نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

كتب مصطفى بونيف


المغامرات الفكرية لا تأتيني إلا في المقهى ، وأمام هذا الصداع الفكري لا أملك سوى أن أكتب ، فحضور الفكرة يشبه حضور السفينة من رحلة بعيدة اعترتها فيها أمواج البحر وعواصف هوجاء ..ووصولها إلى المرفأ هو حدث هام ، يستحق أن أكون في كامل أناقتي الأدبية ، ...شيئ عجيب أن الكلمات تتساقط من رأسي لتقع على فنجان القهوة ثم أذوبها كما يذوب السكر بملعقة صغيرة لأرتشفها بهدوء الملائكة وثورة الغاضبين ...
أجلس على طاولتي حيث يسرقني فنجان صغير ، وأتوه في أعماقه كما تتوه الأسماك الصغيرة في البحار والمحيطات ، وأحاول الوصول إلى الكنز الدفين في أعماق هذا البحر الأسود ، فكل فنجان قهوة يحمل فكرة وقصيدة شعر ، إن القهوة هي صديقة الأدب مثلما هي عيون النساء ، وخفة الظباء ، وأجنحة العصافير ، والحمامات البيضاء ، وخرير المياه...
أرتشف وأبحث عن المتعة..متعة التفكير ، ومتعة العذاب ، ومتعة ألم إنجاب الكلمات !!!
المطر في الخارج يتساقط بغزارة ..رائحة المطر تزيد من المتعة أكثر وأكثر ، وأسحب أنفاسا قوية فتختلط في رأسي رائحة البن مع رائحة المطر ، فتكبر الدهشة وتنبت في خاطرتي ورود صفراء وحمراء ، وتحلق في عيوني عصافير بأجنحة خضراء ..هذا وقت الكتابة قد جاء في أبهى حلله ...ويطلق نادل المقهى موسيقى من الحاكي القديم ..ويخترق عزف العود طبلة أذني ليصنع عرسا أدبيا عظيما ، وتتراقص أمام عيني الكلمات كفاتنات القصور العباسية والأندلسية القديمة..تزداد الدهشة ، وتزيد معها شهوة الكتابة..أنظر حولي في المقهى فأجد نفسي جالسا في صالون أدبي عظيم ، عن يميني توفيق الحكيم ، ومي زيادة ، وعباس العقاد ، وعن شمالي إحسان عبد القدوس ونزار قباني وطه حسين ، وهناك يجلس فولتير وبلزاك ، وخليل جبران ...يحدث معي أشياء عجيبة في لحظات الكتابة..فأجد نفسي في بلاد العجائب مثلما يحدث في رواية الأديب لويس كارول " أليس في بلاد العجائب " ...ومثلما يحدث لدونكيخوته بطل رواية الأديب الإسباني سرفانتاس. يحدث معي كما يحدث للمتصوفة حين وصولهم إلى حالة التجلي ، فأمسك الخيال بيدي ، فأصافح وأسمع صوت من رحلوا من الأعلام...أناقشهم ، أسمع حكاياهم ، أبكي معهم وأضحك لجنونهم ، وأحاول صيد النجوم والكواكب معهم..ولا ينتهي الحلم إلا عندما يتوقف فنجان القهوة عن التفكير.
ما يخرج من هذا الفنجان الصغير مدهش حقا أكثر مما يخرج من قبعة الساحر ..فتطلع منها الحمائم البيضاء والأرانب الوديعة والعصافير الملونة..لكن الفنجان يتحول فجأة إلى محيط واسع لا تدرك له الأبصار نهاية ...
ثم أتأمل في سطور الجريدة النائمة أمامي على الطاولة ...فاقرؤها بعين كل هؤلاء الذين ذكرتهم ، فتزدحم رأسي بالأفكار ..ويبدأ الصداع حتى يكاد رأسي ينفرق إلى فرقتين...جريدة نائمة كأنها ميتة ..!!!

تتحدث عن حروب كثيرة ، عن خراب البيوت وعن الأوبئة ، تتحدث عن "انفلونزا الطيور " ، وعن سقوط بغداد ، تتحدث عن وصول الحشاشين إلى قصور الحكم ، وعن ناس جاؤوا من خلف الماعز ليجلسوا خلف المكاتب الحكومية ، تتحدث عن البدو الرحل الذين ضلوا طريقهم من البحث عن الكلأ والماء للبحث عن النفط والذهب ..تتحدث عن ثوار سابقين سرقوا أوطانهم ، وعن شهداء بعثوا من مدافنهم في الساحات ليأكلوا لحوم البشر ، تتحدث عن بلد فتحت فمها كالتنين لتلتهم أطفالها ، تتحدث عن الجراد واليهود والطاعون وكل أنواع الغزو القادم إلى الشرق ، تتحدث عن نبي جديد وكتاب سماوي جديد ينسخ كل الأديان والأنظمة القائمة ، دين أمريكي ودين أوروبي ، تتحدث عن صلاح الدين الذي كسر سيفه وأضرب عن الطعام ، تتحدث عن ضباط يأتون بدباباتهم على أضلاع الشعوب المكسرة ، ويدخلون قصور الحكم من المواسير والأنابيب ومن قنوات صرف المياه والصرف الصحي..ويلتصقون في اللحم كالجدري والبرص ..تتحدث عن علماء دين يشبهون قساوسة القرون الوسطى في أوروبا فيبيعون صكوك المغفرة ويتاجرون بالجنة وحور العين وأنهار العسل والحليب ..وجعلوا الحكام فوق العبادة وقاماتهم أطول من المآذن ..!!!!
أبحث بين السطور وخلف السطور وتحت السطور ..أبحث في الصفحات الخارجية والداخلية عن نبأ واحد يبعث بعض البهجة في قلبي ..أشعر أمام هذه الجريدة المنفى أنني في مجلس للعزاء والـتأبين ...وفي موجة الحزن... يرن في جيبي هاتفي المحمول كعصفور سجين ، أتأمل على شاشته لأقرأ رقم المتصل ..إنها قبلة مستعجلة ، قبلة لا تحتمل الانتظار من محبوبتي ، فأضحك كالسكران ..وأنغمس من جديد في بحر فنجان القهوة وفي بحر مأساة هذه الجريدة المتعبة كالموتى..!!!
المطر في الخارج في كل لحظة يزداد إيقاعا ورائحته تستفز أنفي للخروج والاغتسال بمياهه الباردة النقية الصافية .
أحزان كثيرة في قلبي ...أحزان تدفعني إلى الموت على صفحات الورق وبين الكتب...أفتش عن قلم الحبر التائه في جيبي ..أفتش عنه كقطة سوداء في الظلام..جيوبي تلتهم الأوراق والأقلام ....
أتبخر للحظات...أتحول فيها إلى هواء ، أتحول فيها إلى ضوء ...فكل كاتب هو في الحقيقة شبح كبير ، يقرأ خواطر العيون ، ويتكلم بكل لغات العيون والورود..
يزداد إيقاع المطر ، وترتفع معه دقات قلبي ..وأحتاج إلى السفر في أعماق الورق ، وأحتاج أن أمزق الرتابة .
أنا أكتب من أجل تحقيق المصالحة بين الانسان وعقله ، أنا أكتب من أجل تحقيق الوحدة بين القلب والعقل والروح والجسد ، أنا أكتب حتى يتوحد اللحم مع العظام ، ويتوحد القميص الأبيض مع الجلد ، أنا أكتب حتى تقوم دولة جديدة ، لا تاكل أطفالها حين تجوع ، ولا تمضغ لحوم النساء ، وترمي الفقراء والبسطاء للتماسيح الجائعة..أنا أكتب من أجل قيام ثورة فكرية حقيقة ، تخنق آخر الحكام بأمعاء آخر المفكرين الذين يمارسون الإرهاب الفكري ...أنا أكتب حتى نذهب إلى الحياة ضاحكين ، ونطعن هذا الموت الأزرق الذي توطن في صدورنا واغتال الشاعرية من قلوبنا الطيبة ...أنا أكتب حتى تتفجر هذه الجريدة بالأخبار السارة كما ترتفع السنابل من أرض كنا نحسبها جرداء.....آه يا فنجان القهوة يا أشبه الأشياء بعيون امرأة حسناء ..
وأمامي ترتفع امرأة بقامتها ، تنزع معطفها الأسود المبتل بمياه المطر ، ثم تستريح كسفينة متعبة على مقعدها ، تطلب فنجان قهوة وجريدة صباح...
لا شيئ في قاعة الشاي يلفت الانتباه سوى وجه هذه الأنثى الجميلة.
تعتريني الآن رغبة جامحة في رسم قصيدة شعر جديدة تكون في مستوى جمال وأناقة هذه السيدة ، ترتجف يدي نحو قلم الحبر ، ما الذي يمكن أن أكتبه عن امرأة ضارعة في التفكير خلف فنجان قهوة حلوة ..وجريدة ..امرأة تسافر في عينيها إذا تأملتها..
تبتسم في هدوء ، وتهمس في أذن النادل ..يمضي النادل مسرعا ..ليغير أسطوانة الحاكي ، القاعة هادئة في الداخل ، إنها سمفونية " بائعة الكبريت "..وصوت الأمطار يرتفع في الخارج ليحدث تناغما عجيبا ، يا له من جو كنائسي رائع.
استجمعت شجاعتي ، وكل قواي في محاورة النساء الجميلات ، وتقدمت نحوها كما يتقدم البوذي إلى النار بكل قداسة ووقار..
- هل من الممكن أن نتحاور قليلا ؟
- طبعا ، ولما لا ؟ تفضل بالجلوس .
- أنا مصطفى الذي يجلس دائما في الطاولة هناك.
فأجابت بفرنسية وبلهجة سكان مرسيليا : " أليس من العجيب أن يختصر المرء وطنه في طاولة بمقهى كهذا ؟".
فقلت لها بثقة العربي : نحن نختصر أوطاننا في أشياء محدودة دائما ، فمن الرجال من يجد وطنه في مكان عمله ، أو في سريره بالبيت ، ومن النساء من تختصر وطنها في علبة مكياج ، وشنطة يد صغيرة ، وهناك من يختصر حياته كلها في فنجان قهوة مثلما نفعل نحن الآن.
اعتدلت في جلستها ثم استرسلت قائلة : هل أنت فيلسوف أم شاعر ؟.
أسندت ظهري على المقعد ، حتى تعتدل الفكرة في رأسي جيدا ، ثم همست في أذنها " أنا فيلسوف عندما أكتب عن أي شيئ عدا المرأة ، وحينما أكتب عنها يجب أن أكون شاعرا ".
الفيلسوف والشاعر والمجنون كلهم مجانين..وكل مجنون منهم له نصيبه في ذلك..فالفيلسوف مجنون بفكره ، والشاعر مجنون بقلبه ، والمجنون مجنون بهما معا..
وبدبلوماسية المرأة الراقية سألتني : فيما كنت تنوي أن تحدثني أيها الشاعر والفيلسوف والمجنون ..؟
نظرت إليها مبتسما ..كقلبي الذي كان يشبه عصفورا قد أحضروا له عصفورته الجميلة داخل القفص ...وبثقة الشاعر سألتها : هل تفقهين لغة العيون ؟...في عيوني قد اختصرت كل الأوجاع ...ما يحدث معي هو ما يحدث تماما مع رسام رسم امرأة من وحي خياله ..على لوحة زيتية ...وفي الصباح ..صادف المرأة ...ألا يكون ذلك مدهشا ...؟؟
طأطأت رأسها بعد أن صدمتها فكرة ما ...ثم قالت : "هل أستطيع أن أفهم بأني كنت بطلة لإحدى قصائدك أيها الشاعر ؟"...
وفجأة شعرت بأن الأرض قد بدأت تأخذ شكلا آخر غير مستدير ..ربما مستطيل أو مربع ..بدأت أشعر بأن الكون قد بدأ يضيق ليأخذ مساحة جسدها الصارخ بالأنوثة والجمال ..وراحت قصائدي الواحدة تلو الأخرى تأخذ شكل الفراشات الكبيرة الملونة ..لتبشر بميلاد قصة حب ...شعرت لوهلة بأنني أجلس إلى زهرة كبيرة ...أو إلى آلهـــة للزهور ...لملمت شعرها المتناثر كشلال أسود على السكرية ..ثم همست : "ألست واحدة من بطلات قصائدك ؟"...
كانت كل قصيدة حب كتبتها ...تأخذ شكلها ...ملامحها ...أنوثتها ...
أجبتها بفلسفة التائه..." كل قصيدة حب كتبتها ...هي تشبهك ...كل قصيدة كتبتها ..هي مفصلة على مقياس جسمك ...وخصرك ...ورقبتك ...واتساع عينيك السوداوتين .."
همست مرة أخرى بثقة المرأة الجميلة في أذني " من الصعب أن أصدق كلام شاعر ، ولكنني بالـتأكيد...أحب كلامك .."

تحركت بمقعدي..وجلست إلى جانبها ...وسألتها " هل أنت فرنسية ؟"...وبسرعة بديهة أجابت .." وفي جرجرة ميلادي.."
طوال عمري كنت أعتقد أن رواية "روبنسون كروزو" للكاتب دانيال ديفو ...كانت عن المرأة والحب ...فالمرأة عندما يعشقها الرجل ، تصبح مثل الجزيرة المنفى بالنسبة له ...ولكي يتخلص من حبها ..عليه أن يصنع سفينة نجاته بنفسه ...وأفضل وقاية للرجل من الحب ..أن لا يركب البحر إطلاقا ....أي أن لا ينظر إلى عيني امرأة جميلة ...

أطلقت محبوبتي ضحكة فرنسية أنيقة ..لتقول " هل تعلم أن سكارليت أوهارا ، بطلة رواية "ذهب مع الريح " ..للكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل ...كانت من أصول فرنسية ؟"
قلت لها هامسا :" ومع ذلك فإن سكارليت ..لم تمنح للرجل الذي أحبها بصدق سوى الكراهية ...، يتهيأ لي أن الحب لو أخذ جنسية معينة ..لأخذ الجنسية الفرنسية ...ولو كان يجب عليه أن يتخذ صديقا لأتخذ الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو كذلك ...فيكتور هوجو بشاعريته وأناقته ولحيته البيضاء ...يستحق أن يكون صديقا للحب..."
أطلفت محبوبتي قهقهة عالية وكأنها تذكرت نكتة ...ثم قالت " هل قرأت له رواية آخر يوم في حياة رجل محكوم عليه بالإعدام ....أعتقد أنك أصبحت هذا الرجل"...وواصلت قهقهتها العالية ...
....آخر يوم في حياة رجل محكوم عليه بالإعدام ....تلك الرواية التي لم يذكر فيها فيكتور هوجو اسم هذا الرجل ولا الجريمة التي اقترفها ...إنه الحب أليس كذلك...؟؟؟ يبدو لي أنك من عائلة نبيلة وارستقراطية ، أناقتك ..وعطرك ..ولغتك ..كلها توحي بأنك تسكنين قصرا فخما ، على واجهة البحر ...
حدقت في عيوني ..ثم في زجاج النافذة الذي بللته الأمطار وقالت " الحب الحقيقي في حياتنا ، هو الحب المستحيل ..هو أن تخلط دمك الشعبي والملون بحبر المطابع ، بدمائي الملكية ..هي أن تصنع الخسوف ..بتزاوج الشمس والقمر ..والعاشق الذي لا يحمل سيفا في يده ، ولا يجيد ركوب الخيل كالفرسان ليس جديرا أن يدخل عالم الحب ..."

تناوت قطعة سكر وذوبتها في فنجان القهوة الغارق في تفكيره ..مثلي...وبنبرة منكسرة ، حائرة ، قلت لها : " هل هناك امرأة في الدنيا تستحق أن يحبها رجل ، بقلبه ، وعقله ، وجنونه ، وبعقيدته..؟؟"..
وضعت ملعقة السكر على الصحن الصغير ..واعتدلت في جلستها ، كأنها عازفة بيانو ، سوف تعزف السمفونية التاسعة لبيتهوفن ...تأملتني بعينيها السوداوتين كأنها تريد أن تلتهمني بأفكاري ، وقصائدي ، وشبكت أصابع يديها في بعضها البعض ..ووضعت عليهما ذقنها ..فكانت شفتها السفلى تلامس يديها ...كانت شبيهة بلوحة زيتية بارعة الجمال ..ابتسمت ..فتعرى الثلج في أسنانها ...بقيت برهة هكذا صامتة تحدق بي ،وتركت عطرها الفرنسي الراقي يهمس في أذني ، ليجيبني عن سؤالي الأحمق ..." هل امرأة جميلة مثل هاته ، لا تستحق أن يحبها قلب شاعر ؟"
كان كل شيئ فيها يجيب عن تساؤلي ...حتى القرط في أذنها ، كان كالفراشة الصغيرة ، يضحك مني ...قائلا " أنت تعشقها إلى درجة الموت والشعر ...لا تحاول أن تنكر أيها العاشق الذي تفضحه عيناه ..ونبضات قلبه البادية في اختلاجة أصابعه الرقيقة ...ثم يقهقه التمثال الصغير المعلق في قلادتها .."
ثم تنطق ساعة يديها ...كزهرة في معصمها .." يجب أن تفاتحها في الحب قبل أن يفوتك الوقت ...فالحب والزمن أيها الشاعر دائما في سباق ..."

صرخت ملعقة السكر ...بصوت يشبه صوت العجائز " وماذا ستخسر أيها الغبي لو طلبت منها أن تقوم للرقص معك على سمفونية القدر ؟؟؟...يا إلهي يا لك من شاعر بليد .."
ثم أطلقت كل اللوحات الزيتية المعلقة على جدران المقهى ...قهقات عالية...
وتحت قهقهقات ..وملاحظات كل ما هو حولي ..جمعت قواي ..وهمست بصوت خائف خجول .." هل تأذنين لي ... أن أراقصك ..على أنغام قلبي ..."
ارتفعت من مكانها ..كأنها نخلة صغيرة ..وبدأت تطول وتكبر ...وتقدمت إليها ..كالبوذي نحو النار ...في كل خطوة خطوتها نحوها تشكلت ألف خاطرة وخاطرة ...هذه أول مرة في حياتي أجد نفسي أراقص قصيدة شعر ...أو قنينة عطر كبيرة ..و كفراشة عملاقة احتوت كل ما يدور في رأسي ...وعرجت بي إلى شرفات الحب الوردية ...

وهمست ساخرة : "أليس من الجنون أن نرقص في مقهى شعبي ؟؟".
أجبتها : "العاشق الذي يزاوج بين الشمس والقمر ، والذي يحمل سيفا ...يفعل أكثر من هذا من أجل إسعاد محبوبته ..."

...كانت خطواتنا ...في تناغم شديد ...مع السمفونية ...ومع زخات المطر ....
وضعت رأسها على كتفي ...كأنها نائمة ....كانت كحمامة ..جاءت من بعيد .. إلى نافورة اسبانية ...شربت الماء ...ونامت واقفة ....
همست : " هل تعلم ماذا تذكرت الآن ؟....لقد تذكرت رواية سيرانو دي برجراك ..التي ألفها الكاتب الفرنسي إدمون روستان ..."
ضحكت بخفة ولطف : " يا إلهي ..وهل أنا دميم الخلقة إلى هذا الحد ؟ "
قالت "...بالعكس ...ولكنك تشبه سيرانو في الشاعرية ...سيرانو الذي استطاع أن يأسر قلب ابنه عمه الحسناء روكسان ، بقصائده الجميلة .."
همست في أذنها بهدوء ..جتى لا أفسد على المطر...والحاكي ...قطعتهما السمفونية البديعة .." رواية سيرانو ..ترجمها أديبنا العربي مصطفى لطفي المنفلوطي إلى العربية ..وأعطاها عنوان الشاعر ...أعتقد أن اللغة العربية أعطتها بريقا آخر ...الحب العربي بديع أيضا .."
الحب عندنا نحن العرب يشبه المعركة الحربية ...والرجل منا عندما يعشق امرأة عربية ، يجد نفسه أمام قبيلة بحالها ..تحمل السيوف ..وتحيط به من كل جانب ..وكلهم يطلبون رأسه ...
عنترة بن شداد العبسي ..عندما أحب ابنة عمه عبلة ...لم يختبأ من وراء نخلة ليسمع محبوبته قصيدة شعر...حتى تستمع إلى حلاوة كلامه ..ولا ترى دمامة خلقته بل واجهها وواجه الدنيا أجمل قصائد الحب والعشق ، بينما سيرانو كان يختبأ وراء شجرة لينشأ حبيبته روكسان قصيدة في الغزل ...حتى لا ترى أنفه الضخمة..
ضحكنا معا ..ثم ذبنا في مياه الخيال التي غمرتنا فجأة ...كانت القصائد حولنا تلبس الألوان وترقص معنا ...ما أروع اللقاء بين الشعر ..والطيف...إنه شعور رائع أن تجد نفسك قد اقتحمت إنسانا آخر.. أن تسكنه ...أن تعانق روحك روحا آخرى ...شعور رائع أن تحبك امرأة جميلة ..كأن السماء بكواكبها ونجومها ..والأرض بحقولها وجبالها وأنهارها ..والبحار بأمواجها وشطآنها وأسمكاها ..تحبك .
من منكم جرب أن يكون جزء من إنسان آخر...؟
لأول مرة بحياتي أشعر بحالة من التحول ...تحولت إلى كمشة من ذرات الذهب ، كانت كطفلة بيضاء بريئة ...لا أدري كيف خطر ببالي أن أقول لها ، "أنت مدهشة كشخصية سنو وايت ..، التي اخترعها الأخوان غريم .."
لا أدري لماذا كلما شاهدت امرأة حسناء تحضرني هاته الشخصية البارعة الجمال ؟؟
جلست محبوبتي على كرسيها ..كمليكة أسطورية ثم قالت " مرآتي يا مرآتي من هي أجمل الجميلات؟ "...ضحكت في ثقة : " الساحرة ، عمة سنو وايت ..كانت تقول هاته الجملة للمرآة ، حتى تتأكد من أن ابنه أخيها قد ماتت ..بعد أن أطعمتها تفاحة مسمومة"
فواصلت محبوبتي القصة قائلة " ...ولكن الأقزام السبعة أرشدوا الأمير الوسيم إلى القصر الذي تنام فيه الأميرة الحسنـــــاء....ودخل عليها فوجدها جثة هامدة ...ثم أعطاها قبلة الحياة ...وتزوجها ".
وفجأة بدأت أتلفت يمينا وشمالا ...أتساءل "أين هم ؟".
قالت : "من ؟ "
قلت : "الأقزام السبعة ، حتى يدخلوني على الأميرة الحسناء ، لأمنحها قبلة الحياة.
هل كل عاشقة تنتظر قبلة الحياة من فارسها الجميل ؟ ، هل يعقل أننا نموت من الحب والجنون والعشق ، لأجل قبلة من الحبيب ؟
الغاية هي القبلة ، والوسيلة هي الحب ....والغاية تبرر الوسيلة ...كم هي رائعة المكيافيلية حينما تبرر لنا قبلة ساخنة ...

يزداد إيقاع المطر في الخارج ، وتتسارع معه نبضات قلبي ، فهبوط قصيدة على عقل شاعر ، وهبوط امرأة على قلب عاشق ...أمران يستحقان الإغماء الفكري ، والغيبوبة العقلية ...ولحظة يتوقف فيها القلب ، لاستقبال الطعنة ...لحظة تكف فيها الكرة الأرضية عن الدوران ، ويدنو فيها القمر من البحر ، ليستمع إلى قصة الدماء التي تحمل ورود العشق الحمراء ....كل قوانين الكون سوف تعطل في لحظة عشق لشاعر جاء لينزف قصيدة ، ليجد نفسه أمام قصيدة بشرية بارعة في الحسن والجمال...والفكر.
المرأة الجميلة حقا هي تلك التي إذا نظرت إليها تبعث فيك طاقة من الأمل .وطاقة من التجدد ...وطاقة من الشباب ...المرأة الجميلة حقا هي التي تستفز قلمك ليكتب قصيدة شعر ، أو قصة عشق ...هي التي تحرك المياه تحت جذور الشعراء والمبدعين ...هي التي تحرك عروش الملوك ، وتدك المماليك ، وتبني عواصما من الورود والعصافير..
حدقت قليلا في الجريدة ..ثم رفعت عيني المثقلة بالهموم ...إلى عينيها ...كنت كفارس متعب من معركة طويلة ، يبحث عن نهر يستلقي على ضفافه ، ليغسل أصابع قدميه..
وقلت في فلسفة .." الحب ثورة ، والحب الذي لا يحرض على تحريك الساكن ، والانقلاب على العرش ، لا يمكن أن يكون حبا حقيقيا ...الحب هو انتظار اللامنتظر ، ومحاولة لوضع الأصفاد على معصمي البرق ..والإنسان الذي لا يشتهي إنسانا ليس بقادر على إشعال ثورة ، كما قال الفيلسوف هربرت ماركيز ".

أريدك ، أعرف بأني أريد المحال ....
كانت كلماتي تخرج مني كعصافير صغيرة ، تطاير هكذا في الهواء مع الدخان والموسيقى ، وكانت محبوبتي شامخة في جلستها على الكرسي .
أشارت بيدها إلى الجريدة الميتة أمامي على الطاولة .:...هل قرأت هذا الخبر ؟ .......
أجبتها : لا يوجد ثمة خبر مهم في الدنيا أكثر من قدومك اليوم إلى شاعر ...شاعر طال انتظاره لمحبوبته .
هل الاقتراب من امرأة فاتنة مثلك ممكن ؟؟
وبسخريتها المعهودة : يجب عليك أن تقطع رطلا من لحمك ، مثلما كان سيفعل أنطونيو في مسرحية "تاجر البندقية" لوليام شكسبير .
تأملت الجريدة بعدما توقفت أنفاسي ...." كلهم يا سيدتي شايلوك تاجر البندقية المرابي ، وكل عاشق في مدينتنا يحمل تحت معطفه خنجرا ليقطع لحمه ويقدمه هدية إلى ذئاب القبيلة ".
قالت محبوبتي في دلال : وأنت أين خنجرك ، الذي ستقطع به رطلا من لحمك ؟
أخرجت من جيبي القلم .....وقلت : هذا هو يا سيدتي .....هل تعلمين بأنني أنزف مع كل قصيدة ، وأني مع كل قصة أو رواية أكتبها أقطع نفسي . ما أخذه هذا القلم مني أكثر مما كان سيأخذه تاجر البندقية.
وقفت محبوبتي عن كرسيها ، وراحت تسير في أرجاء القاعة الواسعة ، تتأمل اللوحات المعلقة ....وكنت أسير خلفها أسرق بأنفاسي عطرها الذي كان يملأ المكان بالحياة والشاعرية .
ثم تسمرت أمام لوحة "الجيوكاندا" ....وقالت في غيرة : هل تعجبك الموناليزا ؟؟
أجبتها : طبعا ......إنها لوحة خالدة .
قالت : ما رأيك في ابتسامتها ، ساحرة أليس كذلك ؟
تنحنحت قليلا ، وحاولت أن أرسم على وجهي ابتسامة تشبه اللوحة : ليزا ..كانت سيدة كئيبة ، حتى أن ليوناردو فنشي اضطر إلى أن يستأجر مهرجا طيلة الأربع شهور حتى تحافظ السيدة على ابتسامتها .
قالت : إذن من البارع ....ليوناردو الذي رسم اللوحة ، أم المهرج الذي جعل السيدة الكئيبة تبتسم لمدة أربع شهور ؟؟
وحتى أهرب من السؤال قلت لها : ألا تعجبك نظراتها ، إنها تبعث على التساؤل ، كما أن ابتسامتها غامضة ...
وفجأة نطقت اللوحة : كانت نظراتي نظرات الحب ، لقد عشقت ليوناردو حد الجنون ، فأنا لم أعرف الحب إلا معه .
ابتسمت محبوبتي وقالت : زوجها السيد جيكاندو ...كان يخونها مع امرأتين .
ومن اللوحة صرخ نابليون : اتركوني أنام بسلام ، فلقد تعبت من الحب والحروب .
تمشيت قليلا مع محبوبتي ..نقرأ اللوحات المعلقة ، قلت : أعتقد أن فان جوخ الرسام الانطباعي الهولندي كان شاعرا ، لأنه قطع أذنه ولم يقطع أصابعه ...فالأصابع هي أغلى ما لدى الرسام .
قالت : وما هو أغلى ما لديك أيها الشاعر ؟
أجبت : الآن أغلى ما عندي هي عيوني التي أراك بها ، ولساني الذي أتكلم معك به ، وأصابعي التي تطارد همسك .
توقفت أمام عازف البيانو ...ثم انحنت لتهمس في أذنه : أوبيريت دون جوفاني ...من فضلك.

مصطفى بونيف