الفرقة السيمفونية الوطنية السورية وقصائد الأطفال الموتى
أحيت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بقيادة ميساك باغبودريان مؤخراً أمسية موسيقية على مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون.
مقطوعة "أنترميتزو" من أوبرا "كافالليريا روستيكانا" لـبيترو ماسكاني، كانت افتتاحية الحفل، تلا ذلك دخول مغنية الأوبرا السورية " من طبقة الألتو" سوزان حداد حيث قامت برفقة الأوركسترا بتأدية عمل غوستاف ماهلر المعنون بـ قصائد "الأطفال الموتى".
لاتقتصر شهرة ماهلر المولود (1860-1911) على كونه مؤلفاً فقط بل يعتبر أحد أشهر قادة الأوركسترا الذين تركوا بصمة عبر أسلوبهم الفريد عبر التاريخ، وعدا أربع مجموعات غنائية لم يكتب ماهلر سوى "سيمفونيات"، والعشر الأخيرة منها غير مكتملة، كما ألّف عدة مجموعات غنائية .
لم تكن كلمات الشاعر الألماني "روكيرت" غريبة عن طبيعة ماهلر الرومانتيكية الملتهبة فالموت مهيمن بشكل دائم على موسيقا ماهلر، والحزن هو الجزء الأساسي من أي موسيقا يكتبها، كيف لا وهو الذي سعى لأجل أن تكون بنية أي عمل مشابهة للحياة بكل ما فيها من تعقيدات وتناقضات صارخة، وهو ما نجده متجلياً في عمله أغاني «موت الأطفال» ولكن، بطريقة سامية مشبعة بالتعاطف والتراحم، ضمن موسيقا مرهفة تشع حناناً ودفئاً، وبلغة ندر نظيرها في الكتابة الأوركسترالية.
رأى بعض الباحثين خطأً أن ظروف تأليف هذا العمل جاءت حزناً على فقدان ماهلر لطفلته وهي بعد في أولى سني عمرها وهذا صحيح، لكن تلحينه لتلك الأناشيد جاء سابقاً لموت الطفلة بسنوات لا تالياً له، والبعض الآخر يرى بأن ما أثار لواعج ماهلر عند قراءته لقصائد روكيرت، هو أن اسم أحد الطفلين اللذين فقدهما ركيرت هو آرنست والذي كان الاسم نفسه الذي يحمله الشقيق الأصغر الأثير لقلب ماهلر ومن هنا فإن موسيقا ماهلر في تلك السلسلة من الأغاني التي طبعت بكل ذلك القدر الذي يمكننا أن نحس به من الحزن، إنما كانت تستجيب للكآبة التي كانت تحملها القصائد نفسها التي لحنّها ماهلر، والتي ابتعد فيها عن الاستجداء الرخيص للعواطف أو عن التأملات المفزعة للموت واستطاع أن يعمم بشكل إنساني تجربة الموت والحزن لفقد الأحبة.
بعد استراحة لم تستغرق أكثر من ربع ساعة دخلت الأوركسترا بقيادة المايسترو باغبودريان ليكون مسك الختام مع سيمفونية بيتهوفن الخامسة سلم دو مينور مصنف 67 الشهيرة بـ "القدر يقرع الأبواب" لنبتعد قليلاً عن أجواء الصمت والحزن الماهلري، ولننتقل إلى قسوة القدر الذي كان يدق على باب بيتهوفن عندما بدأ يشعر بأن صممه يغلب على نفسيته فكتب هذه السيمفونية ليصور لنا ما كان يمر به من لواعج وهو ما استطاع أن ينجح به في حركات السيمفونية الثلاث الأولى، لأن بيتهوفن وفي الحركة الرابعة قام بقلب كل تلك التراجيديا وأعلن وبشكل صارخ "لقد انتصرت على القدر".
في هذه الحركة المبنية على سلم ماجوري عبّر بيتهوفن عن فلسفته الإنسانية البحتة وهو الإنسان الثورجي الذي ما فتئ طوال حياته يناضل من أجل انتصار الإنسان على أسوأ أنواع الظروف التي من الممكن أن يمر بها الإنسان. هذه السيمفونية التي قدر لها أن تصبح من أهم المعزوفات وأشهرها على الإطلاق كتبها بيتهوفن عام 1807، وعزفت للمرة الأولى في فيينا عام 1808، وذلك بقيادة بيتهوفن نفسه في حفل ماراثوني دام أربع ساعات.
يذكر أن هذا الحفل هو أول حفل تقدمه الأوركسترا السيمفونية الوطنية السورية بعد أن تم احتضانها بشكل رسمي من قبل الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون "دار أوبرا دمشق" وذلك بعد الجدل واللغط الكثير الذي أثير حول المسابقة المخصصة للتشكيلة الجديدة في الفرقة، وللوقوف على تجربة الفرقة والمستجدات التي طرأت عليها كان لـ "البعث" هذا الحوار مع قائد الفرقة الفنان ميساك باغبودريان الذي بادرناه بالسؤال حول اختيار هذا البرنامج تحديداً، وهل من رسالة محددة يريدون إيصالها؟ أم أن المصادفة هي التي حكمت أن يكون البرنامج على هذا النحو وخاصة حول أناشيد "الأطفال الموتى" فيجيبنا:
<< الفنان جزء من المجتمع وهو يعيش ويتقاسم مع أفراده الظروف التي تمر بها البلد، ويكون نتاجه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بها، وبالتالي عند اختيار برامج الفرقة نجد أنفسنا متجهين إلى مقطوعات موسيقية تعكس المزاج العام. فكيف يمكننا تجاهل موت الأطفال السوريين الذي بتنا نشاهده أو نسمع عنه؟ كيف يمكن أن نرى المجتمع يعيش أزمة حقيقية ولا نعزف مقطوعات تحمل طبيعة درامية تراجيدية مع الحرص دائماً على منح جرعة من الأمل لأن الحياة يجب أن تستمر.
< قسم من الجمهور لم ينسجم مع أداء سوزان حداد وخرج بعد بدء الحفل بقليل ما هو تعليقك على هذا الموضوع؟ هل هي نوعية البرنامج من حيث اختيار ماهلر أم لأنها من طبقة الألتو؟.
<< الجمهور حر برأيه، وأنا أحترم هذا الرأي ويمكن أن تكون موسيقا ماهلر صعبة نوعاً ما لجمهور غير معتاد على هذا النوع من المقطوعات، وخاصة أغاني "الأطفال الموتى" التي تحمل طابعاً درامياً ثقيلاً، ومن الناحية الأخرى يمكن أن تكون هناك مشكلة في التوازن الصوتي بين صوت الغناء المنفرد وكمية الصوت الصادر من الأوركسترا وهذه المشكلة نواجهها مع المنفردين بشكل عام بسبب مشكلة في مسرح الأوبرا وخاصة عندما تكون الموسيقا مكتوبة في طبقات منخفضة للصوت المنفرد.
< وهل أنت راضٍ عن أداء الفرقة في هذه الحفلة؟
<< من المبكر الحكم على هذه التشكيلة الجديدة وعلى النتيحة الموسيقية للحفل كونه الحفل الأول للفرقة بتشكيلتها الجديدة، وهناك موسيقيون عزفوا للمرة الأولى في الأوركسترا وتنقصهم الخبرة الأوركسترالية، وبالتالي لابد من الانتظار فترة من الزمن لمنح الموسيقيين الفرصة لإيجاد وخلق الانسجام والتناغم بين بعضهم البعض، لكن ما يمكنني قوله إننا عملنا على تفاصيل موسيقية كثيرة وقد استطاعت الفرقة تجاوز عدة معيقات صادفت العمل مثل مرض عازف الباصون الأول قبل الحفل بيومين فقام العازف الثاني طوني الأمير بالعمل على الدور الأول وتم استدعاء عازف ثانٍ آخر معاذ سرية وأنا أشكرهم للجهد الكبير الذي بذلوه لتدارك هذه المشكلة.
< ما هي تحضيراتكم لبرنامج الأوركسترا القادم؟
<< تستضيف الفرقة في نهاية آذار وبداية نيسان قائد الأوركسترا البريطاني هاورد ويليامز والذي سبق وزار سورية عدة مرات ضمن مشروع أوركسترا الأطفال واليافعين السورية، وسيقوم بتقديم عدة مقطوعات من التراث العالمي وفي نهاية شهر نيسان سنقوم بتقديم حفل موسيقي مهدى إلى مؤسس الفرقة الأستاذ الراحل صلحي الوادي حيث ستؤدي الفرقة أعماله الأوركسترالية.
علا يونس أحمدhttp://www.albaath.news.sy/user/?id=1386&a=122552