التلويح بشعراء التوشيح !
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم ، و صلى الله على رسوله الأمين محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي، و على آله و صحبه أجمعين !
سأتناول في هذا المقام ما يلي:
1- تعريف بالتوشيح
2- بحث أسباب عزوف الشعراء عن هذا الفن البديع
3. كيف نكتب الموشح .
4-عرض موشحات للمتقدمين في هذه الصناعة
5- عرض موشحات لشعراء معاصرين أبدعوا في هذا الفن.
وسأسلك منهج ( ما قلَّ ودلَّ ) حتى تكون هذه الأطروحة مفيدة و سهلة المحمل على من يرغب تعلم التوشيح ، و الله أسال أن يهديني و إياكم سواء السبيل !


تعريف بالتوشيح:
كان التوشيح حركة موفقة في التجديد قام بها شعراء العرب في الأندلس رغبة في التحرر من سجن القافية الواحدة
ربما ساعدهم عليها جوارهم لأمم تنظم الشعر على غير قاقية فجاء الوشاحون بنظام يكسر رتابة القافية اليتيمة و لا يخرجهم عن أسس الشعر العربي في وزنه و قافيته؛ فكانت الموشحات .
قال عميد الأدب العربي في العصر الحديث عباس محمود العقاد_رحمه الله - في مقال له بعنوان (المذاهب العربية):
(و من الشعر الغربي ما يعرف كل سطر منه بعدد من المقاطع و النبرات ، و لكنه بغير قافية تنتهي إليها هذه السطور .
أما ضروب النظم التي تلتزم فيها القافيه ، فكلها في نشأتها كانت تغنى أو تنشد على ايقاع الرقص ثم استقلت بأوزانها المحدودة
على نحو مشابه للأوزان العربية ، و هي الموشحات ...) اهـ (1)
و يورد صاحب (الموشحات الأندلسية) ما نصه:
(... أمَّا المستشرق الإسباني ((ايميليو جارثيا جومث)) فإنه يرى أن الموشحات تضمنت عناصر عربية أصيلة ، و في بنائها الفني تشابه كبير مع المسمطات و المخمسات وولكنه يعتقد أن في الموشحات عناصر محلية إسبانية ...) اهـ (2)




فيحق لنا أن نقول بعد هذا :
إن الموشحات الأندليسية كانت نتاج تجاور أسموزي بين الثقافة العربية الشرقية و الثقافة الأوربية الغربية تأثرا الطرفان ببعضهما و أثرا في الفكر الإنساني إلي يومنا بل إلي ما شاء الله ، و قيمتها كتجربة شعرية رائدة كانت في توسيع دائرة القافية عن عنق الشاعر لا التخلي عنها .


___________


(1)عباس محمود العقاد:حياة قلم،المجموعة الكاملة ج 22، دار الكتاب اللبناني ط 1982
(2) د. محمد زكريا عناني : الموشحات الأندلسية ،صادر عن المجلس الأعلى للثقافة الفنون و الآداب -الكويت، عالم العرفة ط يوليو 1980 ، ص 19 .




تعريف الموشح:
لغة:
بالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد أن لسان العرب يقول:
الوُشاحُ: كله حَلْيُ النساءِ، كِرْسانِ من لؤلؤ وجوهر منظومان مُخالَفٌ بينهما معطوف أَحدُهما على الآخر، والمُوَشَّحةُ من الظباء والشاء والطير: التي لها طرّتان من جانبيها،وثوب مُوَشْح وذلك لوَشْيٍ فيه.
قلت: والتوشية هي فعل الشِيَةُو الشية كما في لسان العرب:
هي كلُّ لونٍ يخالف معظمَ لون الفرس وغيره.
يقول الله تبارك و تعالى : (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الألاض و لا تسقى الحرث مسلمة لا شية فيها) أي أن لونها الذي بينه الحق من قبلُ ( قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟، قال إنها يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونه تسر الناظرين). فلون البقرة أصفر صافٍ لا يخالطه لون آخر.
و هذا المدخل اللغوي يسهل علينا فهم المعنى الاصطلاحي .
اصطلاحاً:
يعود _بظني_ إلى بناء هذا اللون الشعري من تنويع في القوافي و التزام الشاعر للترتيب الفقري، كما يفعل الوشَّاء في نسجه للثياب و الوشَّاح بين الدر و الجوهر.
و يدخل في هذا المعنى التنويع في الأوزان ، و التزنيم اللغوي و هو ادخال ألفاظ أجنبية أو عامية مبتذلة على الفصحى للموشحة الواحدة.


ملحوظة:
وأرى أن تعريف ابن سناء الملك_ رحمه الله _ للموشحة بقوله: ( كلام منظوم على وزن مخصوص) لا يفي بالغرض ، و لو قال على وجه مخصوص لكان أوفق لواقع الموشحات ،و قد كان صلاح الدين الصفدي (ت764هـ) أكثر توفيقا حين قال : ( و رسم الموشح هو كلام منظومٌ على قدَر مخصوص، بقوافٍ مختلفة ).
قلت:
فقوله (قدَر) أرى أن تقرأ بتحريك الدال بمعنى الحكم و قضاء فيكون قريبا من المعنى الذي أرتضيه فالشاعر هو الذي يحكم الوجه الذي ستسير عليه موشحته و يقضي فيها بقواعد التوشيح ،والله أعلم!
نشأة الموشحات:
نشأ فن التوشيح في القرن الثالث الهجري ، وهو فن أندلسي خالص الزمان و المكان ، و ما امتداده شرقا و غرباً إلا كامتداد الغصون و وصول الثمار اليانعة الطيبة إلى آفاق غير تلك التي تحيط بالجذع، و كل ليٍّ لأعناق النصوص أو تتبع للمُختلف عليه من النصوص هو ظلم بائن لحق براءة اختراع آبائنا المغاربة للموشحات.
و يبقى الخلاف بين المؤرخين على :
مّن هو أول من اختط هذا الفن ؟
و خروجاً من هذا الخلاف بالسلامة سنذكر أسماء من رشَّحتهم المصادر القديمة لسُدَّة الرِّيادة و هم:
محمود بن محمد القبري الضرير
و محمد بن معافر الفريري
و ابن عبدربه الأندلسي صاحب العقد الفريد.
و قد برع في هذا الفن جملة من الشعراء قديما ، منهم:
ابن بقي ، و ابن زمرك ، و ابن زهر ، و لسان الدين الخطيب ، و ابن عبادة القزاز ، و ابن المريني ، و محي الدين بن العربي الصوفي ،ابن سناء الملك المصري ، و ابن أرفع رأسه ، و ابن الفرس ، و الأعمي التطيلي ، ابن اللبانة ،ابن سهل ،.....الخ.


ازدهار الموشحات في الأندلس:
يعتبر القرن الرابع الهجري أي العاشر الميلادي ، هو بداية العصر الذهبي للموشحات ، و كان للوشاح عبادة بن ماء السماء الفضل الكبير في تطوير هذا الفن و ابرازه بالسمات المتعارف عليها اليوم و لا نهضم حق من سبقوه و لكن نصوص بعضهم ضاعت كلية و بعضهم لم يرد منها إلا النتف التي لا يعول عليها ، و لولا ذكر المؤرخين لهم لما ذكرناهم أعلاه.
استمر هذا الازدهار زهاء خمسة قرون من القرن الرابع الهجري و حتى نهاية القرن التاسع الهجري بسقوط حاضرة الأندلس العربية غرناطة في عام 897 هجري.


الموشح في المشرق:
و كان لابن سناء الملك المصري الأثر الأبرز المحمود في نقل فن الموشحات إلي المشرق العربي تأصيلا و نظماً فقد ألف كتابه الشهير ( دار الطراز) حتى قيل الجميع عالة على ابن سناء الملك و كتابه.
و بعد سقوط غرناطة و نزوح العرب من أسبانيا إلى المشرق العربي نقلوا كامل التركة العربية معهم و لم يعد للسان العربي من صدى، و إن قالت المشارقة للمغاربة عن كتاب (العقد الفريد) حين وصلهم:
( هذه بضاعتنا ردت إلينا) ، فإنهم قالوا عن الموشحات :
( هذه تركتكم صارت إلينا).
انتشر الموشح في شمال أفريقيا العربي المجاور لبلاد الأندلس (المغرب و تونس و الجزائر حاليا)،ثم في مصر و الشام ، وساهم شعراء المشرق بسهم وافر ،و أهم دور لعبته هذه الأقطار هي المحافظة على هذا الفن ، و إن اقتصر دورها في العصور الأخيرة على انشاء الجوقات و الغناء ، و لم يبق في يومنا هذا سوى هذا المظهر الأخير .
عصور الموشح:
لم يُعرف الموشح إلا في أربعة عصور من العصور الأدبية التي عاشت و تعيش فيها الضاد ، و هي:
- العصر الأندلسي (92-897هـ) و الذي بدأت فيه الموشحات في القرن الثالث الهجري.
- العصر المغولي ( 656هـ-922هـ ).
- العصر العثماني ( 922-1213هـ ).
- العصر الحديث (1213 هـ - ليومنا الحاضر) .
و هناك من يدمج العصر المغولي و العصر العثماني تحت مسمى العصر الأوسط.




الموشح في العصر الحديث:
لا يخلو عصر من العصور فيما بين العصر الأندلسي و العصر العثماني من ظهور مشاهير فن التوشيح حتى جاء العصر الحديث الذي تلا العصر العثماني ، لنجد عزوفاً تاما عن الموشحات فهذا البارودي و أحمد شوقي و حافظ إبراهيم و ابن عثيمين و حمزة شحاتة و من جاء بعدهم من شعراء العربية المتأخرين فلا تجد للموشحات أثر ا في دواوينهم و استمر الحال على ما هو عليه حتى وقتنا الجاري، ما خلا بعض الأصوات التي تجاهد لإحياء هذا الفن البديع و تذكير الناس به، و في استطلاع لأراء بعض النخب من الأدباء العرب المعاصرين _ ممن تمكنت من التواصل معهم_ حول أسباب عزوف الشعراء عن الموشحات كتابة و تنظيرا و تقديما مما آل بهذا الفن ليكون أحفورة جميلة في متحف الشعر، فلقيت القوم منقسمين إلى فريقين:
1.فريق من الأدباء أرجع السبب إلى الموشح نفسه،
2. و فريق ألقى بالائمة على الشاعر.






أراء الفريق الأول:
و هو يرى أن سبب عزوف الشعراء عن الابداع في مجال التوشيح يعود إلى:
- كون الموشح لا ينتظم على هيئة موحدة:
فليس ثمة شكل ثابت له كما هو الحال في القصيدة الكلاسيكية أو قصيدة التفعلية ، فتجد هناك الموشح الأقرع و الموشح التام حسب وجود و اختفاء القفل الأول أو المطلع ، و تجد الأقفال المنفردة و المزدوجة و المربعة و المخمسة ، و تجد تنوع الأوزان داخل الموشحة الواحدة ، مما قد يربك الشاعر الذي لا يمتلك حصانة عروضية و لا حصافة نظمية.
- يدعون أن الموشح لا يناسب العصر:
فطبيعة الموشح المخملية المرتبط في الأذهان بشيوع المشتهر له من الألحان و المعاني بالغناء و ما يتصل به من حياة ناعمة عاشها الأجداد العرب بالأندلس ترجمتها الموشحات في رقة البناء و سلاسة الأداء و عذوبة المفردة ، حتى ظن الظانون أن الموشح ليس إلا لمواضيع العشق و الغرام، أما قضايا العصر فيضيق عنها فمال الموشح و مسائل الثورات العربية ،و الصراع الاقتصادي و الصراع السياسي .
أراء الفريق الثاني:
_غياب الشاعر الوشاح المشروع:
أصحاب القصيدة العربية الأصل (الكلاسيكية) أحيوا عمود الشعر فيها كما فعل محمود سامي البارودي و من جاء بعده ، و أصحاب قصيدة التفعلية ممن قالوا بصلاحيتها و مواكبتها لروح العصر جاهدوا في نشرها و استماتوا حولها ، حتى ما يسمى قصيدة النثر و هذا ما لا يصدقه عاقل أن النثر يكون شعرا لمجرد الإضافة بذلوا و يبذلون ما في وسعهم لاقناع من يقتنع بأمرهم ، و المنتديات و الصحافة و الإعلام المسموع و المرئي يعج بكل هؤلاء إلا الموشحات فلا نصير لها اليوم.
فلم نسمع بشاعر وشاح طاف الأرض ينشر الموشحات في أمسياته أو فرض على الجمهور العام قضية التوشيح في لقاء صحفي أو ملتفز (مرئي) و اثار حولها ضجة تفيق النائم عن و تقوي القائم في هذا الأمر .


غياب الشاعر الوشاح طبعاً و ثقافة:


لا خلاف أن هناك من عباقرة القصيد العربي من تفنن في فرع من أغراض الشعر حتى صار ذكر هذا الشاعر مرتبط بهذا الغرض كجرير و الهجاء ، و أبي العتاهية و الزهد ، و قيس ليلى و الغزل العذري ، و أبي تمام و الحكمة ، و المتنبي و وصف الحروب ، و أبي نواس و المجون ، و مردّ هذا إلي الطبع و ثقافة العصر من حوله.
فالله خلق الناس متباينين شكلا و مضمونا و هم كذلك في الشعر فهذا العباس بن الأحنف مع كونه عباسي الأرومة هاروني العصر إلا أنك لا تجد في ديوانه مدحا أو هجاء ، بل كل ديوانه غزل ظريف و عفيف ،اللهم ما خلا قصيدة واحدة لا تتجاوز الثمانية أبيات مدح بها ابن عمه هارون الرشيد في رحلة طويلة من بغداد إلى خراسان و أظنه كان محرجا ، فطبعه غلبه فأجاب الطبع
فقدَم لنا روائع الشعر، منها:
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم = فعندكم شهوات السمع و البصرِ
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به = عفُّ الضميرو لكن فاسق النظر
و قس على العباس بن الأحنف ما تجده من تبلور شخصية الشعراء في تمازج حروفهم و تشكيل أرواح من أبدعها وزنا و قافية،
و الأمر كذلك مع الموشح فظهور التشويح و غلبته على سائر الفنون الشعرية في عصر سالف كان من أبرز مقوماته:
ظهور مواهب فطرية طبعها قابل لهيئة الموشح و موسيقاه ، مع ثقافة بخبايا العربية و ظواهر الحياة و إقبال من المجتمع على الموشحات و انتظار لما يبدعه الوشاحون لهم .
أما اليوم فإن وجد الشاعر المطبوع قتلته فتن العصر و ضعف الهمم ، فلا موقف المسلمين اليوم الباهت ثقافيا و سياسيا و اقتصاديا و عسكريا يجعل الشاعر يركن إلى وصف الطبيعة و التغزل بالجمال فهو مشغول بحساب البقية الباقية من ديارنا التي لم تنلها جحافل الاستعمار و بالبكاء على ما سلب ومن لا يرفع رأسا بشأن مما سلف و لا احتفل بالدين و الوطن، تجده شاغل البال بلقمة العيال ، فخشونة العيش صيرت شعراء عصرنا جُفاة .
و زيادة على ما سبق تجد الشاعر يلهث خلف الظهور السريع فهو كما يقال يساير رغبة الجمهور لقلة النظر و ضيق الأفق فجمهور اليوم غير جمهور الأمس و سيكون غير جمهور الغد ، و الأحوط أن يرسم الشاعر لموهبته خريطة تضم أذواق الحاضرين و القادمين من الغيب في شتى صنوف الشعر و منها التوشيح.
و أضيف إلي ما تفضل به الفضلاء أمرا لا يقل أهمية عما سبق، ألا وهو:
دور الإعلام إزاء الموشحات :
دور باهت للإعلام تجاه الموشحات و أراه يعمل على صعيدين _ دون قصد- هما:
-تجاهل الإعلام للتوشيح :
فخلال متابعتي الحثيثة للإعلام و أخص منه الإعلام الثقافي عبر القنوات التابعة للحكومات أو الممولة من قبل أفراد أو أحزاب أو هيئات نجد تغييبا متعمدا مرده الجهل بهذا الفن و قيمته كتراث أدبي و فني و نفسي و تأريخي لحقبة و أمة عاشت كبرزخ إنساني حي بين الشرق العربي و الغرب الأوربي، ما قال الله عن مثل هذه الحال في الطبيعة الغير عاقلة ( بينهما برزخٌ لا يبغيان) و سأشرح هذه الظاهرة في قادم الصفحات.
- التجهيل بهذا الفن:
و هذا الدور خطير بل أخطر مما سبقه، فالجهل بالشيء مع كونه منقصة إلا أن تشويه الحقيقة و تقديمها في قالب لا يناسبها يجهل الناس بحالها و ينفر الناس منها ، و هذا هو نصيب حقيقة الموشحات ، فالصورة التي يقدمها الإعلام عن الموشحات أنها جوقة موسيقية بأنغام خاصة مع أداء غالبه الجماعية، مع جملة من الراقصات يلبسن أزياء تحاكي العصور السابقة لعصرنا و ديكور أندلسي به حديقة و نافورة في وسط الدار و الكؤوس تدور لتدور معها رؤوس ٌ فارغة إلا من الشهوات ، و في أحسن الأحول يأتون بفرقة دراويش من المتصوفة ينشدون قصائد صوفية و أمامهم راقص في ملابس الدراويش المولوية و يدور حول نفسه في حركات تمثل الفكر الصوفي الوجودي ، و لهذا نفرت الناس من الموشحات لظنها أنه شهوة أو دروشة .
حتى اشتهر بين الناس و عامة المثقفين ظاهرة الخلط بين الموشح و الدوبيت و السلسلة و المسمط ، فسموها كلها موشحات ؛ لمجرد ارتباطها برتم موسيقي تقليدي ( كلاسيكي ) مزركش .
مبحث: تفسير ظاهرة الموشحات
سؤال يتردد في ذهن الواقف على طبيعة الشعر:
ما الذي دفع بالعربي الشاعر لابتكار الموشحات ، و ما اثرها على بقية الفنون؟
أظن أن الزخرفة هي الظاهرة التي أسرت لب العربي الساكن الأندلس و من ثمَّ أنزاحت هذه الظاهرة من الخارج إلى داخله فأنتج لنا زخرفة روحية ظهرت جلية في الموشحات.