موقع الذات في إستراتيجية البناء الحضاري لدى محمد إقبال / د.جيلالي بوبكر
يرى "محمد إقبال" أن النفس حقيقة بمعنى معين، ووحدة من وحدات الوجود، تفتقر إلى اللاّتناهي وإلى الكمال، تتميز بالسعي المتواصل إلى التوازن والتفرد وإلى أن تُصبح أكبر قوة وأكثر تأثيرا فيما حولها، كما تتميز بالعجز عن المحافظة على تأثيرها وحيوتها ونشاطها من دون تعب وعياء ، كما تتأثر بعوامل تبعث فيها الخمول والكسل، فتُبطل فيها قوة الإبداع وقوة التصرف والتدبر، كما تتميز بالقرب والإستقلال والذاتية ، »فالحياة كلّها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، حيثما تجلت الحياة تجلت في شخص، أو فرد أو شيء... والخالق كذلك فرد ولكنه أوحد لا مثيل له«.1 ولذة الحياة » مرتبطة باستقلال "أنا" وبإثباتها وأحكامها، وتوسيعها وهذه الحقيقة تُمهد إلى فهم حقيقة الحياة بعد الموت«.2

تتكشّف
الذات كوحدة من وحدات الوجود في الحالات العقلية التي تركب العقل، في وحدة فريدة، عناصره مترابطة ليست كوحدة الشيء المادي، ويمكن للنفس أن تفكر في أكثر من مكان، فلا توجد ضرورة ذاتية بين فكرة الإنسان عن المكان ومكانية المكان، أما الأجسام فليس لها سوى مكان واحد، وزمان النفس يختلف تماماً عن زمن الأشياء المادية. فمدة الجسم المادي تظهر في المكان كحقيقة واقعية أما مدة الحالة العقلية متحركة في أعماق النفس تتصل بالماضي والحاضر، فالمدة الزمنية الحقيقية من اختصاص النفس وحدها.

يعتمد "محمد إقبال" على تأويل
التجارب الشعورية كسبيل للوصول إلى النفس على أساس أن »الشعور أمر مفرد مُسلّم به في كل حياة عقلية وليس أجزاء من الشعور يتبادل كل منها الإتصال بالآخر« 3. والتجارب الشعورية الباطنية هي تجليات النفس في حالة نشاطها، والإنسان يقدّر النفس »في مزاولتها الأعمال، والإدراك والحكم والإرادة، ووجود النفس نوع من التوتر ناشئ عن غزو النفس لبيئتها وغزو بيئتها لها، والنفس لا تقف خارج هذا الميدان الذي تتناوب فيه الغزوات بل هي حاضرة فيه بوصفها قوة مدبرة، وهي تتكون وتتكيف بتجاربها الخاصة، والقرآن صريح في إظهار وظيفة النفس والروح في التدبير«.4 يقول تعالى في ذلك: ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾.5

إنّ القرآن الكريم حسب "محمد
إقبال" يشير إلى أن الروح ينبغي أن نعتبرها دوما أمرا فردا متميزا وفريدا في نوعه، »مع كل ما في وحدة الروح من تفاوت في مدى والإتزان والتأثير«.6 وشخصية الإنسان الحقيقة ليست أشياء، بل سلسلة من الأفعال، يرتبط كل فعل منها بالآخر، وتربط هذه الأفعال معا وحدةُ هدفٍ مدبر. يقول "محمد إقبال" في ذلك: »وحقيقتي بتمامها في منزع تدبيري، فأنت لا تستطيع أن تدركني بوصفي شيئا في مكان أو مجموعة من تجارب في نظام زماني، بل يجب أن تفسرني، وأن تفهمني وأن تقدّرني في أحكامي وفي منازعي الإرادية وفي أهدافي وآمالي«.7 تنشأ النفس –حسب إقبال- في النظام الزماني المكاني حسب تعاليم القرآن الواضحة المعنى. إذ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما، ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين﴾.8

إنّ الخلق الآخر للإنسان
يتكامل على أساس الجسم المادي، وهو مجموع من وحدات دنيا روحية بواسطتها تؤثر دوما في روح أعمق فتمكنني من بناء وحدة من التجربة منسقة«.9 ولا يميل إقبال إلى الإقتداء بأن المادة لها وجود قائم بذاته، منفصل عن الذات تماما، كما لا يرى في النفس مجرد آلة للجسم، ولا يقول بالموازاة بين فعل النفس وفعل البدن ومع ذلك فإن حضور العقل وحضور البدن في الفعل يصبحان أمرا واحدا، »ويستحيل أن نقيم حدّا فاصلا بين نصيب الجسد ونصيب العقل في هذا الفعل. بل ينبغي أن يُرد عملهما بوجه ما إلى نظام واحد بعينه وهما في نظر القرآن ينتسبان فعلا إلى نظام واحد«.10

فالذات الإنسانية عند "محمد إقبال" تتميز بالوحدة
والفردية، ويقول في ذلك: »أرى أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي إثبات ذاته لا نفيها، وعلى قدر تخفيف انفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخلقوا بأخلاق الله. فكلما شابه الإنسان هذه الذات الوحيدة، كان هو كذلك فردا بغير مثيل... إنّا نسأله ما الحياة؟ وواضح أن الحياة أمر فردي وأعلى أشكاله "التي ظهرت حتى اليوم". "أنا" وبها يصير الفرد مركز الحياة، مستقلا قائما بنفسه. فالإنسان من الجانبين الجثماني والروحي، مركز حياة قائم بنفسه، ولكنه لما يبلغ مرتبة الفرد الكامل هو الأقرب إلى الله، ولكن ليس القصد من هذا القرب أن يفني وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الأشراق بل هو عكس هذا، يمثل الخالق نفسه«.11

فالرياضة الصوفية لا تأخذ من
الإنسان فرديته واستقلاله، فهي تجعل الإنسان يتخلق بأخلاق الله، ولقد عبّر ذلك –حسب محمد إقبال- الحلاج بعبارات مثل »أنا الحق«، والبسطامي مثل "سبحاني" وعلي بن أبي طالب مثل "أنا القرآن الناطق"، »وفي التصوف الإسلامي الرفيع ليس معنى إرادة الإنسان هي عين إرادة الله. وأن النفس الإنسانية تمحو شخصيتها هي بنوع من الاستغراق في الذات غير المتناهية، بل بالأحرى أن الذات غير المتناهية تدخل بين أحضان حبها المتناهي«.12

إنّ القول بالكثرة
بالنسبة للذات الإنسانية وبفنائها في الذات اللامتناهية أمر ينفي عنها كل فرديتها وذاتيتها، كما يجعلها تتنكر لطبيعتها الواقعية، فهي ترتبط بالواقع وبالبدن. وتعيش الحياة في الوجود، بل هي مركز وأساس الوجود. فالمسلم واقعي بحكم دينه وليس هو من الرهبان المسيحين، ولا هو من أصحاب فكرة الفناء المستمدة من فلسفة الإشراق، لا ينبغي أن يقبل فكرة أن العالم لما فيه من شر يجب الابتعاد عنه، بل عليه أن يعكس الفكرة ويعتبر العالم خيرا يجب الاتصال به والتأثير فيه عن طريق التجربة الصوفية والتجربة الواقعية. هذا التغيير في فهم العالم ضروري لبلوغ التوازن في العلاقات بين وحدات الوجود، ذلك التوزن الذي يقتضي الحركة، حركة المسلم في الواقع ومشاركة الغير في الحركة لا اتباعا وتقليدا له، بل بالروح المبدعة وبوحي من الروح الإسلامية.

إذا كانت الذات الإنسانية
تتميز بالوحدة والفردية والاستقلالية وهي ميزات تصدر منها الحركة وينبعث التجديد والإبداع باستمرار فهي تتميز كذلك بالخلود. » يؤكد القرآن للنفس الإنسانية بأسلوبه البسيط، حريتها وخلودها المفعم بالقوة، كما يؤكد شخصية الإنسان وفرديته وله - في نظري- رأي معين محدد في مصير الإنسان بوصفه وحدة من وحدات الوجود، وهذا الرأي في شخصية الإنسان، وفرديته وهو رأي يستحيل معه أن تزر وازرة وزر أخرى بل يقتضي أن كل امرئ بما كسب رهين. هو الذي أدى بالقرآن إلى رفض فكرة الفداء«.13

لقد وضّح القرآن أن
الإنسان اصطفاه الله من بين المخلوقات ورغم الأخطاء التي ارتكبها، ليكون خليفة له في أرضه فهو يقول: ﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما أتاكم﴾.14 وأنّ الإنسان مسؤول على شخصية حرة تقع تبعتها على عاتقه.﴿إنّ عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلـوما جهـولا﴾.15إنّ فكرة خلود الروح عند "محمد إقبال" تقوم أساسا على حقائق واضحة في القرآن لا يختلف أحد في أمرها. وهي أن الروح لها بداية في الزمان وليس لها وجود سابق على ظهورها في سلم الترتيب المكاني الزماني، وأن الرجوع إلى الأرض بعد الموت غير ممكن، وأن نهاية الدنيا أو فناء الإنسان ليس بلاء »فالإنسان - أو الذات المتناهية- بشخصيته المفردة التي لا يمكن أن يستعاض عنها بغيرها سيقت بين يدي الذات غير المتناهية ليرى عواقب ما أسلف من عمل وليحكم بنفسه على إمكانيات مصيره«.16
وفي خلود الذات الإنسانية
المتناهية الفردية المستقلة يؤكد "محمد إقبال" أن خلود الذات أمل، من أراد أن يظفر به فليجد ويدأب لبلوغه، والظفر به موقوف على أن نسلك طريقا للفكر والعمل في هذه الحياة، يعيننا على حفظ التوازن، ولا يستطيع إبلاغنا هذا الأمل دين "بوذا" ولا التصوف العجمي ولا ما إلى هذين من نظم الأخلاق الأخرى، ولقد أضرت بنا هذه الطرق فأضرتنا وأماتتنا. إن هذه المذاهب هي الليالي الحالكات في أيام حياتنا.

»وإن قصدنا بأفكارنا وأعمالنا
إلى حفظ حالة التوازن في ذواتنا، فأغلب الظن أن صدمة الموت لا تستطيع أن تؤثر فيها... تعرف بعد الموت حال من "الاسترخاء" يسميها القرآن "البرزخ" وتدوم هذه الحال حتى الحشر. ولا تبقى بعد الاسترخاء إلا النفوس التي أحكمت ذواتها أيام الحياة«.17

لا يتعارض خلود النفس مع
البعث والحشر، كما لا يتعارض مع تناهي الذات، والسعادة في أعلى مراتبها لا تتحقق بفعل التحرر التام من التناهي، فالقوة تناهي الذات الإنسانية وفرديتها، «فأيّا كان المصير النهائي للإنسان لا يعني فقدان فرديته. والقرآن لا يعد التحرر التام من المتناهي أعلى مراتب السعادة بل "جزاؤه الأوفى" هو في تدرجه في السيطرة على نفسه، وفي تفرده وقوة نشاطه بوصفه روحا. حتى إن منظر "الفناء الكلي" الذي يسبق يوم الحساب مباشرة لا يمكن أن يؤثر في كمال اطمئنان الروح التي اكتملت نمواً. ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله﴾. ومن يكون أولئك الذين ينطبق عليهم هذا الاستثناء إلا الذين بلغت أرواحهم منتهى القوة، وتصل الروح إلى أسمى مرتبة في هذا النمو عندما تكون قادرة على تملك النفس تملكا تاما حتى في مقام الاتصال بالذات المحيطة بكل شيئ، فتكون الروح كما جاء في القرآن في وصفه لرؤية النبي للذات الأولى ﴿ما زاغ البصر وما طغى﴾ وهذا هو المثل الأعلى للإنسانية الكاملة في الإسلام«.18

إنّ الإنسان بذاته
ينتمي إلى معنى الكون وهو خالد، وذلك من حيث هو نفس تتزكى بصورة مستقرة وتزكية النفس لا تكون إلا بالعمل. »فالحياة تهيئ مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب، وليست هناك أعمال تورث اللّذة وأعمال تورث الألم، بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء، فالعمل هو الذي يعد النفس للفناء أو يكيفها لحياة مستقلة، ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء هو احترامي للنفس فيَّ وفي غيري من الناس«.19

إنّ خلو الذات الإنسانية
ليس حقا بل هو غاية وهدف، السبيل إليه العمل وحده، فهو استمرار للحياة، والموت ابتلاء فقط وفي هذا يقول إقبال: »وعلى هذا فالخلود لا نناله بصفته حقا لنا، وإنما نبلغه بما نبذل من جهد شخصي، والإنسان مرشح له لا غير، وأكبر ما وقعت فيه المادية من خطأ يبعث على الأسف هو القول بأن الشعور المتناهي يستنفد موضوعه، والفلسفة والعلم ليسا إلا طريقة واحدة من طرق البحث في هذا الموضوع ولكن هناك طرائق أخرى متاحة لنا، وإذا كان العمل الحاضر قد أمدّ الروح من القوة بما يكفل لها مواجهة الصدمة التي يحدثها فناء البدن، فإن الموت يكون مجازا لا غير إلى البرزخ الذي جاء وصفه في القرآن، وتُصرح كتب الصوفيه بأن البرزخ حالة من الشعور تتميز بتغير في موقف النفس إزاء الزمان والمكان، وهو أمر غير مستبعد».20

إنّ الموت عند إقبال والانتقال إلى البرزخ دليل على خلود
الذات الإنسانية، وهي حالة ليست سلبية بل حالة بها تتصل الذات بحقائق جديدة، وتتهيأ للتكيف مع هذه الحقائق، وهي حالة تحرر روحاني أو حالة الديموقراطية الروحانية، وبصفة خاصة لدى النفس الكاملة »التي تكون بالطبع قد اكتسبت أنماطا ثابتة من العمليات على أساس من نظام مكان زماني معين. وقد يكون معنى البرزخ انحلال النفوس التي جانبها التوفيق على أنه لا مفر للنفس من أن تكافح كفاحا موصولا حتى توفق إلى التماسك وإلى الفوز بالبعث. فالبعث إذن ليس حادثا يأتينا من خارج بل هو كمال لحركة الحياة داخل النفس وسواء أكان البعث للفرد أم للكون فإنه لا يعدو أن يكون نوعا (من جرد البضائع) لما أسلفت للنفس من عمل وما بقي أمامها من إمكانيات«.21

يُكسب البعث الإنسان حدة
في البصر فيرى به مصيره الذي كسبه بذاته معلّقا في عنقه، والجنّة هي سعادة الفوز على قوى الانحلال والظلال، أما النار فهي إخفاق الإنسان بوصفه إنسان له ذات تتميز في حقيقتها بالوحدة والخلود، وقادرة على أن تتحدى القدر وتحوله إلى إمكان ويتضح رأي "محمد إقبال" في طبيعة النفس وصلتها بالحياة الدنيا وبالعالم الآخر من قوله: »وليس في الإسلام لعنة أبدية. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفا للنار يفسره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمان )لابثين فيها أحقابا) والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعا تاما فالخُلق ينزع إلى الاستدامة وتكييفه من جديد يقتضي زمانا وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حيّة من رضوان الله وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة ومتصلة والإنسان يسير دائما قدما فيتلقّي على الدوام نورا جديدا من الحق غير المتناهي الذي هو )كل يوم هو في شأن) ومن يتلقى نور الهداية الربانية ليس متلقيا سلبيا فحسب لأن كل فعل لنفس حرّة يخلق موقفا جديدا وبذلك يتيح فرصاً جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد«.22 فوحدة الذات وخلودها يدلان على الاتصال في حياة الإنسان ويؤكدان عدم وجود انفصال وفجوة بين الدنيا والآخرة. فحياة الإنسان تسير في خط لا يقطعه ولا يوقفه الزمان، وحركة الذات الإنسانية لا ينهيها الزمان ومجال هذه الحركة يمثله العمل المتجدد باستمرار .

إنّ فكرة
التجديد لدى "محمد إقبال" في إطار الذات الإنسانية ترتبط أساسا بمجموعة من المعاني والمدلولات قررها القرآن، وفرضتها الطبيعة البشرية، واقتضتها مكانة الإنسان في الوجود، والظروف المحيطة به. فالإنسان من حيث هو فرد له نفس تتمتع بالقدرة على الحركة وعلى العمل، وعلى التأثير، ويصيبها من الفشل والنجاح ما يصيبها من الكد والجد والنجاح فهي أساس الوجود لما لها من قوة التدبير والتصرف والتسخير، ولأن الهدف الديني والأخلاقي عند الإنسان هو إثبات الذات في هذا الوجود لا نفيها، ويتخذ الإنسان في ذلك مثله الأعلى وهي الذات العليا "اللامتناهية" والذات فريدة في نوعها تجمع بين الوحدة والكثرة والثبات والتغير كما ترتبط بالمادة وهي ذات طابع روحي، فهي مركز الإنسان الذي هو مركز العالم، والإنسان مختار من بين المخلوقات في العالم ليكون خليفة الله في أرضه وهو منصب لا يتولاه إلا هو.
يؤكد "محمد إقبال" في أكثر من نص أنّ الإنسان ذات تتميز بالوحدة، وفرد لا جماعة تتكونمنه الجماعة ولا تخلقه وهو أصلها، وليست هي أصلا له. فهو ذات مستقلة حرة لا تفنى فيغيرها والحياة أمر فردي فوجود الذات الحرة الفردية المستقلة الخالدة مفعم بالقوة،هذه القوة التي تجعل الإنسان مركز الحياة قائما بنفسه بغير مثيل في الوجود، يسعىإلى بلوغ الكمال والكمال مرتبه أقرب إلى الله .

إنّ الذات المتناهية وهيذات الإنسان ترتبط وتتصل بالذات اللاّمتناهية وهي ذات الله الكاملة من حيث حقيقةالوجود، أو وحدة الوجود وهذه الحقيقة لا يخرج شيء عنها فهي لا تنفصل عن العالمالطبيعي أو الواقعي لا على أساس الحلول أو الفناء، بل على أساس التجلّي فهي ليستمنعزلة عن العالم وليس العالم غيرا لها .
لقد مجّد "محمد إقبال" "الذات الإنسانية" وهو تمجيد مستمد
من تمجيد "الذات الإلهية". والإنسان مطالب بأن يتخلّق بأخلاق الله، وذلك لا يحصلإلا بالتربية، ومبادئ هذه التربية هي طاعة الله سبحانه وتعالى والتحكم في النفسوضبطها بتوحيد الله والتخلص من الشهوات والخوف والقيام بالاستخلاف على الأرض وهيأعلى مراتب السمو الإنساني، في هذه المرتبة تُسخر قوى الكون لبلوغ هذا السمو وإذاأصابته حالة الاسترخاء فيعود إلى عالمه الذاتي الداخلي ليستمد منه القوةوالاستئناف. والدين هو السبيل الوحيد إلى معرفة الذات واكتشاف عالمها، والحياةالدينية ثلاثة أطوار، طور الإيمان وتصديق دون تحكيم العقل وطور العقل وفيه تُبحثالحياة الدينية بحثا ميتافيزيقيا مثل البحث في أصل الوجود والذات الإلهية، وطورالاستكشاف ويكون لا بالتمرد على الدين بل بالكشف عن أصوله البعيدة في أعماق الشعورالإنساني. إن عملية الإصلاح والتجديد في فلسفة الذات عند "محمد إقبال" لها أسسوشروط، ولها مجالها ومراحلها، فالذات الإنسانية المتناهية ترتبط بالذات الكليةاللامتناهية وتعرفها، والتجديد لا يعني الوقوف عند العلم بالله وبوجوده بل بالاتصالبه عن طريق ضمان الدوافع الداخلية، وانتفاضة قلب المؤمن واسترجاع الحياة والانتصارعلى الخمول والكسل والجمود. والشخصية الحقيقية في الإنسان ليست تلك الأشياء بل هيأفعال، والشخصية لا تُقدّر في تجاربها بل في أحكامها ومنازعها الإرادية وأهدافها. والذات مطالبة بالتحرر وهو لا يعني تجاوز التناهي ولا يعني الفناء في الذات الكلية،بل هو ضبط النفس والسيطرة عليها، وضمان فرديتها واستقلالها لتكون قوة مبدعة وروحمتصاعدة تسمو في حركتها من حالة إلى أخرى كما صورها القرآن. والتقدم الروحي يشترطضبط العلاقات بين الإنسان وبين الحقيقة التي يواجها وهذه العلاقات تنتجها المعرفةوهي الإدراك الحسي الذي يكمله الإدراك العقلي. والفكر في حركته الإدراكية يتخطىحدود تناهيه، وحركة الفكر لا تُصبح ممكنة إلا بوجود اللامتناهي. والإنسانيتعامل مع الطبيعة بآليات الحس والعقل، فله قوة تجعله ينخرط في تنظيم العالموتغييره وتجديد ظواهره، والموت تجديد للحياة وفتح لعالم جديد وليس نهايةالحياة.
إنّ كل من الفردية والدوام في
الذات الإنسانية تمنح الإنسان القدرة على التعبير عن نفسه في طلب الحقيقة. فتنفرالذات في داخلنا من كل أنواع الضعف. فالمحتوى الداخلي للذات الإنسانية هو أساس كلحركة وكل فعل، فإن لم يصل التغيير إلى قلب الإنسان ولم تُبن ذاته وفق المنهج الجديدلا يصل إلى مرتبة النيابة الإلهية أو الكمال. ﴿إنّ لا يغيّر الله ما بقوم حتىيغيّروا ما بأنفسهم﴾.23 غير أن بناء الإنسان لمحتواه الباطني ينبغي أن يكون ملازماللبناء الخارجي أي للكيان الاجتماعي، وانفصال الواحد منهما عن الآخر يعرض المجتمعإلى توترات وهزّات واضطرابات. فالمجتمع القويّ يتأسس على تغيير داخلي قوامه الإنسانولا فائدة من هذا التغيير إذا لم يشمل الهيكل الخارجي للوجودالإنساني.
بما أن الذات الإنسانية ذات
محتوى باطني يقتضي البناء والعناية به واستغلاله ليمتد البناء إلى الهيكل الخارجيللوجود الإنساني، فهي مرتبطة بذات كلية لا نهائية تستمد منها قوتها وتمكنها فيالأرض التي تمثل الطبيعة التي يعيش فيها الإنسان، فعليها أن تنفر من الكسل والجمودوترفض كل أنواع الضعف والتخلف والانحطاط لتوسع في داخلها دائما العشق الذي به يصيرالإنسان قويا. يقول "محمد إقبال": »لا ريب بأنّ الذات تستحكم بالعشق، ومفهوم العشقهنا واسع جدا، ومعناه إرادة الجذب والتسخر، وأعلى أشكاله أن يخلق مقاصده ويجدّ فينيلها وخاصة العشق إفراد العاشق والمعشوق، أعني إظهار الانفراد والاستقلال فيهما،وإذا جدّ الطالب في طلب الأوحد الأسمى ظهر فيه التوحد. ويتحقق ضمن التوحد المطلوب،لأنه إن لم يكن واحداً مستقلاً بنفسه لم يسكن إليه، إنما يمكن عشق شخص أو موجودمعين، ولا يمكن لشخص عشق كائن غير مشخص وكما تستحكم الذات بالعشق تضعف بالسؤال، وكلما يُنال بغير جهد يعد سؤالا، فالذي يرث مال غيره سائل والذي يتبع أفكار غيره أويدّعيها لنفسه سائل«.24
لا تبلغ الذات
العشق إن هي لم تطع الله ولم تُضبط بتوحيد الله، فتفقد القدرة على استخلاف الله فيالأرض ولا تبلغ السمو في أعلى مراتبه، وصورة السمو الإنساني هي سيطرته على العالمالمادي وتسخير قواه لخدمة الإنسان بعد البناء الروحي للمحتوى الداخلي وللهيكلالخارجي للوجود الإنساني. يقول "محمد إقبال": »على المسلمين أن يفهموا أن الإنسانخليفة الله كما قال القرآن المجيد، وعليه أن يفتح المواهب الفطرية جميعها فيالشخصية الإنسانية الكاملة، وأن يصير الإنسان متمما لخليفة الله، عاملا في إصلاحالدنيا، وكلما ازداد معرفةً ونوراً وقوةً قرب من الله "جل جلاله"، الذي هو الذاتالمطلقة الكاملة والشخصية الشاملة«.25
معرفة الإنسان للعالم المادي وتسخير قواه لخدمة الإنسان لا
يحصل في غياب بناء المحتوى الروحي عن طريق التغير الذي يجري في داخل الذات أولا ثميمتد إلى خارج الذات، والتسخير صورة من صور التغيير والتجديد، فالإنسان يتحرروينعتق بالتقرب من الله، والحياة صراع لبلوغ الحرية والكمال، فالإنسان مطالببمواجهة المادة واكتشاف العالم وقواه، فالعالم الذي يعيش فيه الإنسان شرط تحقيقالحرية والكمال والتقرب من الله يقول "محمد إقبال": »والواقع هو أن النفس بتأويلهاللطبيعة تفهم بيئتها وتسيطر عليها، فتحصل بهذا على حريتها، وتزيدها قوة ونماء، ومنثم فإن الهداية والسيطرة المدبرة في نشاط النفس يبين في وضوح أن النفس على شخصيةحرّة«.26 ويقول كذلك: »والإنسان إذا استهوته القوى التي تحيط به فإنه يقدر علىتكييفها وتوجيهها، حيث شاء أما إذا غلبته على أمره فإنه قادر على أن ينشئ في أعماقنفسه عالما أكبر يجد فيه منابع من السعادة والإلهام لا حد لهما ولا نهاية ومع أننصيب الإنسان في الوجود شاق وحياته وهن كورقة ورد، فليس للروح الإنسانية نظير بينجميع الحقائق في قوتها وفي إلهامها وفي جمالها، ولهذا فإن الإنسان في صميم كيانه هوكما صوّره القرآن قوة مبدعة وروح متصاعدة تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلىحالة أخرى«.27
ينتهي "محمد إقبال" إلى أنّ
الإنسان قُدّر عليه »أن يشارك في أعمق رغباته العالم الذي يحيط به وأن يكيّف مصيرنفسه ومصير العالم، تارة بتهيئة نفسه لقوى الكون، وتارة أخرى ببذل ما في وسعهلتسخير هذه القوى لأغراضه ومراميه، وفي هذا المنهج من التغيير النفسي لا يكون اللهفي عون المرء على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه«.28﴿إن الله لا يغيّر ما بقومحتى يغيّروا ما في أنفسهم﴾.29
ا لنهوض
بالعمل شرط التغيير التقدمي، »فإذا لم ينهض الإنسان إلى العمل، ولم يبعث ما فيأعماق كيانه من غنى وكفّ عن الشعور بباعث من نفسه إلى حياة أرقى أصبحت روحه جامدةجمود الحجر، وهوى إلى حضيض المادة الميتة«.30
فالعمل والبناء الروحي والبناء المادي شروط تجعل المسلم
إنسانا كاملا له وجود إنساني ووجود إيماني. والعشق يشغل الذات ويكشف عما لديها منقوى وقوة، ويعينها على تجاوز الصعوبات والوصول إلى الأهداف. ويُعد الإنسان أضعفمخلوق يولد ويعيش من الناحية العضوية لكنه مُكرّم بسيادة الكائنات، لأنه مزودبوسائل العلم وأدوات المعرفة من حس ووجدان وعقل، كل هذا يؤكد أنه قوة روحية ونفحةسماوية مُكرّمة بالقدرة على الإعمار التاريخي والبناء الحضاري، وعلى الدورالإستخلافي في أرض الله. وإذا كانت الحضارة من صنعه فهي عند "محمد إقبال" تمثل كافةتجلّيات تطور الذات المتواصل والمستمر في التاريخ، أي في الزمان والمكان وتتعلق هذهالتجلّيات بالحياة عامة، وبالفكر والحرية والخلود والفردية، هذه التجلّيات تتفاعلفيما بينهما بتأثير وتأثر وفي تقدم مستمر.
فالحياة عند "محمد إقبال" متواصلة لا تتوقف، وخط السير
فيها لا يوقفه ولا يُنهيه الزمان، فهي دائمة متجددة، وهي عمل متواصل وكفاح دائم،ليس في حركتها تكرار أو دوران، فخط السير فيها مستقيم دائم، تلك هي صورة المجالالإنساني في الوجود. وفردية الذات الإنسانية لا تنقضي، ووجودها خالد وغاية حركتهافي السير وفي العمل قربها من "اللامتناهي" و"اللامتناهي" دائم في وجوده، وبلوغالكمال الذي هو أسمى مراتب الوجود الإنساني.
يصور محمد "محمد إقبال" الذات الإنسانية ووجود الإنسان
وحياته بهذا التصوير لكي يدفع الإنسان إلى العمل ما دامت حياته دائمة حتى بعدالموت. ويدفع عنه اليأس ما دامت فرص النضال والكفاح والنجاح متجددة فيه باستمرار فيذاته وانطلاقا منها وفي العالم بعد ذلك.



الهوامش:
1– عبد الوهاب عزام: محمد إقبال سيرته وفلسفةوشعره مطبوعات باكستان 1945.ص56.
2-
المرجع السابق: ص254
.
3 –
محمد إقبال
: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص117.
4–
المرجع السابق: ص117-118
.
5 –
قرآن كريم: سورة الإسراء، الآية 85
.
6 -
محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام،
ص118.
7–
المرجع السابق
: ص119.
8 –
قرآن كريم: سورة المؤمنون،
الآية 14-13-12.
9 –
محمد إقبال: تجديد
التفكير الديني في الإسلام، ص 119.
10–
المرجع السابق: ص 119
.
11 –
عبد الوهاب
عزام: محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره، ص 56.
12 –
محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص
126.
13–
المرجع السابق: ص
105.
14-
قرآن كريم: سورة الأنعام، الآية
165.
15 -
قرآن كريم: سورة الأحزاب،
الآية72.
16 –
محمد إقبال: تجديد التفكير
الديني في الإسلام، ص 135.
17 –
عبد
الوهاب عزام: محمد إقبال سيرته فلسفتهوشعره، ص58.
18 -
محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص
135.
19 –
المرجع السابق
: ص137.
20 -
محمد إقبال: تجديد التفكير
الديني في الإسلام، ص137.
21 –
المرجع
السابق: ص138.
22–
المرجع السابق: ص 141
.
23 –
قرآن كريم: سورة الرعد، الآية
11.
24 -
عطية سليمان أبو عاذرة: مشكلة
الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي الحديث عند كل من الإمام محمد عبده ومحمد إقبال،ص 236.
25 –
المرجع السابق
: ص124-125.
26–
محمد إقبال: تجديد التفكير
الديني في الإسلام، ص125-124.
27 –
المرجع
السابق: ص19.
28 -
المرجع السابق
: ص19.
29 -
قرآن كريم، سورة الرعد، الآية
11.
30 –
محمد إقبال: تجديد التفكير
الديني في الإسلام، ص 20