د.محمد بن إبراهيم دودح 12/3/1428
31/03/2007



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد نبه القرآن الكريم إلى فترة أرذل العمر كحالة طبيعية قدرها الخالق سبحانه وتعالى يمر بها الإنسان ليتنبه لمصيره قبل فوات الأوان, قال الله تعالى: "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ" [يس:68]؛ أخبر المولى سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من طال عمره تنكس في خلقه أي: انقلب حاله، وارتدت قواه، وتراجعت قدراته متجهة نحو الضعف والوهن، وصار كمن انتكس وانقلب رأسًا على عقب، ويكشف هذا الوصف الدقيق العلم بحالة عامة من التدهور والارتداد تتسع لتشمل كافة التغيرات الظاهرة والخفية، وذلك لاستيعاب لفظ (الْخَلْق) لكافة التركيبات والأنشطة البدنية.
ومنذ نزول القرآن الكريم في القرن السابع الميلادي إلى عقود قليلة لم يكن معروفًا سوى التغيرات الظاهرة في الهيئة، ومع توفر التقنيات، وتقدم الدراسات لم تخرج التغيرات الخفية المكتشفة حديثًا عن الوصف الجامع "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْق"، وينسجم هذا الوصف المطابق للواقع مع نظائر عديدة تتعلق بوصف مراحل العمر عامة، أو مرحلة الشيخوخة خاصة، وبهذا يكشف القرآن العلم بخفايا التكوين في بيان معجز لا يعارض الحقائق الخفية، ولا يصدم المعارف السائدة منذ التنزيل.

مجمل أقوال علماء اللغة والتفسير:
قال ابن منظور: (النكس: قلب الشيء على رأسه) (1) والمقام يتعلق بوصف الحالة في أواخر العمر بعد بلوغ غاية الكفاءة في مرحلة الشباب، ولذا التعبير بفعل (النكس) في الآية الكريمة يعني انقلاب الحال في الخلق، وقد ورد فعل (النكس) في قوله تعالى: "ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ" [الأنبياء:65]، وذلك في بيان حال قوم النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ عندما عادوا للإعراض بعدما غلبتهم حجته، قال الشوكاني: (أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم فشبَّه ـ سبحانه ـ عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه) (2).
وكذلك قوله تعالى: "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ"؛ قال الألوسي: (فيه تشبيه) (3)، أي تشبيه انقلاب حال من بلغ الشيخوخة بقلب الشيء على رأسه، قال ابن منظور: (فصار بدل القوة ضعفًا، وبدل الشباب هَرَمًا) (4)، وقال أبو السعود: (فلا يزال يتزايد ضعفه، وتتناقص قوته، وتنتقص بنيته، ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حالة شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد، وقلة العقل، والخلو عن الفهم والإدراك) (5)، وقال البغوي: (أي نُضعِف جوارحه بعد قوتها ونَرُدُّها إلى نقصانها بعد زيادتها) (6).
ولفظ (الخلق) هنا تعبير عن البنية والجوارح أو الخلقة، قال ابن كثير: (هو الضعف في الخلقة) (7) لأن (الخلق يستعمل بمعنى المخلوق) (8)، و(في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقًا لقوله: "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ" (9)، والله "بَدَأَ الْخَلْق".. والمبدوء الشيء المخلوقٍّ، وهذا نظير قوله تعالى: "اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً" [الروم:54]، قال ابن كثير: (والمراد من هذا الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة) (10).
وأكد ابن كثير في موضع آخر على اشتمال النص الكريم الدلالة على تغيرات باطنة للشيخوخة بالإضافة إلى التغيرات الظاهرة؛ فقال: (تتغير الصفات الظاهرة والباطنة) (11).
ورجح الألوسي اختلاف زمــان ابتداء تغيرات الشيخوخة، وعبارته هي: (والحق أن زمان ابتداء الضعف وانتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض) (12).