أيدي الآخر صاحب العظمة والنفوذ الحضاري في الخارج كل هذا يمثل مواطن نقد وتمحيص وتفحص في فلسفة مشروع 'التراث والتجديد'، ورسالة المفكر ليس تبخير الواقع أو تسكينه والإبقاء عليه كما هو تغيير أو تبديل أو إشباع حاجاته بعد سكينة أو تبرير الوضع القائم، بل رسالته تكمن في "البحث عن معوقات تقدمه، وعن أسباب سكونه إن كان ساكناً، رسالة الفكر دفع الواقع وتطويره بل وتفجيره.ففي لحظات التحوّل الحاسمة في التاريخ يتفجر الواقع، وتحدث الثورات، يتحرك فجأة وبعنف وينتهي دور المفكرين المهبطين وحفظة النظام."[17] ففكر المفكر شهادة على عصره واستشهاد للمفكر في سبيل رسالته ودوره في التاريخ، "فوجود المفكر في حدّ ذاته في العصر شهادة، والمفكرون شهداء الحق أي هم الذي يشهدون على عصرهم، وهم قد يلقون الشهادة أي الاستشهاد جزءاً من شهادتهم. المفكرون في العصر هم الشهداء. لذلك كان سقراط شاهداً على عصره وشهيداً له."[18] ومشروع التراث والتجديد إذا كان ثورة في وجه كل ما هو قائم لا يحلّ الأزمة بل يزيدها تفاقماً في استخدام التراث أو في جدل الأنا والآخر أو في التعاطي مع الواقع فهو مشروع تثويري يقوم بتثوير التراث وتثوير العلوم التراثية المختلفة من خلال إعادة بناء كل فرع منها، فعنوان محاولة إعادة بناء أصول الدين 'من العقيدة إلى الثورة' يدلّ على تثوير علم الكلام ليتحول من نظرية في العقيدة إلى نظرية في السلوك بل إلى علم الإنسان يرتبط بالواقع لغيّره ويبنيه تحقيقاً لمصلحة الإنسان في الدنيا، وهكذا مع علوم الحكمة وأصول الفقه والتصوف وغيرها. و"علم الاستغراب" ثورة في وجه التغريب وفي وجه الاستشراق الذي جعل الآخر يزداد تضخماً وامتداداً لأنه المركز في الوقت الذي ازداد فيه الأنا تقزماً وانحطاطا و تراجعاً باعتباره طرفا من الأطراف. ونظرية التفسير ما هي إلا ثورة في وجه نظريات التفسير الكلاسيكية من جهة وفي وجه نظريات التفسير الوافدة وتلك أشباه نظريات التفسير الحالية، فالثورة والتثوير من صميم مشروع "التراث والتجديد" و من محتوياته و أهدافه الكبرى.
ج- المنهجية: يتميز مشروع 'التراث والتجديد' في جبهاته الثلاث باعتماده على عدة مناهج في قراءة التراث وإعادة بنائه وفي تأسيس "علم الاستغراب" كبديل للاستشراق ولبناء موقف من الآخر هو الموقف الحضاري من الغرب ومن تراثه وثقافته وحضارته، وفي نظرية التفسير أو الموقف من الواقع. إن المناهج التي يستخدمها مشروع 'التراث والتجديد' وتستخدمها فلسفة هذا المشروع مستمدة بعضها من التراث القديم وبعضها من الثقافة المعاصرة والفكر في الواقع المعاصر ومصدرها الوافد، والمناهج المتبعة في المشروع كثيراً ما يُعلن عنها في الكتابات عرضا للمشروع ولفلسفته. ففي الجبهة الأولى وهي أضخم وأكثر تفصيلاً وأعمق في التاريخ منهجها هو إعادة البناء من خلال قراءة المضمون وتحليله ونقده وإعادة صياغته وبنائه وفق ما يتطلبه العصر ليصبح جاهزا للاستعمال في ظروف تقبله وليس في الظروف التي نشأ وعمل فيها. والمنهج المتبع في الجبهة الثانية جبهة التراث الغربي من خلال علم الاستغراب الذي يقوم بنقد وتحليل الوعي الأوربي في مصادره وبدايته ونهايته باستخدام المناهج الواردة في التراث القديم وفي التراث الغربي الحديث والمعاصر التي تضع الغرب في مكانه الطبيعي وتمكّن الشعوب المقهورة من الانطلاق نحو الحضارة وبناء التاريخ. ونظرية التفسير تُبنى في المشروع باستخدام منهج تحليل الخبرات الذي يكون وحده الكفيل بالتنظير للواقع المباشر ولا سبيل لتغيير الواقع وتجديده في غياب نظرية التفسير المحكمة وتخلّف العالم العربي والإسلامي في الواقع المعاصر يعود إلى غياب نظرية التفسير أو الموقف الحضاري من الواقع. وترتبط الأزمة في الواقع المعاصر بأزمتين: أزمة التغيير الاجتماعي وفشل مناهج معالجتها التي تتأرجح بين القديم والجديد والقديم الجديد وأزمة البحث في الدراسات الإسلامية التي تتأرجح بين النزعة الخطابية المحلية والنزعة العلمية الإستشراقية وما ترتب عن كل من النزعتين من سلبيات الأمر الذي اقتضى استخدام مناهج جديدة منها منطق التجديد اللّغوي ومنهج التحليل الشعوري وأساليب تغيير البيئة الثقافية. ومشروع 'التراث والتجديد' ذاته يمثل منهجاً ويؤسس علماً ويكشف عن ميدان. "فالمنهج هو ذاته علم لأنه تأسيس للعلم. والعلم إذا كان تأسيساً للعلم فهو ميدان"[19] يعيد بناء التراث ويستغله في بناء الحاضر وتغيير الواقع، كما يدرس الآخر ويضعه في مكانه الطبيعي ويستفيد منه ويقضي على الأزمة من الداخل والخارج.
ح- النسقية: إن ظاهرة الانسجام بين وحدات الفكر وعناصر الفلسفة والجبهات الثلاث في مشروع التراث والتجديد وأبعاده الزمانية والحضارية قائمة في بنية أقسامها وأجزائها مترابطة في بنية منطقية يعكسها البيان النظري للمشروع ككل في كتاب 'التراث والتجديد' كما تعكسها المبادئ النظرية التي يقوم عليها مشروع "التراث والتجديد" والجبهات التي تكوّنه وأبعاد الموقف الحضاري فيه والمناهج المتبعة والأهداف والمرامي المُعلن عنها خاصة لما ظهر الجزء الأول في القسم الأول وهو في طور الاكتمال وظهر البيان النظري للجبهة الثانية فظهرت صفة النسقية والاتساق والانسجام داخل المشروع من الناحية الفكرية و النظرية كنوايا ومبادئ ومنهج وأهداف ومرامي، رغم أن صاحب المشروع يصرح أن "من الصعب تناول قضية 'التراث والتجديد' والاستقرار على أسلوب متسق للتحليل، فقد يغلب أحياناً تحليل القديم مما يؤدي إلى الأكاديمية الخالصة وما يتصف به من برودة وتعالم وانعزال عن الواقع وقد يغلب أحياناً أخرى تحليل الواقع المعاصر مما يعطي البحث طابع التحليل الاجتماعي الذي لا شأن له بالتراث القديم والواقع أن المعادلة صعبة."[20] ونظرا للتطابق بين الجبهات الثلاث نجد الجبهتين الأولى والثانية تصبّان في الواقع وفي كل موقف حضاري توجد عوامل الإبداع الوافد والموروث والواقع كما يوجد تطابق في أبعاد المشروع الزمانية الحاضر والماضي والمستقبل كما تُرد الجبهتان إلى النقل والإبداع. "والجبهات الثلاث ليست منفصلة عن بعضها البعض بل تتداخل فيما بينها ويخدم بعضها بعضاً. فإعادة بناء التراث القديم بحيث يكون قادراً على الدخول في تحديات العصر الرئيسية يساعد على وقف التغريب الذي وقعت فيه الخاصة، وهي لا تعلم من التراث إلا التراث المضاد لمصالح الأمة والذي أفرزته فرقة السلطان. فلم تجد حلاً إلا في التراث الغربي."[21]
خ- التأريخية: سمة التاريخية تطبع فلسفة مشروع 'التراث والتجديد' في جميع جبهاته وتطبع منهجه ونتائجه، فالتراث يمثل الجبهة الأكبر والأكثر تفصيلاً والأكثر ارتباطاً بالهوية الحضارية للأمة التي وُجد المشروع لأجلها هو الأعمق في التاريخ ظاهرة تاريخية وُجدت في الماضي وما زالت تشكل المخزون النفسي والاجتماعي المؤثر في السلوك شعورياً ولا شعورياً، وكأن لا حاضر للأمة بل تعيش الماضي في الحاضر وتعيش المستقبل من خلال الماضي الذي هو الحاضر، لذا يشتغل المشروع على الموروث التاريخي ويحمل اسمه، ويمثل تجديد الموروث التاريخي و تحويله إلى طاقة يقتضيها الواقع المعاصر في تغييره لكي لا يعيش الماضي لأن الماضي له ظروفه بل يعيش ظروف ومقتضيات الحاضر. كما يشتغل المشروع على الموروث الغربي الوافد القديم والحديث والمعاصر و في دراسة ونقد الموروث القديم بنوعيه العربي الإسلامي والغربي الأوربي تُستخدم المناهج التاريخية و تحتاج البحوث إلى أساليب هي التحليل التاريخي والتركيب التاريخي والتفسير التاريخي و فعلاً أصبح مشروع "التراث والتجديد" يؤرخ لحقب وأحداث تاريخية فكرية وعلمية كلامية وفلسفية وأصولية وصوفية و من ورائها الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية عامة ويبدو أن الأمر كذلك مع بقية أجزاء المشروع في الجبهة الأولى والثانية بالدرجة الأولى وحتى في الجبهة الثالثة.
د- إصلاحية نهضوية: يمثل الإصلاح غاية مشروع 'التراث والتجديد' وفلسفته، وتمثل النهضة الهدف منه، فهو ينطلق دوماً من ظروف وأحوال العالم العربي والإسلامية الحديثة، حيث تعرضت شعوبه في بداية العصر الحديث إلى الاستعمار الذي مارس الاستبداد السياسي والعسكري والظلم الاجتماعي عليها كما نهب خيراتها وحاول بطرق شتى طمس هويتها الحضارية والتاريخية هذه الهوية التي تتحدد بعناصر عدة أهمها الدين الإسلامي واللغة العربية. فبفعل الاستعمار غرقت شعوب العالم المستعمر-بفتح الميم- في الجهل والتخلف في الوقت الذي كان فيه المستعمر-بكسر الميم- يعيشا الحضارة و حياة الرخاء و الرّفاه المادي، وكان للحركة الإصلاحية التي قادها مفكرون مصلحون دوراً في تنمية الشعور الديني والقومي والوطني الذي كان وراء الحركات التحريرية ونهضة الشعوب في وجه الاستعمار واسترجاع الاستقلال الوطني، وسرعان ما وقعت الشعوب العربية في استعمار غير مباشر اقتصادياً وسياسياً أو موصولة به منذ الاستعمار العسكري السابق على حساب الاستقلال الوطني، فأصبحت الضرورة ملحّة إلى إصلاح هذه الأوضاع وضرورة حدوث النهضة مرّة أخرى، لكن الإصلاح والنهضة في مشروع 'التراث والتجديد' ليس كسابقه لدى الحركة الإصلاحية في العصر الحديث فهو يقوم على رؤية فلسفية واضحة ومبني على مشروع حضاري قومي وإنساني عام وشامل يحقق الإصلاح والنهضة ويحرر الشعوب و واقعها من الأزمة.
ذ- العملية: 'التراث والتجديد' نظرية في التراث وفي الواقع، هذه النظرية خارج الواقع ترف فكري، لأنها تهدف إلى تغيير الواقع، وتغيير الواقع بواسطة هذه النظرية يتم بالعمل، وهي تعطي الأولوية للعمل على النظر، ففلسفة 'التراث والتجديد' تعيب على التراث في جوانب عديدة وفي طابعه العام لأن هذه الجوانب تقلل من دور العمل وتعطي الأولوية للنظر نظراً لتأثرها بالفلسفة اليونانية ولانشغالها بترسيخ مبادئ وقيّم وعقائد الإسلام، ليس هناك فكر مجرد خالص، فالفكر يجري في الإنسان والإنسان جسم يتحرك في الواقع وإن لم يتحرك بالعمل ينتهي وينتهي معه الإنسان، ورسالة الفكر ليست "البحث النظري الخالص في المسائل النظرية الخالصة التي قد لا ينتج منها عملاً"،[22] و "ليس الفكر هو التأمل والتجديد، فعل العقل المفارق بل شعور داخلي، إحساس بالحياة."[23] هذا الشعور الداخلي يتعاطى مع العالم الخارجي، فيؤثر فيه ويتأثر به من خلال العمل والفكر، والتأثير في الطبيعة بواسطة الفكر لتغييرها وتسخيرها وللتغيير الاجتماعي، وحتى تغيير الحياة الفردية الخاصة لا يتم خارج العمل، وإذا كانت الحكمة في معناها العام في الفلسفة هي اليقين فاليقين وجهان نظري وعملي، فالأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ كل هذا يقترن بالحكمة العملية وبالإبداع فيها وهي غرض من أغراض 'التراث والتجديد'، لأن "علوم الحكمة القديمة قد نشأت وتطورت واكتملت في عصر الحضارات القديمة... ومن ثم تستأنف علوم الحكمة طورها الثاني في تعاملها مع الغرب الحديث في مراحل النقل ... حتى مرحلة الإبداع في الحكمة النظرية والحكمة العلمية. ومازلنا نمر بمرحلتي النقل والعرض منذ أكثر من مائتي عام ولم نصل بعد إلى مرحلة الإبداع."[24]
ر- الواقعية: يمثل الواقع الجبهة التي ترُد إليها الجبهتان الأخريتان في مشروع 'التراث والتجديد' الذي جاء ليشتغل بالواقع المعاصر للعالم العربي والإسلامي، وهو واقع متأزم في جميع جوانبه فكرياً وثقافيا واجتماعياً، والمشروع عبارة عن نظرية في تفسير الواقع انطلاقاً من التراث بنوعيه الموروث والوافد. ورسالة الفكر في المشروع موجّهة أساساً إلى الواقع فالفكر والمفكر شهادة على العصر والواقع وقد تكون هذه الشهادة استشهاداً فيكون المفكر شاهدا على عصره وشهيداً له. فهو يكشف الواقع بحلوه ومرّه من خلال تحليله وعرضه وتحريكه، "والفكر هو التعبير عن حركة الواقع. الواقع حركة مستمرة، يتجاوز حاضره إلى مستقبله والتجاوز هنا إلى الأمام، في حركة التاريخ.الواقع بطبيعته يتجه إلى الانتقال من مرحلة إلى أخرى ... وقد اعتبر الأصوليون القدماء الحقيقة ذات طرفين، النص والواقع وأن النص بدون واقع فراغ وخواء، وأن مهمة المفكر هي تحقيق المناط، أي رؤية مضمون النص في الواقع المعاصر الذي يعيش فيه المفكر أو الفقيه أو المجتهد وحديثاً أصبحت الطبيعة مصدر كل فكر، وهي خير من كل كتاب."[25] فالواقعية تطبع إستراتيجية 'التراث والتجديد' بطابعها في المبادئ والمنطلقات وفي السبل والأساليب وفي المبتغى. فالمبدأ الأساسي هو التعاطي مع الواقع أولا والاشتغال خارجه هراء وعبث فالواقع موطن العمل الفكري والاجتماعي والثقافي والمادي وبؤرة البحث عن القوة والضعف فيه، عن معوقات الإصلاح والنهضة وموانع الإبداع وتحديد شروط تغييره وتطوير. وفلسفة مشروع "التراث والتجديد" تعطي الأولوية للواقع على النص وللعمل على النظر لأن الواقع فيه تتحقق مصالح الإنسان العامة ويظهر ذلك بوضوح في محاولة إعادة بناء أصول الفقه وفي المحاولات الأخرى.
ز- العقلانية والتنظير: العقلانية في 'التراث والتجديد' وفي فلسفة لا تعني العقلانية في المذهب الفلسفي اليوناني أو في المذاهب الفلسفية الحديثة أي نظريات فلسفية في المعرفة والوجود والقيم من إبداع العقل ذات نظري بحت تمتاز بالصورية تعيش في العقل وخارج الواقع، واقع الحياة عامة الفردية والاجتماعية. فالعقلانية في المشروع تعني تحكيم سلطان العقل في التفكير و في التغيير، التفكير في الموضوع ودراسته ونقده وتغييره بالاعتماد على سلطان العقل لا النقل لأن الحضارة من إنتاج العقل والتاريخ يتحرك بفعل العقل والإبداع عملية عقلية في أصلها، لذا ضرورة عقلنة التاريخ حتى يتحرك وعقلنة النص وتنظير الموروث وعقلنته و عقلنة الواقع وتنظيره. ونظرية التفسير هنا فعل عقلي ومن إنتاج العقل تفسر النص أو الواقع، وهي "النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر، وصبّها في الواقع وتحديد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة."[26] والبداية العلمية لغيرنا انطلقت من العقل والواقع ونحن مازلنا نتمرد على العقل والواقع ونعيش الإيمان بالقضاء والقدر وبالاستسلام والرضا، "ونقطع الصلة بين العقل والتحليل المباشر للواقع، باعتباره مصدراً للنص، ونقبل الإمام بالتعيين، ونطيع له خانعين، ضعفاء أو خائفين، ثم ننتقي من التراث ما يدعم هذا الوضع ... وإذا كنا نخلط يبن العقل والوجدان في فكرنا المعاصر فنخطب ونظن أننا نفكر وننفعل ونظن أننا نفعل...وأن العقل لم يستقل على الإطلاق ولم يُوجّه نحو الواقع وهو طرفه الأصيل."[27] لذا عقلانية الواقع وتنظيره المباشر من أسس وأهداف 'التراث والتجديد'.
ط- الظواهرية: يتميز منهج البحث والدراسة في فكر صاحب مشروع 'التراث والتجديد' بأنه ظواهري (فينومينولوجي)، وإذا كان كوجيتو المنهج الظواهري هو "أنا أفكر في شيء ما إذن أنا موجود."[28] وتغيّر مفهوم العالم المعيش ليصبح 'الوجود في العالم'، والعمل على تحويل العالم بما فيه من موضوعات وأشياء مادية إلى مجرد ظواهر خالصة تبدو في الشعور وتكوّن مجالا للإدراك الحسي. وهي بمفردها تعطي المعرفة اليقينية، فلا المثالية ولا التجريبية قادرة على الوصول إلى المعرفة اليقينية. هذا المنهج اتسم به البحث الفلسفي الذي كان وراء 'التراث والتجديد' سواء في دراسة التراث من خلال الوعي الحضاري الذي تكوّن فيه واكتمل وهو وعي تاريخي ووعي نظري ووعي عملي، أو في الاعتماد على هذا الوعي في دراسة الوافد الماضي والحاضر كما بان في محاولات إعادة بناء العلوم التراثية وما زال يظهر من خلال التركيز على منهج تحليل الخبرات في الماضي والحاضر للوصول إلى نظرية محكمة في التفسير لا هي مثالية فقط ولا هي واقعية فقط بل متوازنة تأخذ كل جوانب الحياة في الاعتبار وتربط الإنسان وحاضره وعصره بماضيه ومستقبله، وتربط بين الذات والموضوع. فهناك علم الأشياء وعالم الصور الذهنية، و"الصور حقائق تجمع بين الذات والموضوع، بين الرائي والمرئي فلا تضحي بالرائي في سبيل المرئي كما تفعل الوضعية، ولا بالمرئي في سبيل الرائي كما تفعل المثالية، الصورة تجمع ولا تفرق، تضم ولا تُشعب، تربط ولا تفكك حتى يستطيع الإنسان أن يعيش في عالم واحد قادر على التعامل معه بدل أن يعيش في عالمين."[29]
ظ- التأويلية: الظاهراتية سمة في منهج 'التراث والتجديد' وفي الفلسفة التي يقوم عليها. كذلك التأويلية صفة طبعت المشروع و هي منهج مارسه القدماء، أمثال ابن سينا وابن رشد والمتصوفة وعلماء أصول الفقه وغيرهم، وأزدهر في عصرنا الحاضر وصار علماً قائماً بذاته هو 'علم النص' أو 'الهيرمينوتيقا'.ويربط صاحب المشروع بين 'الفينومينولوجيا' و'الهيرمينوتيقا' من خلال وظيفة التأويل وهي تحقيق الوئام النظري بين الأنا والعالم، والاتساق بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، الذات تريد المعرفة بحواسها وذهنها، والواقع عصيّ عليها بعلاماته ورموزه ودلالاته. هنا يأتي التأويل ليبني الجسور المعرفية بين الذات والموضوع حتى يصبح العالم مفهوماً معلوما تستطيع الذات أن تعيش فيه وتتعامل معه و تسيطر عليه. والتأويل تأويل النص وتأويل الذات. يقوم التأويل إذا ما توسط النص بين الذات والموضوع ويكون متعددا في الفهم ومشتبها في الواقع ومتشابها بين اللغات، ويكشف التأويل عن صراع القوى داخل المجتمع، وعن صراع الذات مع نفسها، فالذات هي الأخرى نص ولغة ومنطق وتركيب، فيها يتكشف الآخر في النزوع والقصدية كما تتكشف العلاقات بين الذوات والطبيعة والزمان. ونظراً لأهمية التأويل إلى جانب المنهج الظواهري في فلسفة مشروع 'التراث والتجديد' يقول صاحب المشروع في هذه الأهمية: "إن الغاية الباطنية من التأويل هو التأكيد على وحدة الذات والموضوع من خلال النص الذي يصور الموضوع من خلال المؤلف، ويفهمه الوعي من خلال القارئ.سواء كان الموضوع هو الله والتعالي أو الطبيعة والعالم أو الإنسان المجتمع. التأويل هو حوار بين المؤلف والقارئ حتى لو اختفى الموضوع وأصبح التأويل مجرد حوار بين الذات."[30]
ك- الفيلولوجية : إذا كانت الفيلولوجيا في تعريفها تعني محبة الكلام في اللّغة اليونانية، فالمصطلح يطلق في عصرنا على الدراسات العلمية التي تعتني بالنصوص المكتوبة وتحقيقها وبالكلمات وتاريخها والمقارنة بين اللّغات. فعلوم اللّغة حققت تطوراً كبيراً في عصرنا وارتبطت مناهجها بمناهج العلوم الأخرى ذات الطابع النظري أو الطابع العملي أو هما معاً. ولما كانت لغة البحث العلمي من مكونات هذا البحث، ولما كانت الأزمة في دراسة التراث هي أزمة المناهج في البحث العلمي فمشروع 'التراث والتجديد' وفلسفته ينطلق في تجديد المناهج ويبنيها على اللّغة باعتبار اللّغة بعداً من أبعاد الفكر إلى جانب المعاني والأشياء. ويعتبر منطق التجديد اللّغوي هو المنهج الأول في بلورة 'التراث والتجديد' وتنفيذه في الواقع مع ضرورة الاستفادة من التقدم الذي حققته علوم اللّغة. لقد "فرض كل فكر جديد لغته، وبدأت كل حركة جديدة بتجديد اللّغة أولاً إذ يحدث أحياناً عندما تتطور الحضارة وتمتد وتتسع معانيها أن تضيق بلغتها القديمة الخاصة التي لم تعد قادرة على إيصال أكثر قدر من المعاني لأكبر عدد ممكن من الناس فتنشأ حركة تجديد لغوية، وتُسقط فيها الحضارة لغتها القديمة الخاصة وتضع لغة جديدة أكثر قدرة على التعبير."[31] وهو حال مشروع 'التراث والتجديد' بجبهاته الثلاث في واقعنا المعاصر.
ل- الإنسانية: 'التراث والتجديد' مشروع فيه التراث غاية والتجديد وسيلة، مساره طبيعي فيه النهضة سابقة على التنمية وضرورة لها، والإصلاح يسبق النهضة وهو شرطها فلا يقفز إلى التنمية دون توفير شروطها. فهو "يحاول تأسيس قضايا التغيير الاجتماعي على نحو طبيعي وفي منظور تاريخي، يبدأ بالأساس والشرط قبل المؤسس والمشروط."[32] في المشروع تعبير عن الموقف الطبيعي في حياة الإنسان فالماضي مرتبط بالحاضر في الشعور ووصف الشعور هو ذاته وصف للتراث في تواصله مع الواقع الحاضر، وتجديد التراث هو تحرير الطاقات المختزنة لدى الجماهير من كل ما يعيقها نحو التفجر والإسهام في تحريك التاريخ وبناء الحضارة بدلا من وجود الموروث كمصدر لطاقة المخزنة. "تجديد التراث هو حل لطلاسم القديم وللعقد الموروثة وقضاء على معوّقات التطور والتنمية والتمهيد لكل تغيير جذري للواقع... التراث والتجديد يمثلان عملية حضارية هي اكتشاف التاريخ وهو حاجة ملحّة ومطلب ثوري في وجداننا المعاصر... فإن عملية 'التراث والتجديد' هي الكفيلة بتحقيق ذلك لأن اكتشاف الأنا وتأصيلها وتحريرها من سيطرة الثقافات الغازية، مناهجها وتصوراتها، ومذاهبها، ونظمها الفكرية. وتساعد أيضاً على مواجهة التحديات الحضارية والغزوات الثقافية التي نحن ضحية لها في هذا القرن، وتنقلنا من وضع التحصيل والنقل إلى وضع النقد والخلق والابتكار."33 ولما كان المشروع يحمل هذه المعاني والقيم الإنسانية في منطلقاته ومبادئه وفي مناهجه ومضامينه وفي أهدافه ومراميه فهو يستحق بحـق العـناية والاهتمـام دراســة و تحليلا و نقدا و لما لا عرضا على الواقع والتاريخ المعاصرين داخل الساحة الفكرية و الثقافية العربية والإسلامية المعاصرة.

الهوامش:
1. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 2000، ط2، ص09.
2. المرجع نفسه : ص41.
3. المرجع نفسه : ص11-12.
4. المرجع نفسه : ص12.
5. حسن حنفي: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 2002، ط5، ص176.
6. حسن حنفي: التراث والتجديد، ص181.
7. المرجع نفسه: ص183.
8. المرجع نفسه : ص186.
9. المرجع نفسه : ص185.
10. المرجع نفسه : ص185.
11. علي حرب: مجلة منبر الحوار، العدد 29، لبنان، بيروت، 1993 ص87.
12. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص10.
13. حسن حنفي: التراث والتجديد، ص34.
14. المرجع نفسه : ص19-20.
15. حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، دار قباء للطباعة، القاهرة، مصر، 1998، ط3، ص45.
16. المرجع نفسه : ص463.
17. حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر،دار التنوير، بيروت، لبنان، 1983، ط2، ص17.
18. المرجع نفسه : ص11.
19. حسن حنفي: التراث والتجديد، ص26.
20. المرجع نفسه : ص22-23.
21. حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص12.
22. حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص14.
23. حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، 2007، ط1، ص257.
24. حسن حنفي: من النقل والإبداع إلى الإبداع، المجلد الثالث، الجزء الثالث، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، بدون سنة، ط1، ص646.
25. حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص15.
26. حسن حنفي: التراث والتجديد، ص184.
27. المرجع نفسه : ص16.
28. فريدة غيوة : اتجاهات وشخصيات في الفلسفة المعاصرة، شركة دار الهدى، عين مليلة، الجزائر،بدون سنة، بدون طبعة، ص56.
29. حسن حنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص265
30. المرجع نفسه : ص78.
31. حسن حنفي: التراث والتجديد، ص109.
32. المرجع نفسه : 14
33. حسن حنفي:التراث والتجديد، ص19، 20.




.















































.





.