/3 .. فتيات الليالي الحمراء في لبنان.. من أوكار الدعارة إلى وكر الموساد ..
بقلم : د . سمير محمود قديح
[ مشـاركات .. آراء .. ]
و .. بينما هما عاريان في الفراش . . تتصاعد نشوته شيئاً فشيئاً، فوجئ بنورما فوق رأسه، ومعها غسان ورفاقه.
انهمدت نشوته على حين فجأة، وارتجت فيه الأرض، فقد كانت نظراتها شعاعات من التوحش، وبصوتها حشرجة الهلاك.
قالت له في الحال مشيرة الى أرليت التي انسحبت عارية من الحجرة: هايدي إسرائيلية . . من الموساد، كليتنا من الموساد، وبنريدك تعمل ويانا. .. . مو .. موساد؟
شو صار رأيك؟
'قذفت اليه بصوره العارية مع جورجيت ولوحت له بعدة شرائط مسجلة'. موساد .. ؟
وقعْ عالوثيقة نحنا ما بنمزح. 'أخرجت من جيبها ورقة مطوية وقلماً'.وثيقة؟ (كان كلما جذب الملاءة ليستر نفسه بها شدها أحدهم فبقى عرياناً).
صارخة في شراسة:
ما بدنا تعطيل شوها لفرك؟ وقع .
إن الشخصية الخائرة asthenic في نظريات علم المخابرات . تطلق على الشخص الذي أفقدته الصدمة قدرة التفكير .. ففي ظل الكارثة التي حلت به يصاب العقل بالذهول وتغيم في الشعور stupor مع غياب الحس وبلادة الإدراك sluggish والانتقال من أحد جوانب الموقف الى جانب آخر. . وهو ما يطلق عليه في علم النفس مصطلح 'الاتجاه المجرد' abstract attitude .ومن خلال بطء العملية العقلية.. وعدم القدرة على التصرف، مع ظهور أمارات اضطرابات آلية، يسهل السيطرة على الشخص الخائر، والتحكم في إرادته المشلولة بنسبة فائقة النجاح. وقد كان هذا بالضبط هو حال ضاهر الذي فاجأته 'الصدمة' فعجز عن مجابهتها. واستسلم لمصيره خائراً .. منهاراً.
ودون أن يدري ماذا حدث . . كأنه الحلم، وقّع أوراقاً لا يدري بالضبط ماذا كتب بها، وخرجت نورما تعلو وجهها ابتسامة الظفر، وعادت أرليت اليه من جديد، ولم تكن ثملة كما كانت تدعي، بل كانت تحمل كوباً من العرق اللبناني وطبقاً من 'المازاوات'.
كان على أرليت أن تبقى في جواره، خلال تلك اللحظات بالذات، حتى يفيق من ارتجاجة الصدمة. مستغلة هذه المرة أقصى ما عندها من نعومة وحنان ورقة، ولأنها مارست مهاماً عديدة سابقة كتلك، فالأمر بالنسبة لها أصبح مألوفاً. . وطبيعياً. فقد كانت تمتلك خبرات عالية اكتسبتها في فن معاملة 'المصدومين' لتليينهم . . وتمهيد الطريق للخطوات اللاحقة. إنها بحق خطوات شيطانية بدأت في فوار انطلياس، ثم بشقة نورما مع جورجيت، وأخيراً مع أرليت ذات المهمتين، التسخين . . والتليين.
ذلك إنه عالم المخابرات والجاسوسية الذي وصفه الكاتب المعروف 'هانسون بولدوين' قائلاً:
'إن نظام المخابرات الصحيح عبارة عن منشأة ذات إمكانات هائلة لكل من الخير والشر، ويجب أن تستخدم الرجال والنساء كل الوسائل. . فهي رقيقة، وشرسة، تتعامل مع الأبطال، والخونة . . وهي ترشي، وتفسد، وتختطف، وأحياناً. . تقتل . . إنها تقبض على قوة الحياة والموت .. وتستغل أسمى وأدنى العواطف، وتستخدم في الوقت نفسه الوطنية حتى أعظم معانيها. . والنزوات في أحط مداركها. . !!'.بهذا وقع أحمد ضاهر في الشرك دون أدنى مقاومة .. فقد مورست معه نظريات علم النفس والسيطرة حتى أذعن للأمر. . واستسلم لفريق التدريب صاغراً ليتمكن من تعليمه.. وتخريجه جاسوساً للموساد .. كيف بدأت رحلته في عالم التجسس على الفلسطينيين؟ وكيف جند خونة آخرين لصالح الموساد؟
العائد الجديد
تعهد به على الفور رجال الموساد في أثينا. . وأخضعوه لدورات تدريبية في فنون التجسس وكيفية الامتزاج بالفلسطينيين، ولأنه – كطبيعة البشر – ربما قد يتمرد على واقعه بعدما يفيق من أثر الصدمة، أفهموه باستحالة الإفلات منهم .. وهددوه بأنه عملاءهم في لبنان لا حصر لهم .. ولديهم القدرة على إلحاق الأذى بمن يتمرد أو يرفض الاستمرار معهم .. وقد يصل الأمر الى حد قتله أو قتل أولاده. .هكذا ألقوا الرعب بقلبه، ووعدوه بالثراء الفاحش إذا ما أخلص لهم. . وأكدوا له مقدرتهم الكاملة على حمايته وعدم التخلي عنه في أية حال، وصيّروه 'كالعجينة' في أيديهم يشكلونها كيفما شاؤوا، فتجمد الدم بأوردته وتوحش بداخله الخوف ينهش أعصابه. . وكان كلما هدأ قليلاً ارتعشت أطرافه وخلجاته وغرق في محيط من هموم.
ولما أطلقوا عليه أرليت لتهدئته كانت رغبته قد تكسرت، وانعقدت إحساساته كرجل أمام أنوثتها المتوقدة، فلم يعد يثيره ذلك الجسد الأفروديتي الذي حلم باحتوائه، ودفئه . . ومذاقاته.
بعد ثلاثة أسابيع في أثينا حمل معاناته الثقيلة عائداً الى بيروت، وأسرع الى منزله في 'عيترون' الحدودية يحفه الشوق لأسرته والخوف أيضاً، وكم كانت دهشته عندما اكتشف أن زوجته رباب لها مذاق جميل مسكر، مذاق بطعم آخر يحن اليه ويختلف كثيراً عن مذاق جورجيت وأرليت. قرأت رباب في عينيه تبدله . . وأحست بأن العائد ليس هو الزوج القديم، إنما شخص آخر يفيض حباً، وحناناً، وحزناً، وحاول بدوره أن يبدو طبيعياً لكن الحمل الثقيل الذي ينوء به يفصح عن أرقه وكوابيس خوفه ويفضح أسايره، وفشلت رباب في أن تجعله يبوح بما يؤرقه، بحنانها، عند هدأة نفسه بين أحضانها، وانهارت محاولات انتشاله من رعب الرؤى التي تؤرق مضجعه.
تزامن وصوله من أثينا بالأموال والهدايا مع وصول صديقه الشاعر كمال المحمودي من باريس مفلساً، محطماً، فجمعهما لقاء حار خيمت عليه ذكريات الشباب وأحلام الشهرة، وقص عليه المحمودي حكاياته في باريس وصدمته المرة هناك في العمل والنجاح، فاللبنانيون الذين قابلهم في باريس لكل منهم حكاية، فمنهم الفيلسوف الذي لا يسكت، والثرثار الذي يجب أن تضربه، والبورجوازي الحديث الذي يفرض عليك سماع قصص مغامراته، والمسكين الحزين الذي يلوي القلب، أيضاً الرومانسي الحامل في محفظته صورة جارته المتزوجة، والوطني المحاضر في مطعم 'رشيد'، والنازل في أتويل 'جورج سانك'، ناهيك بالوافد الذي يزور 'راوول وكورلي' ويتفرج على فرساي، ويمارس الجنس بخمس فرنكات في 'بيكال'.
لقد صدم المحمودي في باريس وذاق الجوع والتشرد، وفشل في العثور على عمل يعينه على الاستمرار والعيش . برغم وجود شارعين باريسيين صغيرين متلاحقين في الدائرة العشرين، اسم الأول شارع لبنان، واسم الثاني شارع الموارنة، حفلا بالمئات من اللبنانيين الذين جاهلوه، وعاملوه بقسوة أدمت مشاعره وشاعريته ورقة إحساساته، فهرب الى البيت الفرنسي اللبناني المعروف بـ 'الفواييه فرانكو – ليبانيه' في 15 شارع دولم في باريس الخامسة، وهو مبنى جديد يتصل بكنيسة 'نوتردام دي ليبان' على مدخله ناقوس فينيقي كبير من الفخار، وفي الصالون الكبير صورة ملونة للشاعر جبران خليل جبران يرتدي الأحمر، تذكره بقصيدة للشاعر 'مورس عواد' عنوانها 'يسوع كلساتو حمر'، حاول أن يقيم بالدار ولكنهم بأدب أشاروا الى إطار ذهبي، بداخله صورة البطريرك 'مار بطرس بولس المعشوق'، ففهم على الفور أنه كمسلم لا مكان له بالبيت المخصص للموارنة فقط، أخيراً عثر على عمل بمطعم laurore de lavie بشارع لامارتين، كخادم وماسح للبلاط الذي يفترشه آخر الليل. . مما أصابه بداء الروماتيزم. . فقعد عن العمل وطرد من باريس كلها الى بيروت.
أما أحمد ضاهر . . فقد اختلق قصة طويلة من الكفاح والمثابرة، زاعماً لصديقه أنه برغم نجاحه في الحصول على المال، فقد فشل في حلم حياته أن يصير مطرباً، ولما شجعه كمال على أن يحاول مرة أخرى بعدما امتلك المال. . ضحك ضاهر في سخرية وقال له بأن في ذلك مغامرة خاسرة، ذلك لأن ضاهر الفنان قد مات واجتثت جذور أحلامه الى الأبد.
يئس صديقه عن فهم ألغازه، واعتقد في نفسه بأن صراعه من أجل البقاء أنهكه كمثله تماماً، ولا بد أنه سيعود ذات يوم الى حلمه.
نموت . . ولكن
شهر ونصف وضاهر في حالة انعدام وزن لا يدري كيف سيصير به الحال أو الى أين يقوده مصيره . . فثمة موعد مع نورما بإحدى مقاهي القاسمية شمال صور، على أثره ستتحدد أشياء كثيرة. وفي الطريق الى صور من عيترون، شاهد سيارات عديدة تقل أفواج الفدائيين الفلسطينيين بزيهم العسكري تتحرك شمالاً وجنوباً، تعلو وجوههم نظرات التحدي والإرادة . . والصمود.
عبرت به السيارة جسر القاسمية – أكبر الجسور وآخرها على نهر الليطاني – وغادرها ضاهر الى جانب الجسر . . حيث خط حديد الحجاز الذي أقيم عام 1908، ليصل استانبول بالمدينة المنورة. ولماوصل الى ما قرب المصب، حيث يقع المقهى المطل على بساتين الموالح من جهة، ومصب النهر من جهة أخرى، لم تكن نورما بانتظاره فجلس يطوف بأفكاره غارقاً في قلقه، متجاهلاً روعة منظر الماء والأشجار والطيور من حوله، وانتفض فجأة عندما أخبره الجرسون بأن سيدة تركت له رسالة.. فتناول منه المظروف المغلق ومشى باتجاه الجسر، وفضه في الطريق وبدنه يرتجف وقرأ جملة واحدة كتبت بالحبر الأحمر: 'أرليت تطلب خطاباتها، فعجل بإرسالها. . '.
كان الخطاب يحمل أمراً صريحاً بجمع أكبر قدر من المعلومات عن حركة المقاومة. . واللقاء في اليوم التاسع والعشرين من الشهر 'عدد حروف الجملة' الساعة الواحدة ظهراً 'الرقم 29 مقسوماً على 3'، والحبر الأحمر يرشد عن مكان اللقاء في فوار انطلياس ، ذات المقهى الذي جمع بينهما في أول لقاء تحت الأضواء الخافتة.
بقيت أربعة أيام على الموعد المقرر، وكان عليه أثناءها أن يعد تقاريره ويسجل مشاهداته، واستلزم منه ذلك أن يقوم بعدة تحركات لأصدقائه بالقرى الحدودية، يستجلب الأخبار ويسمع بنفسه ما يردده الناس عن أبطال المقاومة، وقام برحلته الأولى للبحث عن صديقه 'نايف البدوي' من بلدة 'بارين' التي تبعد عن قريته، عيترون، سبعة كيلو مترات، وكيلو مترين ونصف فقط عن الحدود الإسرائيلية.كان نايف البدوي زميل دراسته الابتدائية ورفيق صباه . . عمل بالتجارة وتزوج من امرأتين أنجبتا له ثمانية أولاد أحدهم معاق وأنفق على علاجه أموالاً طائلة بلا فائدة. ومن ناحية أخرى كان نايف 'محبّاً' للنساء مباهياً بمغامراته معهن ومطارداته للحسناوات أينما كن. . فتدهورت لذلك تجارته وانكمش رأسماله شيئاً فشيئاً الى أن أفلس وباع متجره، أما وحاله تبدل هكذا، فقد هده العوز والدين. . ولما زاره ضاهر كانت أحواله السيئة مرسومة على وجهه، وظاهرة جلية في كل أركان بيته. . فأشفق عليه صديقه ونقده مائة ليرة طالعها نايف ببشاشة وفرح، ورجاه أن يبحث له عن عمل ينفق منه على الجيش الذي ببيته.
عاد ضاهر الى منزله منكباً على تسجيل ما اطلع عليه خلال تحركاته في أقصى الجنوب، بينما تنطلق به السيارة الى بيروت لمقابلة نورما عساف، كان صوت المذياع ينطلق مجلجلاً بالنشيد:
فلتسمع كل الدنيا . . فلتسمع
سنجوع ونعرى . . قطعاً نتقطع
ونسف ترابك يا أرضاً . . تتوجع
ونموت . . نموت ولكن . . لن نركع
لن يخضع منا حتى طفل يرضع. . !!
بدت نورما في مقهى فوار انطلياس ناعمة رقيقة حالمة . . إلا أن منظرها البشع ذا الفحيح المرعب بشقة أثينا لم يكن ليغيب للحظة عن مخيلة ضاهر.. فما أن رآها حتى سرت ببدنه رعشة خائفة وهو بمجلسه قبالتها، ومشى خلفها الى سيارتها مضطرباً، فدارت بها دورتين كاملتين حول المكان، ثم انطلقت مسرعة الى الشمال. . فعبرت نهر الكلب بطريق طرابلس – بيروت، وانحرفت يميناً باتجاه البساتين الكثيفة والأحراش . . وأمام منزل خشبي ريفي قديم توقفت، ودفعت اليه بالمفتاح فعالج الباب وسبقها الى الداخل بيده عود ثقاب مشتعل، فبدا المكان الموحش المجهول مع وجود نورما كبيت الرعب.
أضاءت مصباحها اليدوي وعلى مقعد متهالك جلست لتقرأ ما جاءها به من تقارير ملأت تسع صفحات. . وما ان انتهت حتى قذفت بها الى وجهه غاضبة، فانكمش مذعوراً متوقعاً لكل شيء، غذ تحول جمالها الى توحش مخيف، وانطلقت نظراتها كالسهام الحارقة مع سيل من السباب لجهله بأمور التجسس التي تدرب عليها، وافتقاده للحس الأمني في الرصد والتحركات وإدارة الحوار.
رغم ذلك أعطته خمسمائة ليرة، وأخضعته لدورة تدريبية أخرى أكثر تكثيفاً وحرفية . . وحددت له مهاماً بعينها عليه القيام بها دون غيرها، وطلبت منه أن يزور صديقه نايف البدوي ويوطد علاقته به نظراً لموقع قريته الحدودية الهام.استقر كمال المحمودي ببيروت بعدما عمل بإحدى الصحف، كانت أشعاره الوطنية تجد مساحة كبيرة على صفحاتها. . وبدأ النحس الذي لازمه لحقبة طويلة من حياته ينحسر، ويموت يأساً. . لقد كان شديد الحساسية عندما يتكلم أو يكتب عن القضية الفلسطينية واللاجئين والمقاومة .. فقربته كتاباته من رموز الثورة وكبار رجالها. . وغدت زياراته لمعسكرات التدريب ومشاهداته عن قرب للشباب الفدائي . . بمثابة طلقات رصاص يطلقها قلمه. ز فانكب يحارب بالكلمة لا يستقر له بال أو يهنأ بالقرار.
زاره أحمد ضاهر بمسكنه ففرح به، وسهرا طويلاً يستعرضان معاً حياتيهما في الماضي، وأحلامهما التي وندت قهراً لحين، ولم تكن الزيارة بريئة هذه المرة، فالغرض منها معروف. . والمكاسب المادية الثمينة التي سينالها من جراء معلومات المحمودي عن المقاومة أغلى عنده من الصداقة.
كان قد تعلم جيداً كيف يستخرج الأسرار من عقل محدثه عندما يستثيره ويجادله. . أو يجله ويقدره. . لكن الحال هنا مختلف، فصديقه ورفيق أحلامه لم يكن ليبخل عليه بأدق المعلومات التي يعرفها عن الثوار والقيادات الفلسطينية. . بما فيها تلك الأسرار المتداولة في دهاليز مراكز القيادة الحيوية. .
تلك المعلومات كانت سبباً رئيسياً في حصوله على آلاف الليرات من خزينة الموساد، فأغرق صديقه بالهدايا دون أن يدري بأن حديثه العادي مع رفيق عمره. . ينقل أولاً بأول الى إسرائيل، ويخضع لتحليلات خبراء الموساد واهتمامهم البالغ.ولنرجع الى قرية يارين في الجنوب، حيث يعيش نايف البدوي أسوأ ظروف مادية تعصف به، استغلها ضاهر جيداً في التأثير عليه، وتطمينه بإمكان حصوله على فرصة عمل ممتازة بإحدى الوكالات العالمية دون أن يبرح قريته.
تملكت نايف الدهشة من العرض المغري وتساءل عن ظروف العمل، فأخبره بأن وكالة أنباء عالمية في نيقوسيا، تدفع بسخاء لمن يوافونها بأخبار صحيحة ووافية عن حركة المقاومة الفلسطينية في الجنوب. .
سر نايف المتعسر بهذا الأمر وأبدى بحماس شديد رغبته في العمل . . فوعده صديقه بأن يسعى لدى مقرهم في بيروت لقبوله.
مرت بنايف الأيام الطويلة المضنية، وكلما عصرته الحاجة ونهشه العوز، أسرع لصاحبه يرجوه بألا يهمل أمره. . فيجيبه ضاهر بأنه تقدم بالفعل بطلب في شأنه ولم يقرروا بعد. وكان يقصد من التأخير والمماطلة حرق أعصابه. . وإشعاره بأهمية التعاون مع الوكالة للخروج من أزمته. .
إنه أسلوب آخر في عالم المخابرات الجاسوسية، يعرف باسم 'الاختناق choked 'ويعتمد على محاصرة من يراد الإيقاع بهم في شرك الخيانة بعد دراسة شتى ظروفهم الحياتية، ومدى معاناتهم النفسية، وتضييق الخناق عليهم مع إعطائهم ثمة أمل في مخرج ما لمشاكلهم. . دون وعد قاطع..هكذا يظل هؤلاء يحلمون بانفراجة قريبة تبدل حياتهم. . الى أن يقعوا يأساً أو يتغابوا مع علمهم بالجرم.
كان ضاهر قد تسمم دمه بالخيانة . . فلم يعد هو ذلك الإنسان البسيط الحالم العاشق للطرب. . إذ أجاد مهمته بالتدريج في عالم التجسس. . ومضى بخطى ثابتة في بيع عروبته بثمن بخس.
إن ظروف الخائن النفسية وصراعاته الداخلية المعقدة. . تدفعن دائماً لأن يمقت الأسوياء من حوله. . ويحتقر ذاته كلما جلس اليهم أو جالوا بباله. . ولذلك يسعى في الغالب للانتقام منهم في دخيلته، وقد يتحول هذا المقت الى محاولة جرهم معه لمستنقع الخيانة.
ويسجل لنا تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في الوطن العربي، نماذج متباينة من هؤلاء المرضى بالخيانة، إنها حالات قليلة جداً وشاذة (1)، تلك التي أظهر فيها الخائن بغضه لأقرب الأقربين اليه فلطخهم بعار الخيانة مثله.
ولو عدنا لأحمد ضاهر . . لتبين لنا مدى كراهيته لكمال المحمودي ونايف البدوي – أقرب أصدقائه – وحرصه في قرارة نفسه، وبأي ثمن، على دمجما في شبكته . . فتتساوى بذلك الخيانة.
فالأول يمثل لديه رمز الوطنية الصادقة، والثاني يمثل الصبر وتحدي الظروف والقوة. ولأنه إنسان ضعيف . . مريض. . محتقر من ذاته، كبر لديه الاعتقاد بأن مسألة إغواء أي مخلوق عملية سهلة إذا ما درس ظروفه النفسية بعناية. من هنا، نسج خيوط شبكته حول صديقيه، مبتدئاً بأضعفهما مقاومة – نايف البدوي – مستخدماً معه أسلوب الاختناق choked تمهيداً لشل تفكيره وهرس مقاومته.التسليم والتسلم
عام 1969 وفي النصف الثاني منه بالأخص، اشتدت ضربات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. . ووجد المستوطنون اليهود في المستعمرات الشمالية . . أنهم هدفاً لضربات ناجحة بدلت أمنهم الى رعب دائم. . وحدث أن تسلل أربعة شباب من الفدائيين بأسلحتهم وذخيرتهم. . وتمكنوا من الوصول لمستعمرة 'زرعيت' في الجليل الفلسطيني المحتل. . على بعد عشرين كيلو متراً من الشاطئ. . وقاموا بعملية فدائية خارقة للغاية قتل فيها أحد عشر صهيونياً، وأصيب العشرات منهم، واختفى الأبطال بعيداً عن المنطقة التي حوصرت. . مجتازين جميع نقاط التفتيش الصارمة في كل مكان.
هذا الحادث هلل له الفلسطينيون واحتفلوا بأبطاله. . بينما كان العكس في إسرائيل، إذ أقيل عدد من الضباط وأخضع آخرون للتحقيق والمجازاة. . واستدعى الأمر حدوث تغييرات فورية في الخطط الأمنية حول المستعمرات . . والنظر في تنشيط وفاعلية شبكات الموساد في لبنان.
من أجل ذلك أوصى تقرير خطير لخبرات الموساد. . بضرورة العمل على تجنيد أكبر عدد ممكن من سكان الجنوب اللبناني . . ليكونوا عيوناً لإسرائيل ترصد تحركات المقاومة في مهدها أولاً بأول . . وتخصيص ميزانية خاصة للنشاط الاستخباري في لبنان ودعمه بأكفأ الرجال والتقنيات الحديثة.
أحد الذين طالتهم يد التغيير نورما عساف، حيث جرى سحبها الى إسرائيل واستبدلت بضابط ماكر خبير بشؤون لبنان وبشبكاتهم بها. . فكان عليها أن تجري مقابلات سريعة بعملائها فيما يعرف باسم 'التسليم والتسلم' في عالم المخابرات، وفي المقهى المطل على مصب نهر الليطاني بالقرب من جسر القاسمية التقت بأحمد ضاهر الذي تملكته فرحة عارمة عندما أنبأته بانتهار مهمتها معه. . وأن زميلها 'أنطوان شهدا' سيتولى أمره.
تعهد به انطوان منذ تلك اللحظة . . وبعد مقابلات مطولة بينهما في المنزل الخشبي ببساتين نهر الكلب، أصدر له أوامر صريحة بتجنيد نايف البدوي . . بعدما استعرضا معاً كافة جوانب حياته وظروفه. . أما كمال المحمودي فقد رأى أنطوان أن ينتظر عليه قليلاً حتى يدرساه بشكل أفضل. . وتحين الفرصة الملائمة لضمه.
تقارير ضاهر السابقة أكدت بأن المعلومات التي يحصل عليها منهما لا تقدر بثمن. . وكانت رؤية انطوان خبير الموساد المحنك بالتعجيل في تجنيد نايف . . وتأجيل امر كمال. . تنم عن فهم وإدراك لحساسية الأمر وخطورته. . وبعد نظره الناشئ عن خبرة طويلة في العمل المخابراتي، لكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
كالحية الرقطاء مبتسماً تقابل ضاهر ونايف في يارين. . مهنئاً بموافقة وكالة الأنباء على العمل معها، واختصه وحده بموافاتها بأخبار المقاومة وأسرار تحركاتها. . وبأن الوكالة قررت راتباً شهرياً له مقداره ثمانمائة ليرة 'كان الرقم مغرياً جداً وقتذاك' وشرع في تلقينه مهام عمله الذي يجب أن يكون سرياً للغاية.. فالوكالة كماأخبره تسعى دائماً الى الانفراد بالأخبار. . وتدفع مكافآت تشجيعية كبيرة لمن يوافيها بتحركات رجال المقاومة قبل قيامهم بالعمليات.
دهش نايف لما يقوله صاحبه.. وعلق على ذلك بقوله أنه سيقوم بعمل الجواسيس إذن. . فما كان من صديقه إلا وأن راوغه، متعللاً بأن المال يصنع كل شيء. . وأنه بالعمل مع الوكالة سيخرج من أزمته المالية بسرعة الصاروخ.. فلكل خبر مهم ثمن . . ولكل تكاسل عقاب بالحرمان من المكافآت التي ستنهال عليه..قال ذلك بينما كان يناوله ألف ليرة كمقدم 'أتعاب'. . فحملق المحروم في الليرات فرحاً وقال: 'نعم . . إن المال يصنع كل شيء، وأنا بحاجة الى المال ولو بعت نفسي الى الشيطان'.
هكذا سقط نايف البدوي . . وتفرغ لعمله السري في البحث عن خبايا المقاومة والمنظمات الفدائية. . التي يجوب أفرادها القرية الحدودية ليل نهار. . وانكب يكتب تقارير يومية تفصيلية عن مشاهداته ومسامراته ويسلمها أولاً بأول لصديقه. . ولما كانت معلوماته تمثل لدى أنطوان درجة عالية من الخطورة . . بادر بضرورة تدريب أحمد ضاهر على استعمال اللاسلكي في الإرسال والاستقبال، ذلك لأن المعلومات الخطيرة عن الفدائيين، يجب بثها الى الموساد قبل اجتيازهم للحدود للقيام بعمليات انتقامية في الداخل. .وكان 'البيت الآمن' على نهر الكلب أصلح مكان سري للتدريب.
منقول