قضية الأمة المركزية لا قضية (الشرق الأوسط)
كتبها مصطفى إنشاصي ، في 22 أيار 2010 الساعة: 18:54 م

قضية الأمة المركزية لا قضية (الشرق الأوسط)
مصطفى إنشاصي
مع كل هزيمة أو نكبة تحل بالأمة، تدرك الأمة أهمية فلسطين وضرورة استعادتها إلى حضن الأمة، إن أرادت حقا استعادة وحدتها، ونجاح مشروعها الحضاري والنهضوي الذي تحاول به التحرر من هيمنة وسيطرة الغرب اليهودي ـ الصليبي عليها، وذلك لما تحتله فلسطين في وجدان الأمة وواقعها من مكانة عظيمة وأهمية كبرى. ففلسطين في مفاهيمنا ومعتقداتنا الإسلامية ووجدان الأمة الإسلامية هي أرض الإسراء والمعراج لنبي الأمة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأولى القبلتين وثاني الحرمين وليس ثالثهما كما هو دارج، هي أرض المنشر والمحشر وهي روضة من رياض الجنة، فيها أحد المساجد التي تشد إليها الرحال إما للزيارة أو الجهاد، في حال الاعتداء عليها، فلسطين الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين.. إلخ. فهي ليست مجرد قطعة من الأرض، ككل القطع ولكن لها من القداسة والارتباط بعقيدة المسلمين مالها، مما يحتم على الأمة جميعاً أن تتفاعل مع كل أحداثها وتستنفر قواها من أجل تحريرها من دنس {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ} المائدة 82.
كما أن فلسطين في أفكار ومفاهيم وأدبيات الفكر القومي العربي على اختلافه، هي: قلب الوطن العربي، وهي جزء أصيل منه، وإن اختيار العدو الصهيوني –الغربي لها لتكون وطنا للعصابات الصهيونية الهدف منه هو تحقيق الاختراق الجغرافي للأمة والوطن، لتكون رأس الحربة للغرب في قلب الأمة والوطن، وتحقق شطره إلى قسمين شرقي وغربي، وتحول دون تحقيق وحدته، وتبقى عامل لإثارة الفتن والحروب بين أقطار الوطن الواحد، وأبناء الشعب الواحد، العربي، وإن تحريرها واجب على كل العرب.
أما أهميتها الجغرافية والإستراتيجية، فلا أعتقد أن أحداً لم يعد يدركها بعد كل ما حل بالأمة من نكبات، بعد أن ضاعت فلسطين، وأخرجت من جسد الأمة والوطن. وهذا ما أشار إليه اليهودي الصهيوني (ناحوم جولدمان) رئيس الحركة الصهيونية 1947، عندما قال: "لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي والديني بالنسبة لهم، ولا لأن مياه البحر الميت تعطي بفعل التبخر ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن وأشباه المعادن، وليس أيضا لأن مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين، بل لأن فلسطين تشكل بالواقع نقطة الارتكاز الحقيقية لكل القوى العالم، ولأنها المركز الإستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم.[1]
هذه هي فلسطين، وهذه هي نقطة الارتكاز في التحالف الذي جرى قبل مائة عام بين المشروع اليهودي والمشروع الغربي لسلخ فلسطين عن جسد الأمة والوطن، وتجريدها من بُعدها العربي وعمقها الإسلامي، من خلال تسميتها (قضية الشرق الأوسط)، وذلك لتزييف حقيقة وطبيعة الصراع الجاري منذ عقود على أرض فلسطين. فقد غدى المصطلح الدارج في الخطابات الرسمية بين الدول، وفي وسائل الإعلام المحلي والعالمي عند ذكر قضية الأمة المركزية –فلسطين- هو (قضية الشرق الأوسط)!!. فهل هذا المصطلح يُعبر حقيقة عن مضمون وأبعاد الصراع الذي تمثل فلسطين قلبه وميدانه الرئيس، ومركزيته؟.
(الشرق الأوسط)وقضيته
لم يكتفِ الغرب اليهودي ـ الصليبي بسلخ فلسطين عن جسد الأمة والوطن وزرع اليهود فيها، ولكنه سعى أيضاً جهده إلى تقزيم القضية التي نشأت عن ذلك السلخ لفلسطين عن جسد الأمة والوطن وتجريدها من جميع أبعادها العالمية، من خلال شن معركة موازية لتضليل الأمة عن حقيقة قضيتها؛ تعرف بمعركة المصطلحات والمفاهيم، وقد كان من أشهر المصطلحات التي استخدمها الغرب في معركته تلك، مصطلح (الشرق الأوسط). فقد جاء في موسوعة السياسة تحت هذا المصطلح: أنه "مصطلح غربي (استعماري) كثر استخدامه إبان الحرب العالمية الثانية، وهو يشمل منطقة جغرافية تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق والخليج العربي ومصر وتركيا وإيران وتتسع لتشمل أفغانستان وقبرص وليبيا أحيانا.. كما أن للمصطلح دلالة على مركزية أوروبا في العالم وهو (شرق أوسط) لموقعها الجغرافي".[2]
كما يحاول أعداء الأمة والوطن الاستفادة من تعدد الأعراق التي تنتمي لها الشعوب التي يشملها مصطلح (الشرق الأوسط) جغرافياً، للفصل بين تلك الشعوب وقضية (الشرق الأوسط)، التي هي في الأصل قضيتهم المركزية. يقول أبا إيبان: "من الحيوي أن نذكر أن (الشرق الأوسط) والعالم العربي ليس شيئين متساويين أو متطابقين. و(الشرق الأوسط) يسكنه حوالي 60 مليون عربي إذا أخذنا اللغة كأساس و75 مليوناً من غير العرب. وهناك (شرق أوسط) غير عربي يمتد من تركيا وإيران عبر (إسرائيل) إلى أثيوبيا، وإذا وسعنا المنطقة لتشمل أفغانستان وباكستان، فإن ذلك سوف يزيد من وضوح صفة اللاعرب الغالبة على المنطقة .. إن (الشرق الأوسط) لم يكن في الماضي ولا في الحاضر ولا يمكن أن يكون في المستقبل ملكاً خالصاً للعرب"([3]).
يقول أحد المختصين اليهود بالشؤون العربية: "(الشرق الأوسط) ليس سوى موزاييك شعوب وثقافات وأنظمة تحكم شعوباً ومجموعات غير راضية. إذا استطاعت (إسرائيل) الاتصال بهذه المجموعات كافة، المعادية للعروبة والإسلامية، فإنها ستتمكن من تفتيت العالم الإسلامي قطعاً"([4]).
إذن مصطلح (الشرق الأوسط)مصطلح دخيل وغريب عن تاريخ الأمة والوطن، ولا يعبر عن حقيقة الترابط والنسيج العقائدي والعرقي والاجتماعي والسياسي للمنطقة التي يطلق عليها ذلك المصطلح، وأيا كانت حدود المنطقة التي فرض عليها الغرب مصطلح (الشرق الأوسط)؛ التي تتفاوت حدودها الجغرافية ضيقاً واتساعاً في المفاهيم والمناظير الغربية، بتفاوت مصالح الغرب في وطننا، التي تحكمها ظروف كل مرحلة من مراحل صراعه مع أمتنا للسيطرة والهيمنة على ثرواتنا، وتدمير مقومات قوتنا، ودفاعاتنا، التي نستمدها من عقيدتنا وديننا وتاريخنا. فإن مصطلح (الشرق الأوسط)يقصد به في المفاهيم الغربية وطننا الإسلامي، الذي يشكل فيه الجزء العربي المركز والثقل، ويبقى سكانه العرب هم مادة الإسلام وحملته الأوائل، وبهم يصلح حال الأمة أو يفسد. وبلادهم هي مخزون العالم الإستراتيجي، من الثروات المختلفة، وعلى رأسها البترول والغاز الطبيعي، وهي حلقة الوصل بين قارات العالم القديم، وذات الموقع الجغرافي والإستراتيجي المتقدم، الذي يسيطر على كل شرايين المواصلات العالمية البرية والجوية والبحرية في العالم، هذا الوطن الذي من أجل تفتيته إلى وحدات متعددة ومتنافرة، وفصل شقه الشرقي عن شقه الغربي، تم التحالف بين المشروع اليهودي الصهيوني والمشروع الغربي الصليبي بدايات القرن الماضي، والاتفاق بينهما على زرع كيان العدو الصهيوني في قلب الأمة والوطن، فلسطين.
أما مصطلح قضية (الشرق الأوسط)؛ فقد جاء تحت هذا المصطلح في موسوعة السياسة: أنه "ترجمة تعبير غربي يرتبط بتعبير آخر هو (أزمة الشرق الأوسط)يقصد من استخدامه تمويه حقيقة الصراع في المنطقة العربية من جهة، وإجمال عدة مسائل متشابكة في وسائل متشابكة في تعبير واحد من جهة أخرى، فاستخدام تعبير (الشرق الأوسط) يرمي إلى نفي الطابع العربي عن المنطقة، وكلمة قضية في هذا المجال تشير إلى:
أ‌) القضية الفلسطينية.
ب‌) الصراع العربي- الصهيوني.
ت‌) وجود (إسرائيل) والنتائج المترتبة على هذا الوجود والحروب التي سببتها.
ث‌) العامل الدولي.
ج‌) التسويات المطروحة.
وتستخدم هذا المصطلح وزارت الخارجية ووكالات الأنباء في الغرب.[5]
فلسطين القضية المركزية للأمة
بناءً على ما تقدم فإن مصطلح (الشرق الأوسط) المقصود به الوطن الإسلامي، وقضية أو (أزمة الشرق الأوسط) المقصود بها فلسطين، وإن استخدام هذه المصطلحات له أهداف وأبعاد خطيرة على حاضر ومستقبل الأمة والوطن، فمصطلح (الشرق الأوسط) يهدف إلى تجريد الوطن من هويته وانتمائه العربي والإسلامي. ومصطلح قضية 0الشرق الأوسط) يهدف إلى تجريد قضية الأمة المركزية من هويتها وبعدها العربي والإسلامي، في محاولة لعزل الجماهير الفلسطينية عن عمقها العربي والإسلامي.
فيا ترى هل كان هذا الجزء المعروف اليوم باسم فلسطين؛ الذي استأصلته المؤامرات اليهودية ـ الغربية بداية القرن الماضي من جسد الأمة، عندما أعادت تشكيل جغرافية وطننا بعد انتصارها في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية فيها، وذلك تمهيداً لإقامة كيان العدو الصهيوني عليه، تنفيذا لتوصيات المؤتمرات الغربية والتحالف مع اليهودية العالمية، آنذاك، هل كانت فلسطين يوماً ما جزءً مستقلاً أو منفصلاً جغرافياً أو تاريخياً أو ثقافياً أو حضارياً أو عرقياً عما حولها؟ أم أنها كانت جزءً من وحدة كلية تجمع دول المنطقة العربية كلها؟.
ذلك ما ستجيب عليه هذه الدراسة (هذه المقالة مقدمة لتلك الدراسة)، فما أحوجنا في هذا العصر الذي تفرق فيه الشعب العربي ذي الأصل العرقي الواحد إلى قبائل وشعوب، وتمزق وتشتت الوطن الواحد إلى أوطان وكيانات فسيفسائية، أُنشئت على أسس وتقسيمات ونعرات إقليمية؛ من صنع المستشرقين من علماء الآثار الغربيين من اليهود والنصارى، من الذين كانوا يضعون المخططات اليهودية ـ الصليبية لتمزيق الأمة والوطن كأحد أهم أهداف وغايات عمليات نقيباتهم ودراساتهم عن آثار القبائل العربية التي عمرت وسكنت الوطن العربي؛ وشادت فيه حضارات متتالية ومتعاقبة كان ولا زال لها كثير من الفضائل على الحضارة الإنسانية والغربية منها خاصة.
ما أحوجنا في هذا العصر إلى إعادة كتابة تاريخ وطننا بصفة عامة، وفلسطين خاصة من وجهة نظر عربية وإسلامية، لا من وجهة نظر يهودية وصليبية، ومن هذا المنطلق سنحاول كتابة تاريخ فلسطين؛ كوحدة متصلة بالهلال الخصيب؛ الذي هو جزء من الجزيرة العربية، لأن حدود فلسطين الحالية التي تسمى "فلسطين التاريخية"، لم تكن موجودة كما هي اليوم في أي مرحلة من مراحل التاريخ، لأنها كانت تتسع وتضيق في إطار علاقتها بالوطن الكبير، وأقاليمه المحيطة بها، ولكن الذي حدد تلك الحدود التي تسمى "التاريخية"؛ هي المؤتمرات والمعاهدات التي عقدت بين الدول الغربية الصليبية التي كانت تحتل وطننا واليهودية العالمية، التي اتفقت فيما بينها على إقامة وطن قومي لليهود في قلب الأمة والوطن، ليحافظ على أنظمة التجزئة التي ستنشئها الاتفاقيات الغربية الصليبية الأُخرى بين تلك الدول المحتلة لوطننا، قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، بالتعاون مع يهود العالم لتوافق زعم اليهود بالحق التاريخي والحدود الدينية لدولة اليهود في فلسطين، والأراضي الممتدة من الفرات إلى النيل.
وسوف نقسم دراستنا هذه إلى:
(أولاً): وحدة الجغرافيا والعرق والروح والثقافة: فلسطين جزء من الجزيرة العربية.
(ثانياً): القبائل العربية: تاريخ وحضارة وعطاء للإنسانية.
(ثالثاً): القبائل العربية التي سكنت فلسطين.
(رابعاً): قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام وبني إسرائيل في فلسطين.
(خامساً): تاريخ فلسطين مع الإمبراطوريات الكبرى قبل الإسلام.
(سادساً): القدس جغرافيا وتاريخ كجزء من فلسطين.
(سابعاً): خلاصة واستنتاجات.
(أولاً) وحدة الجغرافيا والعرق والروح والثقافة
يُجمع مؤرخي منطقة بلاد الشام والهلال الخصيب أن هذه المنطقة كانت إلى حد كبير وحدة واحدة لا تنفصل عن بعضها، خاصة وأن سكان المنطقة بكاملها بما فيها مصر وجنوب وادي النيل منذ فجر التاريخ يشكلون شعباً واحداً، من أصل واحد، جاء من الجزيرة العربية، موطن القبائل العربية التي غطت هذه الأراضي منذ ما قبل العصور التاريخية المعروفة، والتي امتزجت شعوبها مع سكان البلاد القدامى قليلي العدد وامتصتهم فيها، وأكسبتهم صفاتها العربية، وصبغت البلاد كلها بالصبغة العربية، ابتداء من نحو 3500 ق.م حيث خرجت القبائل العربية من جزيرتها العربية بأعداد هائلة، وانتشرت في العراق وبلاد الشام "سوريا، ولبنان، وفلسطين، وشرق الأردن"، ومن فلسطين سارت بعض القبائل إلى سيناء ومنها إلى مصر، وذهبت منها قبائل إلى شمال إفريقيا وإلى السودان والحبشة، واستوطنت هذه البلاد وامتزجت بسكانها([6]).
ولم تكن فلسطين في يوم من الأيام منفصلة عما حولها من البلدان، بل كان مصيرها مرتبطاً دوماً بأوضاع ما جاورها، لأنها لم تكن سوى عضو في وحدة عضوية أكثر اتساعاً ورحابة، وهي ما أطلق عليها المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي (جيمس هنري برستد) اسم الهلال الخصيب، لأنه "يكون شكلاً نصف دائري على وجه التقريب، ويرتكز حرفه الغربي جنوب البحر الأبيض المتوسط، ووسطه فوق شبه جزيرة العرب ويرتكز حرفة الآخر عند (الخليج الفارسي) وخلف ظهر هذا الهلال تقوم الجبال المرتفعة، وعلى ذلك تكون فلسطين عند نهاية الجزء الغربي منه وبلاد بابل في الجزء الشرقي بينما تكون بلاد آشور جزءاً كبيراً من وسطه. وهذا الهلال الخصيب ليس إلا امتداداً لصحراء العرب"([7]).
وإذا ما رجعنا إلى المؤرخين والجغرافيين العرب والمسلمين القدامى، وتحديدهم لحدود الجزيرة العربية، فإننا نجد حركة انتقال القبائل منذ فجر التاريخ كانت تتم في حدود الوطن الواحد "الجزيرة العربية"، التي حددوا حدودها "من عبادان حيث مصب دجلة على الخليج العربي، إلى عمان على مدخل الخليج مروراً بالبحرين ومن عمان إلى عدن على مدخل بحر القلزم (الأحمر) مروراً بسواحل المهرة وحضرموت ومن عدن على طول سواحل اليمن، عبر جدة والحاز ومدين إلى (آيلة) على طرف خليج العقبة، عبر تاران وثيران".
ويقرر المؤرخ العربي الإصطخري أن هذه المساحة من بلاد العرب تحيط بها مياه البحار (بحر فارس) تمثل ثلثي بلاد العرب، وأما الثلث الباقي فحدوده الغربية من (آيلة) إلى بالس قرب الرقة، ويعتبر هذا الحد من بلاد الشام ويمر على البحر (الميت البحيرة المنتنة أو بحيرة زغر) إلى الشراة والبلقان (من عمل فلسطين) إلى حوران وأذرعات والبثنية والغوطة ونواحي بعلبك (من عمل دمشق) إلى تدمر وسليمة (من عمل حرض) ومن هناك إلى المناصرة وبالس (من عمل قنسرين) عند الفرات"([8]).
فلسطين جزء من الجزيرة العربية
ولم تكن فلسطين عبر تاريخها الطويل تنفك عن بلاد الشام والهلال الخصيب، فهي تزدهر بازدهارهما وتبتئس بابتئاسهما، وتصان بمنعتهما وقوتهما، وقد اعتبرها المؤرخ الإغريقي المشهور (هيرودوت) الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد جزءاً من بلاد الشام. كما أن مؤرخي الفرنجة في عصر الحروب الصليبية، أجمعوا على أن فلسطين "ديار شامية([9])، أما المؤرخون العرب والمسلمون الأقدمون فقد سموا بلاد الشام "سوريا" وقسموها إلى قسمين الأول سوريا، والثاني فلسطين([10]). وسبق أن قلنا أنهم اعتبروا بلاد الشام جزء من الجزيرة العربية.
وقد جرى على فلسطين ما جرى على بقية أجزاء الوطن منذ أن غلبت على أقطار الوطن قبل الإسلام الإمبراطوريات غير العربية، وبدأت تخرج من احتلال إمبراطورية إلى احتلال إمبراطورية أخرى، إلى أن أشرقت عليها شمس الإسلام فأصبحت منذ ذلك الوقت جزءاً من الدولة الإسلامية على اختلاف مسمياتها. وأخرها الدولة العثمانية وقد كان العثمانيون يطلقون على فلسطين التسمية التي اعتاد أن يطلقها عليها المؤرخون والجغرافيون العرب والمسلمين، وهي "سوريا الجنوبية([11]). ولم يتم رسم شكل الخارطة الجغرافية المتعارف عليها حالياً لفلسطين إلا في الاتفاقيات السرية الغربية، وخاصة اتفاقية سايكس ـ بيكو التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا عام 1916م، وفي الخرائط التي قدمت إلى مؤتمر الصلح الذي عقد في فرنسا عام 1919 لاقتسام وطننا بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، وأخيراً في قرار الاحتلال (الانتداب) الصادر عن عصبة الأمم عام 1922 القاضي بسلخ فلسطين الحالية عن جسد الأمة ووضعها تحت الاحتلال البريطاني، وتهيئة أوضاع فلسطين السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. لإقامة الوطن القومي اليهودي على أرضها تنفيذاً لوعد بلفور الصادر عن وزارة الخارجية البريطانية عام 1917. الذي وعدت فيه ملكة بريطانيا بإقامة (وطن قومي) لليهود في فلسطين، على حساب الحقوق الوطنية لسكانها الأصليين، الذين تم طردهم وتشريدهم منها عام 1948م.
لذلك فإن الواجب القومي العربي والإسلامي يقتضي من كل أبناء الأمة أن يحرصوا على استخدام المفاهيم والمصطلحات الصحيحة، التي تدل على حقيقة هوية وطننا وأبعاد الصراع الدائر فيه، وتبين مَنْ الذين ساعدوا اليهود على اغتصاب فلسطين، ولازالوا يوفرون الحماية للمغتصب اليهودي لقلب الأمة، ويحاولون جعله محوراً ومركزاً لكل "نظام إقليمي جديد" في وطننا، لذلك ليحرص كل منا على استبدال مصطلح (الشرق الأوسط) بأي مصطلح يتوافق مع فكره ومفاهيمه الأصيلة، بحيث يدل على وحدة الوطن وأبعاد الهجمة اليهودية ـ الغربية عليه، وليجمع الجميع على استبدال مصطلح قضية (الشرق الأوسط) أو (أزمة الشرق الأوسط) أو (قضية فلسطين) وغيرها من المصطلحات الغربية الدارجة بمصطلح "القضية المركزية للأمة"، لعله يكون بداية لتقويم المقلوب، والعودة إلى الذات، وإدراك أبعاد ومخاطر الاستمرار في استخدام المصطلحات الغربية التي تنطوي على أبعاد خطيرة ضد الأمة والوطن.
وحدة العرق والروح والثقافة
ذلك يعني أن بلاد الهلال الخصيب "العراق وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان" هي جزء من الجزيرة العربية، التي كما شكلت منذ فجر التاريخ وحدة جغرافية واحدة، فإنها شكلت أيضاً وحدة عرقية وثقافية وروحية واحدة، "فهذه المنطقة تعتبر (الملتقى الأعظم للشعوب والثقافات) كانت أيلة وأوغاريت تتكلمان لغة (سامية)(*) الأولى من منتصف الألف الثالثة، والثانية في منتصف الألف الثانية. وكلتاهما كانت تنهل من نفس المعين اللغوي العربي (المعروف بالسامي) وهما تتقاسمان ذلك مع الآكديين (في النصف الثاني من الألف الثالثة) ومع البابليين والآشوريين (ابتداءً من أول الألف الثانية) ومع الكنعانيين على الساحل وفي الداخل، ومع الآراميين (منذ منتصف الألف الثانية) وكل هؤلاء يستخدمون الكتابة المسمارية للسومريين"[12].
وتحدثنا كتب التاريخ والمكتشفات الأثرية الحديثة أن صحراء العرب كانت هي المعين البشري لمنطقة الهلال الخصيب وغيرها، وأن حركة القبائل الكبرى في الانتقال من الجزيرة العربية إلى امتداداتها لم تنقطع عبر التاريخ.. وكانت حركة الانتقال هذه تتم "إما لأسباب سياسية أو اجتماعية، من الغزو الخارجي أو الصراعات الداخلية من أجل الأرض الخصبة وموارد الرزق، وإما لظروف طبيعية غير عادية، من: حلول القحط والجدب وانتشار الأوبئة، وتغيرات الجو أو انهيارات السدد"[13].
وقد كانت تتم تلك الهجرات "في فترات زمنية مختلفة منذ فجر التاريخ وبأعداد متفاوتة، وكانت أحياناً تنتشر في مناطق واسعة وأحياناً في مناطق صغيرة حسب عدد أفرادها وغالباً ما كانت تغمر البلاد التي ترتحل إليها وتطبعها بطابعها العربي الأصيل ويندمج فيها سكان تلك المناطق ويكونوا وحدة واحدة ملاحمها عربية وتمتد إلى أصول (سامية)(*). كما أن "وحدة الحضارة والإيمان في هذه المنطقة الشاسعة من الهلال الخصيب لا يمكن أن تقارن بوحدة إمبراطورية، كإمبراطورية الرومان المتحصنة داخل أسوارها وحدودها المتحصنة بجيوشها وحدها، والتي تعتبر على طريقة الإغريق أن كل من لا يتكلم لغتها لا يشارك في ثقافتها هو "بربري" لا إنسان وقد ولد ليكون عبداً، لم يكن هذا الانشقاق موجوداً في الهلال الخصيب، ولم تكن الحضارة الكبرى آنذاك متمتعة بقوة جيش فحسب، بل إن ثقافتها كانت كذلك تسمح بتحضير غزاتها وتمثيلهم([14]).
وقد كانت أهم وأشهر القبائل العربية التي سكنت منطقة الهلال الخصيب: الآكديين وهم فرع من القبائل (الساميين)، وقد استطاعوا في منتصف الألف الثالث، وفي نهاية فجر الآسرات(**) إنشاء دولة كبرى. وفي بداية الألف الثالث سكن قسم ثانٍ من (الساميين) شمال العراق، وهم الذين تكون منهم الآشوريين. وفي منتصف الألف الثالث هاجر فرع ثالث يدعى الأموريين إلى الشام والمنطقة الوسطى من الفرات، كما هاجر فرع آخر من (الساميين) عرف بـ(الكنعانيين) فسكنوا الساحل السوري، كما هاجر الآراميون واستقرت قبائلهم في أعالي بلاد ما بين النهرين ومنطقة الفرات الأوسط وبلاد الشام وذلك في منتصف الألف الثاني ق.م، ومنهم قبيلة أقامت في جنوبي العراق كانت تعرف بالكلدانيين، ثم جاءت بعد ذلك بطون أخرى قريبة منهم أقاموا في فلسطين وشرقي الأردن، ومن القبائل (السامية) الأخرى التي نزحت إلى تلك المناطق الخصبة أخيراً، النبط، اللخميين والمناذرة في العراق والغساسنة في الشام[15].
لقد أصبحت منطقة الهلال الخصيب منذ فجر التاريخ بلاداً عربية أرضاً وشعباً وحكماً وحضارةً، حيث غمرتها وأقامت فيها منذ آلاف السنين القبائل العربية التي هاجرت إليها، وأسست فيها دولاً عظيمة، وشادت فيها حضارة ومدنية عرفت في التاريخ القديم والحديث أنها أصل الحضارات الإنسانية. وقد نقل عنها الإغريق والرومان واليونان وغيرهم. وأياً ما كانت الأسماء التي تطلق على تلك القبائل المهاجرة فإنهم لم يكونوا عروقاً أو عنصريات، بل هم موجات من الهجرة المتتابعة من شعب عربي واحد تمتد جذوره داخل شبه الجزيرة العربية، لذلك "لا نجد فروق عرقية أساسية بين الشعب "الكنعاني" الذي كان يسميه الإغريق الفينيقي وبين الأموريين أو الآكديين والبابليين والآراميين"[16].
إن وحدة الأمة والوطن عرقياً وثقافياً ولغوياً وحضارياً ودينياً حقيقة لا مراء فيها منذ فجر التاريخ، وفلسطين هي قضيتها المركزية والأولى، يراد لها الآن التصفية في غفلة الشعوب، وتواطؤ الأنظمة، لذلك على كل أبناء الأمة وخاصة المثقفين فيها أن ينهضوا لإفشال ما يعد من مخططات تصفية لقضيتهم، ومزيد من التشطير والتمزيق لوطنهم.



[1] بنيامين فريدمان، التوراة تاريخها وغاياتها، ترجمة وتعليق: سهيل ديب، بيروت، دار النفائس، الطبعة الخامسة، 1404هـ- 1984م، ص59.
[2] موسوعة السياسة، عبد الوهاب الكيالي، "دكتور وآخرون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت، الجزء الثالث، الطبعة الأولى، 1983، ص456.
[3]- محسن عوض، الإستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية، سلسلة الثقافة القومية، 16 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988) ص 54-55.
[4]- جوناثان رندل، حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي: أمراء الحرب المسيحيون والمغامرات الإسرائيلية في لبنان، ترجمة بشار رضا (بيروت: العهد للنشر والتوزيع، )1984، ص155.
[5] موسوعة السياسة، مرجع سابق، ص456.
[6]- يوسف هيكل "دكتور": فلسطين قبل وبعد، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى1971، ص21.
[7]- جيمس هنري برستد: انتصار الحضارة، تاريخ. الشرق الأدنى، نقلة للعربية الدكتور أحمد فخري، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، (بلا تاريخ)، ص151.
[8]- سعد زغلول عبد الحميد "دكتور" في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت. (بلا تاريخ).ص 65-66.
[9]- خالد عبد الرحمن العك: تاريخ القدس العربي القديم، مؤسسة النوري للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1986-1407هـ،ص32.
[10]- المرجع السابق،ص54.
[11]- عبد الوهاب الكيالي "دكتور" تاريخ فلسطين الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1971.ص43.
(*)اللغات السامية تطلق على لغات القبائل العربية التي عرف تاريخياً بـ"الساميين"، وقد تحدثوا لغة انحدرت من أصل وجذر لغوي واحد، وهي لغة غنية بمفرداتها وآثارها الأدبية، وقد تشعبت إلى فروع ولهجات يمكن تقسيمها إلى كتلتين: شرقية وأهم فروعها اللغة الآكدية ومنها البابلية والآشورية، ثم اللغات العربية الجنوبية كالحميرية والمعينية والسبئية. أما الكتلة الغربية فهي الأمورية والكنعانية والفينيقية والعبرية والعربية الشمالية (الحجازية). "الشرق الخالد"، عبد الحميد زايد، ص62.
[12] رجاء جارودي، فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة وتعليق وتقديم الدكتور عبد الصبور شاهين، مكتبة دار التراث، ص40.
[13] سعد زغلول عبد الحميد، مرجع سابق، ص202.
(*) لقد درج باحثوا الغرب وتبعهم كتاب العرب على تسمية الشعوب التي تنسب إلى جزيرة العرب أو التي تتشارك في اللغة والأفكار والعقائد من سكان العراق والشام ووادي النيل ودوله بالشعوب "السامية"، وهي تسمية حديثة وضعها مستشرق نمساوي سنة 1781م نسبة إلى "سام بن نوح"، الذي ذكر سفر التكوين من ذريته أقواماً عاشوا في جزيرة العرب والأقطار المجاورة لها كـ"الكنعانيين" والآراميين والسبئيين والكوشيين والمصريين …الخ، بعد أن لاحظ وجوه التشابه الظاهرة بين لغاتها وأفكارها وعقائدها… وفي اعتقادنا أن هذه التسمية لا تقوم على سند من تاريخ أو علم آثار؛ وأن الأولى أن تسمى هذه الشعوب بالجنس العربي ما دامت قد نزحت من جزيرة العرب. فجزيرة العرب أخذت تذكر باسم العروبة الصريح في كتب اليونان والرومان وأشعار العهد القديم منذ ألفين وخمسمائة سنة، واسم العرب الصريح أخذ يطلق على أهلها المستقرين في داخلها وتخومها الشمالية جزئياً ثم شمولياً منذ ألفين وخمسمائة سنة أو أكثر على ما تدل عليه النقوش والمدونات القديمة. "تاريخ الجنس العربي، محمد عزة دروزة، الجزء الثاني هامش (1) ص6-7".
ونحن سنستخدم كلمة "سامي" و"عربي" كمترادفين لكلمة واحدة نقصد بها العرب، كما أننا سنضع كلمة "سامي" و"كنعاني" ومشتقاتهما بين قوسين للدلالة على تحفظنا عليهما، وأننا اضطررنا إلى استخدامهما لضرورات النقل فقط. ذلك لأننا لا نؤمن بخرافة التقسيم التوراتي لأصل الأجناس البشرية على الأرض، وأن القبائل التي يسميها البعض من المؤرخين وعلماء الآثار بالقبائل "السامية"، هي حقا تعود بأصولها العرقية إلى من تدعيه التوراة (سام بن نوح). المؤلف.
[14]- المرجع السابق، ص43-44.
(**) عصر فجر الآسرات أو ما قبل الآسرات، أو ما قبل سرجون أو عصر لجش الأول والثاني والثالث: هو العصر الذي يبدأ بعد عصر فجر الحضارة، ويبدأ هذا العصر في نهاية عصر (جدة نصر) الذي يقع في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد، وينتهي حوالي 2470 ق. م حينما وحد سرجون الأكادي البلاد في مملكة واحدة. وقد قدرت مدة هذا العصر بما يقرب من ستمائة عام، وكانت الظاهرة الواضحة فيه هو قيام دويلات المدن، وقد أصطلح جمهرة من العلماء على تسمية حضارة هذا العصر بالحضارة السومرية "يراجع (الشرق الخالد) لعبد الحميد زايد، ص34".
[15] عبد الحميد زايد "دكتور"، الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، ص61.
[16] عبد الرحمن المزين، تاريخ فلسطين العسكري، منظمة التحرير الفلسطينية، ص11.
http://mostin.maktoobblog.com/161634...4%D8%A3%D9%88/