هذه جولة في بعض محاضرات الشيخ الحافظ سعيد الكملي – حفظه الله – توقفت عندها كثيرا .. وعند نعيه لضيق الأفق في زماننا .. حتى أصبحنا نسمع من يتحدث عن القضايا الفقهية التي فيها خلاف معتبر .. بوصف أحد الأقوال بأنه "السنة" – مثل صلاة تحية المسجد في أوقات النهي مثلا – مما يشي بأن الآخر"مبتدع"!!!وهذا يقول عنه الشيخ لم يسمع في غير زماننا .. وهذا دليل رداءته!! أي رداءة قولِ لم يظهر إلا بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة من الخلاف الفقهي بين علماء الأمة وأفذاذها،وجهابذتها!!تحدث الشيخ كثيرا عن تأسيس الخلاف في الإسلام،وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم .. والمثال الأقرب حديث ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) – أو كما قال صلى الله عليه وسلم – وكيف فهم بعض الصحابة - حين أدركهم وقت العصر - الأمر على أنه من باب الحدث على الإسراع،فصلوا العصر .. وفهمت طائفة أخرى الأمر أنه على ظاهره .. فلم يصلو العصر إلا في بني قريظة.وعلم الحبيب صلى الله عليه وسلم . . فلم يخطئ أحد الفريقين.مما يعني أن الحق في بعض الأحيان قديقبل القسمة على اثنين .. أو كما يقول الشيخ هو تأسيس وتدريب للصحابة رضي الله عنهم على الاختلاف .. مع الاتلاف..دون خصومة ولا شحناء.ومثال آخر يضربه الشيخ من قصة صحابيين ..حضرتهما الصلاة .. وليس معهما ماء،فتيمما،وصليا،ثم وجدا الماء قبل خروج الوقت،فتوضأ أحدهما وأعاد صلاته،ولم يفعل الآخر،وحين أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم ..قال صلى الله عليه وسلم للذي توضأ وأعاد : لك الأجر مرتين .. وقال للآخر : أصبت السنة .. وأجزأتك. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم،فهموا الدرس جيدا .. لذلك اختلفوا .. وهم مؤتلفون.تحدث الشيخ أيضا عن عجيبة أخرى من عجائب هذه الأمة .. التي كانت متسعة الصدر للاختلاف .. والعجيب أن الخلاف هنا ليس بين "طائفة" و"طائفة" ولكنه خلاف بين"أمنا عائشة" رضي الله عنها وعن أبيها وبين"أمهات المؤمنين كلهن" و"الفقهاء الأربعة" من بعد !!إنها مسألة "رضاع الكبير" حين حرم الإسلام "التبني" ونزل قول الحق سبحانه وتعالى :"ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم .." الأحزاب"5".وكان أبو حذيفة قد تبنى "سالما"وحين نزلت الآية ونفت التبني .. جاءت سهلة بنت سهيل،زوج أبي حذيفة – رضي الله عنهما – وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : "يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة الكراهية من دخول سالم عليّ .."فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بإرضاعه .. بأن تحلب له من لبنها.فكانت أمنا عائشة رضي الله عنها وعن أبيها .. تُعملُ هذا الحديث فتأمر إحدى زوجات إخوانها أن ترضع – تحلب – لمن تريد أن يدخل عليها من غير محارمها .. فدار نقاش بين أمنا عائشة وأمنا أم سلمة حول الأمر ..حيث رأى كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .. أن ذلك كان خاصا بأبي حذيفة .. وتابعهن على ذلك الأئمة الأربعة.وأمنا عائشة – رضي الله عنها وعن أبيها – تقول لأمنا أم سلمة – رضي الله عنها – اما لك في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسوة؟العجيب،كما يقول الشيخ،ليس فقط في اختلاف أمنا عائشة مع بقية الأمهات رضي الله عنهن،بل العجيب-أيضا – أن "ظاهر" الدليل مع أمنا عائشة رضي الله عنها .. فليس في الحديث ما "يخصص"الحكم .. كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ضحّ بالجذع من المعز ولن تجزي عن أحد بعدك .وقع الاختلاف .. مع وجود الائتلاف .. ولا يستغرب ذلك على تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم النجباء.قبل أن نختم هذه الهمسات .. نشير إلى أن الشيخ تحدث عن فترة من تاريخنا "تغول"فيها "الفقه" على الحديث .. فكان المتخصص في الفقه .. تفتح أمامه الأبواب .. أبواب .. القضاء .. والفتوى .. وغيرها من الوظائف .. أما من تخصص في الحديث .. فلا.ثم أحيا رجال – جزاهم الله خيرا،كما قال واقول – الحديث وأعادوا له مكانته .. ثم تحول الأمر "فتغول" الحديث على الفقه!!وتساءل الشيخ هل القضية كلها في أن هذا الحديث "ضعيف" أو "صحيح"؟!!ختاما روى الشيخ – حفظه الله – أنه زار مكانا ليلقي محاضرة ،فقيل له إن أهل ذلك المكان بهم جفاء وغلظة .. فقال : إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا!!قال .. وحين جلست صاح بي أحدهم : يا شيخ نحن مع الدليل!قال الشيخ فقلت له : هل بينك وبين الدليل قرابة ونسب؟!أأنت مع الدليل وغيرك يأتي بالأمور من عنده؟!!ثم قال له .. سأعطيك مسألة وحدة اختلف فيها الفقهاء على أربعة أقوال .. ودليلها واحد .. فأخبرني الدليل مع من؟القضية المقصودة هي قصة حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش- وليس معهم ماء،وليسوا على ماء - بسبب فقد عقد أمنا عائشة رضي الله عنها وعن أبيها .. وبعث رجلين للبحث عنه .. ولم يكن التيمم قد شرع بعد،فأدركت الصلاة الرجلين ..وليس معهما ماء .. فصليا على حالهما .. دون وضوء.وضج الناس يشتكون الصديقة لأبيها – رضي الله عنها وعنه – فجاء يلومها،ويطعنها في خاصرتها،والحبيب صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها .. تقول ما يمنعني من الحركة إلا خشية أن أوقظ رسول الله،صلى الله عليه وسلم . عاد الرجلان .. وأنزل الله – سبحانه وتعالى – آية التيمم،فقال سيدنا أسيد بن حضير – رضي الله عنه – ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.محل الشاهد : قال الفقهاء .. إذا فقد إنسان الطهورين فما العمل؟قال المالكية :لا يصلي ولا يقضي قوال الحنفية :لا يصلي ويقضي : وبه قال ابن القاسم تلميذ الإمام مالك ..وقال الشافعية :يصلي ولا يقضي : وهو قول عند الحنابلة و قال به أشهب من المالكية.وقال الحنابلة : يصلي ولا يقضي : وهو المشهور عنهم.فهذه الأقوال .. كلها متكئة على واقعة واحدة .. فليس الأمر أمر حديث صحيح أو ضعيف ،وإنما "انتزاع" الدلالة من الحديث .. قال الإمام مالك إن نزول آية التيمم تدل على عدم قبول الصلاة دون "طهور"ومن ليس لديه"طهور"- أي حتى خرج الوقت – فليست عليه صلاة .. ولا قضاء ،لأنها لم تعلق بذمته أصلا.ونزع الإمام أبو حنيفة نفس المنزع .. إلا أنه قال يقضي على قاعدة : ما جاز لعذر بطل بزواله.إذن .. الدليل مع من؟ولم يحر صاحب"نحن مع الدليل "جوابا.وبعد .. فما سُطر هنا مما علق بالذاكرة .. بعد سماع .. عدة دروس،ومرات عدة، للشيخ سعيد الكملي – حفظه الله – فإن أصبت فمن الله .. وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان وأستغفر الله لي له ولكم.كلمة في الهامش :قد يظن ظان أن الأمر سهل .. ولكنه ليس كذلك .. فقد يصل إلى "التكفير" وغيره.روى الشيخ "الكملي" أن شابا من بلد مالكي .. كان يصلي مع إمامه ويقنت معه في الفجر ..كما هو الحال عند المالكية – وعند الشافعية – ثم سافر الشاب فترة،وحين عاد ..وقنت الإمام،قال له :ألا زلت تقنتُ يا كافر؟!!!!!!ويقول الشيخ أيضا أصبحنا نسمع كثيرا : ما قول أهل السنة في الانتخابات؟ ما قول أهل السنة في كشف وجه المرأة؟يقول الشيخ : ومعنى هذا السؤال .. أن من قال بجواز كشف المرأة وجهها فهو مبتدع؟إذن عبد الله بن عباس – حبر الأمة – مبتدع؟!!إذن الإمام مالك مبتدع؟!!قلتُ: كيف لو سمع الشيخ قول من قال : لا يقول بكشف وجهة المرأة إلا ديوث!!!!!!ومسى الله بالخير أخا لنا قال لي : كنت إذا نازعتني نفسي أقول : يا فلان أأنت أغير من الله؟أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يرفع بهذا القول درجته .هذه أمثلة ذكرها الشيخ .. وسبق لي أن رأيت رجلا "قب"على رجل ليبي صلى تحية المسجد – في الحرم النبوي الشريف – قبل المغرب .. ولا مه أشد اللوم؟كما ذكر لي أخونا عبد العزيز أبو حجاري .. أن رجلا رأى العبد الفقير إلى رحمة ربه يتجه ليصلي تحية المسجد،قبل المغرب أيضا،فتساءل مستنكرا إن كنت سأفعل!!وفي نقاش حول الأمر مع ولدي"أشرف" ذكر لي قصة عن الإمام مالك أنه دخل المسجد في وقت النهي ..وذهب ليجلس ،فقال له رجل : صلّ.فصلى. وحين انتهى،سأله آخر .. ألست تقول بعدم الصلاة في هذا الوقت؟قال : نعم. ولكني خشيت أن أدخل في قول الله "وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون"المرسلات "48".فكأن الإمام صلى على مذهب غيره!! .. فسبحان الله ما أوسع صدورهم ... وما أضيق صدور المتأخرين!!أبو أشرف :محمود المختار الشنقيطي المدنيهمسات من الحافظ "سعيد الكملي"