تشجيع الطفل على التساؤل
تشجيع الطفل على التساؤل
فُطر الأطفال على حب إلقاء الأسئلة، والطفل يريد أن يتعلم؛ لذلك يسأل باستمرار، وقد يسأل إلى حد الضجر، مع العلم أن الله تعالى هو الذي فَطره على هذا.
وإذا وُجد طفل لا يسأل، فأظنها مشكلةً قائمة فيه، وربما يعاني من أحد أنواع التخلف العقلي؛ لأنه لا يسأل؛ فكثرة الأسئلة علامة صحّة، وبعضنا -من كثرة الأسئلة- قد يجيب الطفل أحياناً بأجوبة خرافية، وقد يُجيب بما لا يعلم، وقد يَنْهَرُ الطفل.
أقول للمربي: إن كان عندك جواب فَقُلْه للطفل، وإن لم يكن عندك جواب فقل له: هذا السؤال لا أعرف جوابه، وعندما أعرف الجواب سأشرحه لك. وإذا سأل الطفل أسئلة محرجة فمن الممكن أن نقول للطفل: جواب هذا السؤال غير مناسب لك الآن، وعندما تكبر ستتعلمه بنفسك. وسيقبل الطفل بهذا.
التساؤل وطرح الأسئلة وسيلة أساسية جداً في المعرفة، ونحن نظنّ في تقليدنا الثقافي أن الذي يسأل هو الجاهل، مع العلم أن هذا الظنّ غيرُ صحيح؛ لأن القادر على السؤال هو العارف، أو الباحث عن المعرفة، وأما الجاهل فلا يعرف كيف يسأل أصلاً. ولو جئنا بجهاز إلكتروني ووضعناه أمام إنسان أمّيّ بحضور عشَرة مهندسين، وقلنا له: اسأل ما تريد.. فهو بين أمرين:
الأمر الأول: أن يقول: "ليس عندي أي سؤال.. وكل الأمور جيدة." وهذا ما يفعله كثير من طلاب المدارس، فهم يقولون للأساتذة: ليس عندي أي سؤال..! مع أن أكثرهم لا يعرفون، وليس لديهم خلفية عن الموضوع، فكيف يسألون عن شيء هم لا يعرفون عنه أي شيء؛ لذلك نجدهم عاجزين عن الأسئلة.
الأمر الثاني: أن يسأل أسئلة مضحكة غير ذات صلة بالموضوع، كأن يقول: هل يعمل هذا الجهاز على الكاز أم على البنزين.! وهل هذا من خشب أم من حديد.!؟
من المفترض ألا نجيب عن أسئلة الطفل فقط، بل علينا أن نشجعه على أن يتساءل، وعلى أن يجد أجوبة للأسئلة التي نُلقيها عليه.
كأن نقول له: لماذا تظن أن ابن الجيران هو الأول في صفه دائماً.. وما أسباب تفوقه..!؟
عندما يجيب الطفل يحاول أن يعلل، وعلينا أن نشجعه على التعليل. يتجرّأ الناس في البيئات الجاهلة على الكلام بغير علم، وفي مجالس كثيرة يسأل أحدهم سؤالاً طبّياً بحضور طبيب مختصّ، فيتريث الطبيب في الجواب، وأما غير المختصين من الناس فيجيبون بسرعة.!
العالم.. الطبيب.. المختصّ يحسب حساب كلامه قبل أن يتكلم، وغير العالم يتجرّأ على القول.!
لنعلمْ أنه ليس من المهم أن يتحدث الطفل فقط، بل علينا أن نطالبه بالتعليل، وأن نشجعه على ذلك، ونقول له: لماذا قلت هذا الكلام.؟
قد يعطيك الطفل علّة صحيحة، أو سبباً صحيحاً، أو سبباً غير صحيح: فإن كان صحيحاً، فعلينا أن نوافقه على كلامه.. وإن كان غير صحيح، فعلينا أن نُبين له خطأه، ونطلب منه أن يُفتش عن علة أخرى.
ربط الأسباب بالنتائج
يكمن سبب التأكيدِ على قضية التعليل وربط الأسباب بالنتائج في أن العقل الخرافي يسود كثيراً من البيئات.! كمن يقول لك: "فلان نجح بتفوق بضربة حظ، وهو شخص محظوظ."
هذا الشخص ذو العقل الخرافي لم يدرك الجهد الذي بذله ذلك الشخص المتفوق؛ لذلك يقول: إنه محظوظ. أو تراه يؤمن بقضية الطّفرة، ويقول في نفسه: "ربما أُوفق بفرصة ذهبية تغير كل حياتي .!" ونحن نقول له: هذه الفرصة لن تأتي؛ الفرصة تأتي عندما تبذل جهدك، وتُؤهِّل نفسك لها.
نحن نريد أن يعرف هذا الطفل أن كل نوع من النتائج يحتاج إلى نوع معين من الأسباب والمقدمات، وكل نوع من المقدمات والأسباب سترتبط به نتائج معينة، وكلما أخذنا بهذه الأسباب حصلنا -بإذن الله- على النتائج التي نرجوها ونتوقعها.
إن مقدمات النجاح تكمن في الاجتهاد، ومقدمات التفوق هي التنظيم وبذل الجهد، ومقدمات الرسوب الكسل، ومقدمات التلاؤم مع الناس حسن الخلق والصبر عليهم، وإذا أردت أن تتنافر وتُنبذ فهذا سهل، ما عليك إلا شتم الناس وسيتنافرون عنك.
الحديث عن البدائل
الحديث عن البدائل مهم من أجل التنمية الذهنية للأطفال، ومن أجل تنمية الجانب الفكري لديهم.
للأسف الشديد حينما نجلس ونتحدث في مجالس سمرنا، يذهب ثمانون في المئة من وقتنا في الحديث عن المشكلات، فالكل يشكو، ولا نجد أحداً يعجبه أيّ شيء.!
من المعلوم أن الوعي البشري قد اخترع الشكوى من سوء الأحوال؛ من أجل أن يتّخذ من الشكوى مُحرِّضاً على التقدّم، وعلى النهوض.
فالشكوى لها وظيفة نهضويّة، وهي ألا يستسلم الناس، وأن يعرفوا أنهم في وضع سيئ وأن يعملوا لتحسين ذلك الوضع. وفي كثير من الأحيان لا تكون الشكوى مطابقة للحقيقة والواقع.
ولو أنك رجعت إلى التاريخ لما وجدتَ أهل أيِّ زمان راضين عن زمانهم، وعدم الرضا هذا عند كل الأمم.
كل مَن تلقاه يشكو دهرَه
ليت شعري هذه الدنيا لـِمَنْ
إذا كان الكل يشكو من الدنيا، فلِمن هذه الدنيا..! أَوَ ليس لها أصحاب.. أوَ ليس لها أحباب.. أوَ ليس فيها مستفيدون منها.!
يقول عروة بن الزبير t: رحم الله خالتي عائشة حين كانت تقول: رحم الله لبيداً حين كان يقول:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
وبقيتُ في خَلْفٍ كجِلْدِ الأَجربِ
يقول عروة: تقول خالتي عائشة: رحم الله لبيداً لو عاش إلى زماننا ماذا كان يقول.. ويقول عروة: رحم الله خالتي عائشة لو عاشت إلى زماننا ماذا كانت تقول..؟ ([1])
فالكل يشكو.! وعندما نتحدث عن الحلول نعطيها عشرين في المئة من الوقت والتفكير، وفي أحيان كثيرة لا نعطي من وقتنا دقيقة واحدة لأيِّ حل.! وقد حضرتُ ألوف المجالس ولم أسمع فيها حلاً لمشكلة، فالمجلس يبدأ بشكوى، وينتهي بشكوى، ويختتم باليأس والإحباط.!
نحن لا نريد هذا؛ فما من مشكلة إلا ولها حلّ، لكن هذا الحل قد لا يكون مُرْضياً، وقد يكون نصف مُرْضٍ، وقد يكون سيئاً، ولكنه أفضلُ المتاح..
ويظن الأطفال من كثرة شكوانا أن الدنيا مقلوبة رأساً على عقب: لا خير فيها ، ولا نجاح، ولا صلاح، ولا أمانة، ولا رفاهية..!
وهذا ليس بصحيح بالتأكيد؛ فبشكل عام يعيش 80 % من البشر الآن في رفاهية أكثر مما كان عليه الناس قبل خمسين سنة.
المطلوب أن نضع حلاً لأي مشكلة تُطرح، وأن نناقش هذا الحلَّ، ونذكر إيجابياته، وسلبياته..
مثال: يشكو الطفل من أعباء الدراسة، ويُقرِّر قائلاً: "لا أريد أن أستمر في الدراسة.." على والده أو من يقوم بتربيته أن يسأله مباشرة: ما البديل عندك عن ترك الدراسة.؟
سيقول الطفل: البديل أن أذهب وأعمل في متجر..
نقول له: لو عملت في هذا المتجر خمسين سنة فلن يزيد راتبك عن كذا وكذا، فهل تستطيع أنت بهذا المبلغ المحدود الصغير أن تُؤسِّسَ أسرةً، وأن وأن..
فكلما ذُكر حلٌّ ولم يُعجِب، أو وضعية ولم تُعجِب نقول: ما البديل عن هذه الوضعية.؟ إن الكثير من المثالية التي في أذهان الناس تتبخر عند حديثنا عن البدائل؛ لأن الكلام سهل، وكما يقولون: "الكلام ببلاش"
وعندما ينقد الناس وضعاً ما، يجب أن نقول: كلامكم كلُّه صحيح، لكن ما البديل عن هذا، وما الذي يجب عمله، وكيف نحل هذه المشكلة.؟
إن 80 % من أوقاتنا تذهب في تصوير المشكلات، و20 % تذهب في حلِّ المشكلات، والمطلوب هو العكس. وفي كل مكان يجب أن نتوجه إلى السؤال المهم: ما الحلُّ لهذه المشكلة.؟
وأكثرنا لا يحب أن يتكلم في الحلول؛ لأن الحلول تُرتّب علينا واجباتٍ، ومعظم الناس غير مستعدين لأن يُسهموا في أي حل، بل يتم النقد، وتُوزع التهم هنا وهناك.!
لذا من الضروري أن نربيَ الأطفال على قضية: "ما مِن شكوى، وما من مشكلة إلا ويجب أن نبحث لها عن حل، أو نصفِ حل."
كما أنه ما من مشكلة يُطرح لها حل إلا وهناك أناس يُجنِّدون أنفسهم لزرع الإحباط، ويقولون: هذا حلٌّ سيئ.! وعندما نقول لهم: ما البديل عن هذا الحل السيئ.؟ لا نسمع لهم صوتاً.!
نحن نرضى في كثير من الأحيان بالحلّ السيئ؛ لأنه أفضل الموجود، وهو الحل المتاح حالياً ، وهذا على مذهب إخواننا في مصر: "أحلى الوحشين"
إذاً.. علينا أن نؤكد على قضية الحلول، وعلى قضية البدائل في تنميتنا الفكرية للأطفال.
حِس المقارنة
تعد المقارنة أمَّ كلِّ العلوم.. ومن أمثلة المقارنة:
· جلس شخصان عاميان أميان، قال أحدهما للآخر مشيراً إلى فاكهة معينة: ماذا تسمونها عندكم.؟ قال له: نحن نسميها كذا. فقال له الآخر: وأنتم ماذا تسمونها.؟ فقال: نحن نسميها كذا..
· تناقش أبوان في كيفية معاملة الطفل عندما يخطئ، فقال أحدهما للآخر: أنا أضربه. فقال له صاحبه: أنا أنصحه...
· لماذا تشتهر القرية الفلانية بأشجار كثيرة، بينما أرضنا قاحلة، مع أن الماء متوافر لكلا القريتين.!؟
لنُنمِّ لدى الأطفال قضية المقارنة، كأن نقول لهم: يا بني قارن بين وضعك وبين وضع ابن عمك، هل وضعك أحسن أم وضعه.؟ فإذا قال: وضعي أحسن. فلنقل له: لماذا.؟ وإذا قال: وضعه أحسن.؟ قل له أيضاً: لماذا..؟
لنُنمِّ حسَّ العقل المقارِن الذي يقارن الأشياء بعضها مع بعض؛ لأن المقارنة باب كبير من أبواب العلم، وباب كبير من أبواب الفهم.
إن خيار العقول المسلمة اشتغلت في علم الفقه الإسلامي، والفقيه المتوازن الناضج لا يأتي بنصٍّ واحد فقط ويستنبط منه مباشرة، بل يأتي إلى الواقعة الواحدة، وإلى الموضوع الواحد، فيستحضر ما فيها من نصوص، ويوازن بين تلك النصوص، ويُرجح نصاً على نص، ويحاول فهم القضية فهماً صحيحاً دقيقاً، وبهذه الطريقة وحدها تنضج العقلية.
للأسف.. يأتي كثير من الشباب إلى موضوع من الموضوعات، ويأخذ نصاً واحداً، ويهمل عشرين نصاً بلا مبرر، ويأخذ بقول فقيه، ويترك قول عشرين فقيهاً في القضية..! وكانت النتيجة: تأسيس مذهب في العنف تُستباح من خلاله الدماء، وتُتلف عن طريقه الأشياء، ويُروَّع بسببه الآمنون.. وما هكذا يكون الفهم الصحيح للإسلام، وما هكذا يتم إصلاح أحوال المسلمين.
وأملي بالله U أن تنتهي هذه القضية من خلال المعالجة الحكيمة، وأن تصبح في ذمة التاريخ، وأظن أن وعينا يتحسن الآن حول سبل الصلاح والإصلاح..
معاملة الطفل على أنه شخص مسؤول
على الطفل أن يفهم أنه إذا أراد أن يكون حرّاً فإن هناك مسؤولية عن هذه الحرية.. ليعرف أنه إذا أساء في كذا فهناك لوم وتقريع، وإذا قَصَّر في كذا فهناك محاسبة، وإذا كسر شيئاً في البيت وتكرر منه ذلك فعليه أن يدفع ثمن ذلك الشيء أو جزءاً من ثمنه.
عندما نعامل الطفل على أنه مسؤول عن تصرفاته حينئذ يبدأ عقله بالعمل، وقبل أن يُقدِم على أي تصرف يقول: "آه.. إذا فعلت كذا فالجزاء هو كذا وكذا كما أخبرني والدي؛ لذلك يجب ألا أفعل."
يظنّ بعض الآباء وبعض الأمهات أن هذا يتنافى مع تدليل الطفل، وهذا الظن خطأ؛ نحن لا نريد أن نجعل الطفل يشعر بأنه مرتاح فقط، بل يجب أن يشعر الطفل بأنه مرتاح، لكن يجب أن يُشغل عقله أيضاً، وأن يفهم أن كل تصرف من التصرفات التي يتصرفها قد يأخذ مكافأة عليه، أو قد يعاقب ويجازَى عليه؛ ولذا يجب أن يكون مسؤولاً عن تصرفاته في إطار الحرية التي تُمنح له.
([1])ينظر: معرفة الصحابة، أبي نعيم، رقم: 5348