فنان يوثق للمدينة وناسها في معرض استعادي يخرج من عزلته المديدة آملاً أن تشكل أعماله متحفاً
ناظم الجعفري في المتحف الوطني بدمشق
حين افتتح معرض الفنان ناظم الجعفري في المتحف الوطني بدمشق، بحضور الدكتور محمود السيد وزير الثقافة، لم تكن توجد مساحة من الإعلان أو الدعاية تليق بهذا الفنان ومعرضه، وربما كان العديد من فنانينا الشباب لا يعرفون من هو ناظم الجعفري، خاصة وأنه انقطع عن التدريس في كلية الفنون الجميلة منذ عام 1967 بينما كان آخر معرض له عام 1952. وقد تأكد كل من حالفه الحظ بحضور هذا المعرض أنه أمام فنان معلم وتجربة متميزة.
ولد الجعفري عام 1918 في مدينة دمشق، حيث تعلم الرسم بالهواية أو الفطرة، قبل أن يغادر إلي القاهرة عام 1943، ليتابع دراسته في كلية الفنون الجميلة، حتي سنة 1947، حيث تتلمذ علي أيدي الرواد الأوائل في مصر أمثال بيكار وأحمد صبري ويوسف كامل، عاد بعدها إلي سوريا مشبعاً بالموهبة والخبرة الأكاديمية، واحترف منذ ذلك التاريخ الرسم إلي جانب تدريس الفنون في ثانويات ومعاهد دمشق. وكان الفنان السوري الوحيد الذي شارك مع عدد من أساتذة الفن المصريين عام 1960 في تأسيس كلية الفنون الجميلة، بعد أن كانت معهداً تابعاً لوزارة التربية.
في الغيبة الصغري للفنان الجعفري ما بين عامي 1952 وأيار (مايو) 2005 لم ينقطع يوماً عن ممارسة الرسم، بل هو حتي الآن ـ وقد بلغ من العمر 87 سنة ـ ما زال يرسم يومياً لمدة خمس ساعات ، وربما يكون من الفنانين الأوائل الذين لا يعتمدون علي وضع مخططات أولية أو دراسات للنسب والألوان للوحته، بل يفضل أن ينقل مباشرة عن الطبيعة أو الواقع، عن الناس، عن حارات دمشق القديمة التي عشقها كما لم يعشق فنان مدينته، والتي نقل من أجوائها ما ينوف عن خمسة آلاف لوحة، هو الذي يرفض أن يبيع أي من أعماله أو حتي أن يتصرف بها كإهداءات، حالماً أن تري وزارة الثقافة هذا الإرث الثمين، وتحول منزله المستأجر إلي متحف لأعماله التي فاقت الستة آلاف لوحة. فهل هذا كثير علي فنان أعطي كل حياته للفن، وأعطي فنه لبلد ما زال يتردد في احتضانه؟
في معرضه الاستعادي شاهدنا ستاً وستين لوحة تعود لفترات متباينة من تجربته الفنية، بينها 24 لوحة زيتية، و37 لوحة مُنفذة بألوان الفلوماستر، إضافة إلي خمس لوحات استخدم فيها الباستيل، مع أنّهُ يٌفضّل بشكل عام استخدام الألوان الزيتية، لأنها أكثر مُقاومة للعطب ومرور الزمن.
رسم الجعفري الطبيعة والطبيعة الصامتة، كما اهتم بحارات دمشق ونسيجها المعماري، رسم الناس فيها، البسطاء منهم وأصحاب الحرف، كما رسم البورتريه والوجوه، واهتمّ كذلك بجماليات الجسد، وكان للمرأة نصيبٌ وافر من إبداعه. و يقول بهذا الخصوص: أحاول أن أمنحها الحرية التي سلبها إياها الرجل علي مر التاريخ، وقد كرست الكثير من اللوحات لها .
كما صوّر نفسه في أكثر من 15 لوحة، وفي فترات زمنية مُتباعدة، تعكس عوالمه الداخلية في كل مرحلة، دون النقل عن صورة فوتوغرافية، لأنّ البورتريه لديه تشبه محاولة للخوض في علم النفس وتحليل دواخل صاحب الصورة، كما صنع دافنشي مع الجوكندة وليس مُجرّد سطوح خارجية.
يقول عنهُ الفنان والناقد غازي الخالدي: ناظم الجعفري بألوانه الغنية متفوق، وكل لمسة عنده يضعها في مكانها في اللوحة مرة واحدة، ولا يعود إليها ليعلم وضعها أو يُمدد ألوانها أو قوامها الزيتي، يعرف سلفاً ماذا يريد وكيف يعبر عما يريد.
فهو يُحضر لمستهُ اللونية بخبرته التقنية التي تحولت مع تعمق تجربته إلي حالة غريزية تلقائية، فتتشكل لمستهُ مرة واحدة... وينقلها إلي سطح اللوحة دفعة واحدة فتبدو اللوحة غامضة عن قُرب خادعة عن بُعد، فتظن وأنت تتأمل نافورة بحرة جامع التكية السليمانية بدمشق أنها تتحرك فعلاً... وأنّ الماء يتدفق حقاً.
كذلك بالنسبة لتوزيع درجات اللون عنده، فعندما يضع اللون الحار يعرف تماماً كم يُشكل هذا اللون في موضعه، بُعداً أو قرباً عن الموضوع أو عن بعض العناصر المستخدمة في اللوحة .
فيما يقول الفنان والناقد د. محمود شاهين أنّ الفنان الجعفري: لا يُقر بالانتماء إلي أي اتجاه أو مدرسة فنية ولا يُؤمن بالتجلي الفني، مع ذلك، تقدمهُ لوحاته، فناناً كلاسيكياً واقعياً انطباعياً، ولوحتهُ بشكل عام ثرة الألوان متوافقة ومُنسجمة شكلاً ومضموناً، لوناً ورسماً، وهو مًتمكن من النسب الواقعية السليمة والصحيحة، في الطبيعة والعمارة والإنسان، وتتفرّد في هذا السياق، لوحاتهِ الوجهية التي يُضمنها حالة تعبيرية عميقة، وقدرة لافتة علي التقاط الملامح والشبه، وعلي التعامل مع الألوان، حيثُ يبني معمار اللوحة بلمسة لونية رهيفة وشفيفة وفائقة الانسجام، موضوعة في مكانها الصحيح، وبالدرجة الصحيحة، ما ينم عن الموهبة الأصلية والحقيقية التي يمتلكها الفنان الجعفري، والخبرة الكبيرة والعميقة التي أوت إلي أناملهِ، بفعل الدراسة الأكاديمية، والانكباب المجتهد والمتواصل، علي ممارسة الفن الذي أصبح جزءاً من حياتهِ اليومية، يُمارسهُ في كل وقت وكل مكان، إذا ما ألحّ حضورهُ عليه، وتوفرت ظروف ممارستهُ .
يُعتبر الفنان الجعفري من أغرز الفنانين أنتاجاً، وتقديراً لأهمية إنتاجه الذي يأمل الجميع أن يجتمع في متحف فني معاصر يحمل اسمه.
وهو فنان أصيل ومُبدع تكتشف بصمته في كل أعماله، لا يعترف بالمدارس الفنية، كما يرفض التجريد مُعللاً ذلك " يبني الفن علي أسس صحيحة تقوم علي الضوء والظل والمعاني والهوي، ولذلك من يقول: مدارس وأساليب يجهل الفن الصحيح، ولا يُجيد صنع الفن الجيد، ومن يستخدم التجريد يهرب من الفن الحقيقي.
كذلك هو يرفض التمييز بين الرسام والملوّن: فالفنان فنان، وعليه امتلاك الناصيتين معاً، والتأكيد دوماً علي المعالم والمعاني، وعلي الشكل والمضمون .
هذا هو ناظم الجعفري الذي يبلغ من العمر عتياً، لكنهُ مازالَ قادراً علي العمل والعطاء بحب وفنية عالية، اعتزل أستاذاً في الرسم وعاد إلينا في معرض استعادي أستاذاً تفتخر بهِ مدينة دمشق. ( عن : القدس العربي )
منقول عن مجلة اقلام