متحف الأرميتاج ذاكرة للثقافة والفن العالمي والحضارة الروسية
فاطمة اليازجين
يعتبر متحف الأرمتاج من أشهر متاحف العالم ، ويقع في عاصمة الشمال الروسي وعاصمة الثقافة: مدينة سانت بيطرسبرغ. وكما يتوجه الكثير من السياح من أرجاء المعمورة شتى إلى مصر رغبة في رؤية الأهرامات بالرغم من كثرة المعالم الأثرية التي تزخر بها أرض الكنانة في المناطق المحيطة بنهر النيل ، كذلك يتوجه العديد من السياح إلى روسا رغبة في زيارة الأرميتاج ، حيث يبلغ العدد السنوي لزواره حوالي ثلاثة ملايين زائر.
متحف الأرميتاج من أضخم المتاحف على مستوى العالم ، حيث يقع في خمسة مبان كبيرة ، متربعاً على ضفة نهر النيفا ، ويبلغ العدد الإجمالي لقاعات المتحف 350 قاعة ، كما تتطلب الجولة الكاملة للوقوف على معروضات المتحف مسافة 22 كم. ويضم هذا المتحف حوالي أربعة ملايين قطعة فنية. وبالرغم من عالمية متحف الأرميتاج ، إلا أن اشهر ما يميزه ذلك الجزء المختص بالحضارة الأوروبية الغربية ، والذي يضم أعمال أشهر الفنانين من مثل: ليوناردو دافينشي ، رفائيل ، تيتسيان ، ورامبرانت ، روبنس ، فان جوخ ، وبيكاسو وغيرهم الكثير.
المخزون الفني للمتحف تم جمعه بشكل رئيسي بجهود العائلة القيصرية الروسية. أول مجموعة من اللوحات الفنية تم شراؤها من قبل قدمه القيصر الروسي بطرس الأول. ولكن تاريخ إنشاء المتحف مقترن بعام 1764 عندما تم شراء مجموعة من اللوحات 224( لوحة) لمصلحة ملك بروسيا الألمانية فريدريخ الثاني ، إلا أن الملك فريدريخ الثاني كان أنفق خزينته على الحروب ، ولم يتمكن من شراء ما طلبه من التاجر ، ما دفع الإمبراطورة الروسية كاترينا الثانيه إلى استغلال هذا الموقف ، وشراء تلك اللوحات. هذا العدد الكبير من لوحات كبار الفنانين كان له الدور الرئيس في إرساء قواعد وأسس متحف الأرمتاج من الناحيه الفنية. علما أن الإمبراطورة كاترينا الثانيه كانت أميرة إحدى المقاطعات الألمانية الصغيرة ، وشاءت الأقدار أن تصبح إمبراطورة روسيا مدة ثلاثين عاماً. وأظهرت خلال فترة حكمها قدراً كبيراً من الحكمة وبعد النظر والحزم في الدفاع عن مصالح الإمبراطورية الروسيه ، ما قربها وجعلها محببة إلى رعاياها على امتداد فترة حكمها ، إلى درجة أنها كانت تدعى بـ(الأم). كانت الإمبراطورة كاترينا الثانية على اطلاع واسع بما يجري في العالم من تطورات ثقافية وعلمية ، وقامت بمراسلة علماء وفلاسفة عصر النهضة من أمثال: فولتير ، ديدرو وجرييم ، وأحيانا كانت تستخدم علاقاتها مع هذه الفئة من الناس للتوسع بتعزيز مجموعة لوحاتها الفنية. ومع نهاية حياتها في عام 1772 ، بلغ عدد اللوحات الفنية المملوكة للمتحف ما يناهز أربعة آلاف لوحة.
واصلت الأسرة المالكة في روسيا التوسع في تعزيز مجموعة الأرميتاج الفنية ، وذلك بالاستعانة بالدبلوماسيين أو ، في بعض الأحيان ، بإيفاد بعض الفنانين الروس لانتقاء اللوحات ذات القيمة الفنية المميزة. كما اقتنى أفراد الأسرة المالكة أنفسهم بعض اللوحات: فمثلاً ، سافر الإمبراطور الكسندر الأول ، بعد هزيمة نابليون ، إلى باريس لشراء مجموعة اللوحات الفنية الشهيرة آنذاك ، والتي كانت مملوكة لإمبراطورة فرنسا جوزفين باغرنييه: زوجة نابليون. ومن سخرية القدر ، صدف أن امتلك متحف الأرمتاج ليس مقتنيات الإمبراطورة الفرنسية من اللوحات الفنية فحسب ، بل مجموعة مجوهراتها ، وذلك بعد زواج حفيدها من احدى الأميرات الروسيات ، وقيامة باهداء تلك المجوهرات لهذه الاميرة.
في النصف الثاني من قرن التاسع عشر نمت واتسعت المجموعة الفنية للمتحف بفعل الهدايا والمشتريات لهذه اللوحات. أما بعد الثورة البلشفية ، فقد ازداد الرصيد الفني للمتحف جراء تأميم المجموعات والممتلكات الخاصة للطبقة الأرستقراطية. في القرن العشرين اتسع رصيد المتحف بفعل الاكتشافات الأثرية ، والتي من ضمنها مجوهرات وخزائن الأقوام الفارسية القديمة 800( - )300 ق. م. وجزء كبير من هذه المجوهرات لا يمكن مشاهدة تفاصيلها إلا بواسطة العدسات المكبرة.
بعد أقل من 250 عاما على إنشاء المتحف تطور من مجموعة لوحات يشاهدها البعض القليل من الأصدقاء والمقربين من الإمبراطورة إلى متحف ذي شهرة عالمية واسعة. الأرمتاج كلمة فرنسية تعني سكن الراهب. بعد أن قامت الإمبراطورة كاترينا الثانية بشراء المجموعة الأولى من لوحات الأرمتاج ، أوعزت ببناء مبنى خاص لعرض هذه المجموعة ، وأطلقت على هذا المبنى اسم (الأرميتاج) ، والذي كان ملاصقاً للقصر الإمبراطوري (متحف الأرميتاج حالياً) ، وكان الهدف من هذا المبنى هو أن تلجأ له الإمبراطورة في الأوقات التي كانت ترغب فيها أن تكون لوحدها (كالراهب) ومن هنا جاءت التسمية.
في بداية القرن التاسع عشر أصبح رواد المتحف من المختصين والمعجبين بالفن ، ومع ذلك بقي الحصول على تذاكر الدخول إلى المتحف رهناً بالقصر الإمبراطوري. مع منتصف القرن التاسع عشر تم بناء مبنى جديد لأغراض التوسع في معروضات المتحف ، وكذلك تم التخلي عن بعض الشروط الصارمة المتعلقة بلباس زوار المتحف.
في القرن العشرين أصبح المتحف متاحاً شرائح المجتمع كافة من طلاب وعمال وجنود.. الخ.
تاريخ المتحف مرتبط ارتباطاً قوياً بتارخ المجتمع الروسي ، ما انعكس على تاريخ ومسيرته (فترات النهوض والتفوق ، أو الأزمات المالية وفترات الحروب). مثلاً ، رحُّلت مقتنيات المتحف وأخفيت ثلاث مرات: المرة الأولى في عام 1812 في فترة الحرب مع نابليون. ولهذه المناسبة افتتحت فيه قاعة خاصة للوحات التي تصور القادة والجنود الروس الذين خاضوا هذه الحرب ، حيث بلغ عدد لوحات هذه القاعة 300 لوحة. والثانية حين غادرت الأعمال الفنية مقرها في عام 1917 بقرار الحكومة المؤقتة تم نقلهم إلى موسكو الى قصر الكرملين للمحافظة على هذه المقتنيات من ردة فعل الثوار. ولا يمكن تجاهل حكمة رئيس الحكومة المؤقتة كيرينسي لأنه أطلق ناراً كثيفة على القصر في تشرين الأول من عام ,1917 وفي المرة الثالثة غادرت الأعمال المتحف أيام الحرب العالمية الثانية 1940 - 1945 ، حيث اقتربت القوات الألمانية المعادية من مدينة ليننغراد (سانت بيطرسبرغ) ، وكانت القوات الألمانية قريبة إلى درجة أنها استخدمت المدفعية لقصف مواقع محددة في المدينة التي ما يزال الكثير من مبانيها شاهداً على ذلك.
مع انهيار الاتحاد السوفيياتي في بداية تسعينات القرن العشرين ، شوهد عدم الاستقرار الاجتماعي وزيادة في نسبة الجريمة وانهيار عام للأخلاق في المجتمع ، هذه الأجواء طالت كل شيء بما في ذلك المتحف نفسه. ففي عام 2006 انتهى التحقيق في قضية سرقة 221 قطعة فنية من المتحف كانت في أغلبها قطعاً فضية ثمينة. وأظهر التحقيق أن المتورطيْنً في هذه القضية موظفة في المتحف وزوجها. مؤخراً ، في عام 2010 ، تم استرجاع بعض هذه المسروقات.
تتغير وتيرة الحياة مع الزمن في القرن الحادي والعشرين ، فالكثير من نجوم الفن والموسيقى حلم بإحياء حفلاتهم في الميادين الشهيرة في روسيا مثل الميدان الأحمر في موسكو ، وميدان القصر في سانت بيطرسبرغ الملاصقة لمتحف الأرميتاج. وجدت أفكار هؤلاء المطربين تأييد البعض من محبيهم في روسيا. إدارة المعالم الأثرية والمتاحف في كلتا المدينتين ما زالتا تقاومان هذه الفكرة ، فيلا محاولة لإقناع الجميع بأن درجة الصوت والارتجاج ستساهم في إلحاق الضرر ببعض القطع الأثرية. إلا أنهم ما زالوا يشكلون الأقلية القليلة في مواجهة هذه التوجهات: ففي هذا الصيف أحيت المطربة الأمريكية مادوننا حفلاً غنائياً في ميدان القصر في سانت بيطرسبرغ ، حيث تجاوزت درجة الصوت حدود المسموح به لمثل هذه المناطق من المدينة. أما المعارضون لهذه الحفلات فيؤمنون بالنهاية بفوز مدير المتحف ميخائيل بياتروفسكي الذي أصبح مديراً للمتحف بعد موت والده بوريس بياتروفسي - المؤرخ والمستشرق المشهور في روسيا ، والذي تخصص بتاريخ المشرق ودراسة اللغة العربية وصاحب الكثير من المؤلفات العلمية والثقافية حول التاريخ العربي والإسلامي. جهود بوريس بياتروفسي أدت إلى افتتاح الجناح العربي في المتحف ، والآن يواصل الابن عمل أبيه ، والذي أثمر في هذا الزمن الصعب في اتاحة المجال أمام الفئات الفقيرة والمثقفة من المجتمع من زيارة المتحف ، وذلك بالإبقاء على أسعار تذاكر الدخول إلى المتحف ، وكذلك باستحداث يوم مجاني للدخول مرة واحدة في الشهر. كما تم بناء مبان إضافية في الأحياء الجديدة من المدينة لعرض ما بقي في مخازن المتحف وجعبته.
التاريخ : 09-04-2010
ملحق الدستور الثقافي