النخلة
من مكانه ذاك طرح علي نفسه السؤال للمرة الألف
-إلى أين سأمضي؟
قطع المسافات وما أعياه المسير،توزعته المشاعر والأحلام، ومع ذلك أصر على مواصلة اللعبة، وهل كان
بإمكانه استبدال الفناء والتلاشي؟ تتحول اللحظة في الذهن إلى مكان، وتتسلسل الأمكنة كما السراب.ياه، هل يكفي المكان لا حتواء كل هذا الغم بعد أن ضاقت به الذات؟
منذ ذلك الآن إلى الآن، تجده في كل مكان.تبتلعه الجموع، يدحرجه الزمن ،وكل ما حواليه مجرد ذكريات تختلط و تتمازج فتغدو الأشياء والناس بلا شكل ولا معنى..
لقد أبت الأيام إلا أن تزيد من هذا الضيق والإختناق ، وغابت فاطمة وقبلها غاب الأب الذي قاوم "النصارى"...
مثل هذه الذكريات تهيج الأعصاب وتدمر الذات... وبينما الذهن شارد، والبطن فارغ ، والمقصد حيثما سارت الجموع، تتعقب عيناه الأركان بحثا عن أعقاب السجائر ، وهذه اكتسحت الحنايا والأوصال منها يستهلك ما طاب له مثنى وثلاث ورباع.
يرتاد كل ركن يعافه البشر ويدمدم، مرة يضحك ومرة يبتسم ، وطويلا يغشاه الهم والغم.
ومع مر الأعوام يزداد الجدار بينه وبينهم سمكا... فلا مناص من الصمت المريع.ولا مناص من الصمت الذي يكفيه صخب هذا العالم.
فما هذا الخبل؟لا أحد يفهم.كل يحاول يسير ، يذوب ،يبكي، ويصرخ... كثيرا ما يزور قبر "فاطمة" يخفف عن نفسه غم الأيام. وقبر الأب يشكوه سوء المآل
.العزم ذاك الذي أعطاك المثابرة على صد الذل وقهر الخذلان، العزم ذاك لم يعد له قرار.العزم ذاك تائه في نسيج عنكبوتي مرعب، والانسلاخ أبدا لم يحدث فجأة، أبدا لم يحدث فجأة.
ويتساءل: ما سبيل الاتصال بهذا العالم الزئبقي الأجوف، المصنوع لا من أجل أبنائه.ويدمدم.مرة يضحك ومرة يبتسم، وتتعقبه الألسنة "بطلب الستر" والوقاية من الشيطان.
هذا الرجل الصامت.الهاديء ،المنزوي ، مجرد نقطة في جسم الثعبان الآدمي الزاحف بلا انقطاع، يضحك متى أدرك أنه يمتد بالطول وبالعرض.
ويضحك متى تذكر أن الناس كالسيارات أو الشاحنات ’لابد لها من سائق.ويركن سيارته كيفما اتفق وسط هذه الأشياء.
ماهذا الخبل؟ ويتذكر صفعة الرومي. والنظرة الشزراء.وباريس التي امتصت من الجسد ربيعه والجسد الهالك متى حل المساء،وزحمة الأشياء والناس،
والأعماق السفلى المظلمةالنتنة، وزحمة الميترو" والرؤوس المغبرة المشعتة ، ولسع الصقيع ودفء الغرف الضيقة والبيرة ابنة الكلبة التي تحيل هذا الجحيم الى جنة تجري من تحتها الأنهار
والرسائل.ثم الرسائل.... وبات الحلم كابوسا مزعجا يتعقبه كل حين.بقدر ما يبذل تتفتح البطون وتمتد الأيدي.
وباريس الغانية تسلبه البقية.فما الفائدة إن كان الفرار من الهزيمة ثمنه الهزيمة.
وكان السؤال:
- إلى أين سأمضي ؟
وتكرر على إيقاع الهزيمة كل مرة.ويتذكر أليس هذا امتدادا لكابوس حكى عنه الأب، وامتدادا للتخاذل والاتكال...
ويتذكر،رغم امتداد المكان قطع المسافات وتجاوز البحر دون جواز سفر، ولما ضبطوه قذفوه داخل طائرة.
لم يكن الألم أعمق ولا اشد وطأة فالحقيقة أن لا فرق بين هناك إلا الكاف. والكاف يحيل إلى المماثلة والمشابهة،والرتابة... إلى آخره.
والآن مادا حدث الآن؟ ضاعت الهوية وضاع الحلم وحل التلاشي ، وفي الذهن فراغ كالضباب وخيبة " ممتدة مسترسلة كأنما حطها السيل من عل".
ما هكذا كان الظن ؟ بقدر ما توطد العزم هيمن اليأس ، وعمت الظلمة كل الأركان.ويمتد الإدراك من ذا المكان إلى لحظات كانت ودوما لاتزال هي السلوى.
فوق الحصير هدهدتني حكاياتك، وفي الذهن ارتسمت صور اختلطت معالمها في ذاكرتي القلب خافق ،
وفضاء خيالي...كم كان فسيحا...وأنت مركزه، مثل نخلة عظيمة تمتد إلى عنان السماء، وزادها امتدادا وصلابة ما أردت لها أن تكون ، ويوما ما خيل لي أن النخلة وحدها محور لحركة الأشياء والعالم ،
وما أن واراها التراب حتى سكن كل شيء وتحول العالم الى مساحة من الخراب ، وعدد من الجثت كثير أكثر من أصابع يدي الصغيرتين عشرات المرات.
ويسألني دلك الرجل :هل تدري كيف مات أبوك يا بني ؟ لم أكن افهم مغزى السؤال ، فأنت حي في الذاكرة، والنخلة تزداد امتدادا في عنان السماء ويضيف : أبوك رجل يابني ، كن مثله ، ولو أن زماننا يتنكر للرجال
لحظات الانفصال كما الاتصال ، سيان أن تكون هذه أو تلك . لا أجرؤ على الإعتراف بأن تداخل المتناقضات
في رؤية الأشياء ضرب من الإستسلام ، ومع ذلك يقبل الناس مثل هذه المفارقات.قد يكون هذا الغوص الميتافيزيقي فيما وراء الواقع من أسباب المحنة والشقاء فهل صحيح أن ما يلزمنا هو أن نكون واقعيين؟
لعله مصدر آخر للمحنة والفناء
ويتكرر السؤال:
-إلى أين سأمضي؟
منذ ذلك الآن إلى الآن كنت في كل مكان، ومن أعلى النخلة راقبت العالم ،وتقلبات الزمن والأشياء.
بعدك أبتي ضاعت الهوية ، وفي فرنسا فقدت الهوية ،وكذلك بعد الطرد والعودة...ولازلت أسال نفسي :
-إلى أين سأمضي؟
عفوا يا أبي،أنا بحاجة إلى الظل،وقليل من الراحة والتأمل.فلأنزل لأرى الأشياء عن قرب على الأقل.
ذ.حسن لشهب