المسيحيون العرب: مصائر مجهولة في بلاد مضطربة
صقر أبو فخر: السفير
اعتقد الكثيرون ان »المسألة الشرقية« قد هُزمت مع »الثورة العربية الكبرى« في سنة ،1916 وأن تفتيت البلاد العربية على أسس إثنية وطائفية قد انتهى الى غير رجعة مع صعود الفكر القومي الحديث، ومع ظهور الحركات القومية المعاصرة، وأن المجازر المتبادلة التي ارتُكبت في لبنان سنة 1860 بين الدروز والموارنة، والمذابح التي وقعت ضد السريان والأرمن بين 1914 و،1919 لن تعود على الاطلاق. غير أن »المسألة الشرقية«، للأسف الشديد، عادت الى الظهور مع تلقي المشروع القومي الناصري صدمة كبرى في سنة ،1967 وها هي الآن قد باتت إحدى علامات العياء العربي، ولا سيما بعد تحطيم العراق في سنة .2003 ويتعرض العرب المسيحيون للتنكيل في بعض المناطق العربية، وللاضطهاد في مناطق أخرى، الأمر الذي أدى الى انحسار أعدادهم في بلاد الشام والعراق ومصر، وهي أوطانهم التاريخية.
يحلو للباحثين ان يتحدثوا عن مسألة الأقليات في العالم العربي، وهي مسألة حقيقية في أي حال، ويُدرجون فيها »مشكلة الأقلية المسيحية«. لكن المسيحيين ليسوا أقلية في العالم العربي، إنما هم أهل هذه البلاد الممتدة من مصر حتى كيليكيا في بلاد الشام، وهم سكان هذه الأرض منذ نحو الفي عام. والمسيحية إحدى الديانات العربية بلا شك، حتى المسيح نفسه آرامي من الناصرة في الجليل الفلسطيني، وكان يتكلم السريانية، فهو بالمعنى التاريخي والحضاري، سرياني من فلسطين.
ان عروبة المسيحيين أمر لا جدال فيه، الا لمن يرغب في إثارة مجادلات لغايات أخرى. ففي القدس اليبوسية (العربية) بدأت المسيحية، ومن القدس انتشر الرسل يبشرون بهذا الفكر الجديد، وفي الطريق المستقيم في دمشق (شارع مدحت باشا اليوم) تلقى بولس الانذار الإلهي بحسب العقيدة المسيحية، وراح يُبشر في الصحراء العربية (حوران). وأولى الكنائس شُيّدت في حلب وحوران. وفي أنطاكيا السورية عُرف أتباع يسوع الناصري بـ »المسيحيين« أول مرة.
ان تاريخ المسيحية في المشرق العربي هو تاريخ العرب نفسه قبل الاسلام. ومنذ الفتح الاسلامي لبلاد الشام والعراق ومصر، سار تاريخ المسيحية وتاريخ الاسلام معا بلا انفصال، الا في حقب محدودة. ومن المحال، الى حد كبير، ان يتصدى مؤرخ او باحث في التاريخ لدراسة التاريخ العربي من دون ان يكتشف ان تاريخ المسيحية، السرياني بالتحديد، مندمج ومندغم ومتطابق مع تاريخ المسلمين. ولم تخل مدينة او حاضرة او بادية من الوجود المسيحي في جميع حُقب التاريخ العربي ولا سيما في بغداد وحلب ودمشق والقدس والقاهرة... الخ.
لمحات من تاريخ العرب المسيحيين
المسيحيون العرب هم الغساسنة في حوران وقاعدتهم بصرى، وهم المناذرة في العراق وقاعدتهم الحيرة. وهم أحفاد بكر وتغلب وكلب وربيعة ومضر وتنوخ، هذه القبائل التي كانت قبل الاسلام، في أغلبيتها، مسيحية، حتى قيل: »لولا الاسلام لأكل بنو تغلب الناس«. والعرب المسيحيون لمع من بينهم أعلام كبار في الشعر والأدب والحكمة والخطابة أمثال امرئ القيس والأخطل (التغلبي) وعمرو بن كلثوم وأبو تمام (الطائي) والأعشى وامية بن أبي الصلت وأكثم بن صيفي وورقة بن نوفل وغيرهم كثيرون.
والمسيحيون العرب هم الذين استقبلوا أبناء عمومتهم القادمين في ألوية الفتح، في جنوب سورية (الغساسنة) وفي شمال العراق (المناذرة)، وساعدوهم على الروم البيزنطيين. ولولا مسيحيو الشام لما قامت الدولة العربية الأولى، أي دولة الأمويين، ولما ترسخت دعائمها في الشام أولا ثم في بقاع الأرض حتى وصلت الى الاندلس غربا وإلى السند وبخارى شرقاً.
والمسيحيون العرب هم الذين أسهموا الاسهام الكبير في العصر الذهبي للثقافة العربية، فنقلوا علوم اليونان وحكمتهم الى العربية، واشتهر منهم، كما هو معروف للجميع، اسحق بن حنين وابنه حنين بن اسحق وابن البطريق وقسطا بن لوقا وثابت بن قرة ويعقوب بن اسحق الكندي ويوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع. وهؤلاء يتوزعون في معتقدهم ما بين النساطرة (أتباع نسطوريوس الأنطاكي الذي كان يقول ببشرية يسوع المسيح)، والسريان الذين قبلوا عقيدة الطبيعة الواحدة (المونوفيزية). لقد أصاب المسيحيين العرب ما أصاب المسلمين العرب من انحدار في عصر الانحطاط الذي بدأ مع سقوط بغداد على أيدي المغول في سنة .1258 ومع ظهور عصر النهضة العربية الحديث كان للعرب المسيحيين فيه القدح المعلى، والشأن الكبير جدا، ولا سيما في الصحافة والفكر والأدب والشعر والمعاجم. ولعل من الصعب ان يتخيل أي باحث هذا العصر من دون ان يلتفت الى الدور الريادي الذي لعبه المسيحيون فيه. ومن بين أبرز أعلام هذه الحقبة ناصيف اليازجي وابراهيم اليازجي (أصلهما من حمص) وفرنسيس المراش (حلب) وأديب اسحق (دمشق) وأحمد فارس الشدياق وشبلي الشميل وفرح أنطون (لبنان) وجرجي زيدان (أصله من حوران) ولويس شيخو (العراق) ولويس المعلوف (واضع »المنجد في اللغة) وعيسى اسكندر المعلوف (أصل آل المعلوف الزحليين من قرية داما في جبل العرب في سورية)، فضلا عن جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وفوزي المعلوف ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي ومي زيادة وخليل السكاكيني وغيرهم.
إن أول صحيفة عربية ظهرت في الأستانة في سنة 1855 أصدرها المسيحي رزق الله حسون الحلبي. وأول صحيفة عربية ظهرت في بيروت كانت »حديقة الأخبار« أصدرها خليل الخوري من الشويفات في لبنان. وأول صحيفة عربية في المهجر الأميركي كانت »كوكب أميركا« التي أصدرها المسيحيان الدمشقيان ابراهيم ونجيب عربيلي. وقد كان للمفكرين المسيحيين الشأن المهم في بلورة الفكر القومي العربي منذ بطرس البستاني في بيروت (أصل آل البستاني من جبلة بالقرب من اللاذقية) الى ميشال عفلق الدمشقي وقسطنطين زريق الدمشقي ايضا، وجورج حبش الفلسطيني وأنطون سعادة اللبناني. وساهموا كذلك في صوغ أفكار اليسار العربي، وكان من بينهم اسكندر الرياشي ونقولا الحداد ويوسف ابراهيم يزبك ورئيف خوري وسليم خياطة وفؤاد الشمالي وفرج الله الحلو وإميل توما وإميل حبيبي ويوسف سلمان (فهد). وفي السياسة برز في مصر مكرم عبيد، وفي سورية فارس الخوري الذي ترأس مجلس النواب السوري والحكومة السورية والذي قيل فيه: لولا النقطة في اسم عائلته لصار رئيسا للجمهورية.
اضطهاد مكشوف
العالم العربي منقسم اليوم إلى قوميات وطوائف. فهناك مسلمون عرب وهم أغلبية سكانه. وهناك عرب غير مسلمين مثل مسيحيي العراق والشام. وهناك مسلمون غير عرب مثل الأكراد والشركس والتركمان والبربر والنوبيين. وهناك أقوام غير مسلمين وغير عرب كالأرمن.
ان هذا التنوع قد يكون، في بعض الحالات، مصدرا للغنى الثقافي والثراء الحضاري. وقد يكون في حالات أخرى مصدرا للشقاق والتفكك. ومع ان بعض الأقليات في العالم العربي كالأكراد لديها مشروع سياسي قومي، الا ان المسيحيين، وهم ليسوا أقلية في أي حال، لا يمتلكون أي مشروع سياسي »قومي« فوق الأرض العربية.
لقد امتلك كثيرون من النخب السياسية المسيحية العربية مشاريع سياسية جامعة لا تقسيمية (إلا في حالات شاذة مثل مشروع »القوات اللبنانية« الذي عُرف بـ »الفيدرالية«) بل كانت مشاريع ذات طابع قومي، أكان ذلك قوميا سوريا أم قوميا عربيا. وانخرط كثيرون من النخب المسيحية في مشاريع سياسية ذات طابع مساواتي، وذات مضمون اجتماعي مثل الأحزاب العلمانية واليسارية. وأسس بعض المسيحيين حركات للتحرر الوطني، ولا سيما في فلسطين أمثال جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة وغيرهم. وعلى الرغم من هذا التاريخ البهي فإن شياطين التفكيك والكراهية شرعوا مؤخرا في تسميم التعايش بين أبناء الوطن الواحد. هذا ما حصل في لبنان، وهو ما يحصل حاليا في العراق، وبدرجة أقل في مصر. أما في فلسطين فشأن مختلف. وهذه الأمور مجتمعة، علاوة على همجيتها واحتقارها للانسانية والمواطنة، من شأنها ان تجعل بلادنا العربية ذات لون واحد، أي قفار خاوية إلا من لون الغبار.
أرقام ودلالات
قبل الفتح العربي للشام والعراق ومصر كان سكان هذه البلاد، ومعها تركيا (آسيا الوسطى)، مسيحيين بنسبة 95%. وحتى الفتح العثماني للشام ومصر والعراق في سنة 1516 ـ 1517 كان عدد المسيحيين في هذه البلاد نحو 16 مليونا موزعين على النحو التالي: العراق (9 ملايين)، الشام (4 ملايين، بما في ذلك فلسطين ولبنان والأردن)، مصر (2,5 مليونان). أما اليوم (احصاءات عام 2005) فإن عدد المسيحيين لا يتجاوز 13 مليونا موزعين كالتالي: لبنان (1,3 مليون)، سورية (مليونان)، العراق (1,5 مليون حتى نيسان/ ابريل 2003)، مصر (8 ملايين)، فلسطين التاريخية والأردن (360 ألفا).
لا شك في ان ثمة تفاوتاً بين الارقام بحسب المصادر المتعددة والمختلفة. وهذا التفاوت ليس قليل الأهمية، ولا سيما أننا استبعدنا من حساباتنا مسيحيي السودان لعدم اليقين في أعدادهم، الأمر الذي يرفع عدد المسيحيين، في حال احتساب السودانيين، إلى نحو عشرين مليوناً، من دون ان نحتسب ايضا المهاجرين الى عالم الاغتراب في أميركا وأوروبا. ولو أننا ضيّقنا قليلا بقعة الضوء، لوجدنا أن المسيحيين في سورية مثلا كانوا يشكلون 25% من مجموع السكان في سنة ،1914 وصاروا في سنة 1956 نحو 15%. أما اليوم (سنة 2005) فهم يتأرجحون بين 8% و10% بحسب المصادر المختلفة.
تشير التوقعات الى ان عدد المسيحيين في المشرق العربي (الشام والعراق ومصر) سينخفض من نحو 13 مليونا الى نحو 6 ملايين في سنة 2025 اذا استمرت معدلات الهجرة على حالها. وفي هذه الحال لن يبقى في أرض المسيح (فلسطين) مسيحيون الا بعض النُساك والرهبان المنذورين لخدمة الأماكن المقدسة، وستُقفر ارض العراق من أبنائها المسيحيين الذين منحوها، بوجودهم المستمر منذ أكثر من ألفي عام، رونقها التاريخي المتحضر، وقدموا دروسا في التعايش والتسامح.
من فلسطين إلى العراق فمصر
المسيحيون هم سكان فلسطين الأصليون قبل الفتح العربي. غير أن عدد المسلمين راح يتزايد بالتدريج نتيجة للتدفق المتتالي للقبائل العربية على الديار المقدسة وبلاد الشام، ولازدياد عمليات التحول من المسيحية الى الاسلام.
كانت نسبة المسيحيين الى مجموع السكان في فلسطين سنة 1890 نحو 13%. ومع بداية الانتداب البريطاني في سنة 1917 هبطت الى 9,6% . وفي عام 1931 صارت 8,8%. وفي عام النكبة سنة 1948 بلغت 8%. أما في سنة 2000 فقد بلغت 1,6% فقط. وهذه حال مروّعة. وللمقارنة، فقد كان عدد المسيحيين عام 1948 في الضفة الغربية وحدها 110 آلاف نسمة. ولو بقي هؤلاء في أراضيهم لبلغوا المليون على الأقل في هذه الأيام، بينما عددهم الآن أقل من خمسين ألفا. وفي القدس كان عدد المسيحيين سنة ،1947 أي عشية النكبة، 27 ألفا. ولو ظلوا في المدينة لكان عددهم اليوم أكثر من 150 ألفا، بينما لا يتجاوز عددهم اليوم الثمانية آلاف فقط.
لقد برز المسيحيون الفلسطينيون في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية بقوة، وكان لهم الحضور الكبير في النضال الوطني منذ سنة 1917 حتى اليوم. الا ان التبدلات الانعطافية التي عصفت بفلسطين منذ سنة 1948 فصاعدا تركت آثارا اهتزازية في »المجتمع المسيحي« الفلسطيني. ففي أواخر العهد العثماني هاجر الآلاف من المسيحيين الى دول أميركا اللاتينية هربا من العسف والتجنيد القسري في الجيش التركي. لكنهم اليوم يغادرون بأعداد كبيرة في هجرة تشبه هجرة بدايات القرن العشرين. ففي خلال انتفاضة الأقصى هاجر نحو 3 آلاف نسمة من مدينة بيت لحم، ونحو 1300 من أهالي بيت ساحور وبيت جالا، حتى ان قرية برقة التي كان يسكنها 4 آلاف مسيحي لم يبق فيها مسيحي واحد.
ان أخطر ما تعرض له مسيحيو فلسطين بعد الاحتلال في سنة 1967 هو التهويد ومصادرة الأراضي. وعلى سبيل المثال صادرت اسرائيل 11 ألف دونم من الأراضي المشجرة بالزيتون في بلدة بيت جالا لبناء مستوطنة »غيلو« عليها. وصادرت آلاف الدونمات من الأراضي العائدة للمسيحيين لشق طريق سريع يربط المستوطنات اليهودية جنوب بيت لحم بالقدس. وعلاوة على الاحتلال فإن بعض الجماعات المتعصبة أساء الى المسيحيين حينما سعى الى تغيير اسم »ساحة المهد« الى »ساحة عمر«، وحاول التضييق عليهم باستمرار، مع ان المسيحيين كانوا روادا في العمل الوطني. والدليل ان اليد اليمنى للحاج أمين الحسيني كان إميل الغوري. وأبرز مساعدي المفتي كان عزت طنوس وعيسى نخلة وهما مسيحيان. ونائب رئيس الحزب العربي الفلسطيني الذي أسسه المفتي بنفسه كان ألفرد روك. واليوم يتصدر عزمي بشارة، حتى من منفاه، والمطران عطا الله حنا، وقبلهما المطران إيلاريون كبوجي، النضال ضد الاحتلال.
أما في العراق المثقل بآلامه الحاضرة، وبأوجاعه التاريخية، فالمسيحيون اليوم شارفوا على الرحيل، وهم يستعيدون أحداث ما جرى معهم في مذبحة »سميل« سنة 1933 حينما قتل فيها نحو ثلاثة آلاف أشوري. وتعود الى ذاكرتهم المغلوبة ما قامت به الفرق »الحميدية« حينما طردت سريان الجزيرة الفراتية، وارتكبت المذابح بحقهم في حوادث متمادية في سنة 1843 وسنة 1895 وسنة ،1908 وكان أقساها مذبحة 1914 ـ 1918 حينما ذبح الأكراد آلاف السريان (والأرمن أيضا) وطردوهم من طور عابدين وماردين الى سورية والعراق. وها هم أحفاد قتلة الأمس يطاردون اليوم أحفاد الضحايا، ويهجرونهم من ديارهم الى ديار الأقوام المجاورة. ومنذ سنة ،2003 أي منذ سقوط بغداد، قُتل نحو 1000 مسيحي بينهم 8 كهنة (منهم مطران الموصل للكلدان بولس فرج رحو)، واغتصبت 13 فتاة، وأحرق نحو 500 محل تجاري وهوجمت 52 كنيسة، وأجبرت مجموعات تابعة لجيش المهدي الفتيات المسيحيات على ارتداء الحجاب.
تجددت الاعتداءات على المسيحيين العراقيين في 24/9/2008 عندما اتخذ البرلمان العراقي قرارا بإلغاء المادة 50 من قانون الانتخاب الذي كان يمنح الأقليات حق التمثيل النسبي. وعندما احتج ممثلو هذه الأقليات الكلدو ـ أشورية على ذلك قتل على الفور 14 مسيحيا في المناطق الكردية، ونزح 3850 عائلة مسيحية من الموصل حيث السطوة الأمنية للأكراد وللأميركيين معا. وبلغ عدد المسيحيين الذين غادروا العراق منذ سنة 1991 (عندما فرض الحصار على العراق) نحو 800 ألف مسيحي.
أما في مصر، فقد ظهرت المشكلة الطائفية في سنة ،1972 بعد ان حُسم الصراع على السلطة لمصلحة الرئيس أنور السادات. ففي تلك الفترة انتعشت بعض الجماعات الاسلامية المتطرفة، وراح أفرادها يهاجمون الأقباط في أمكنة عباداتهم. وعلى سبيل المثال هاجمت هذه الجماعات إحدى الكنائس في الخانكة بالقاهرة. وفي سنة 1981 تجدد العنف الطائفي في الزاوية الحمراء في القاهرة. وفي سنة 1998 وقعت أحداث منطقة »الكشح«. وفي سنة 2007 وقعت أحداث ذهب ضحيتها بعض القتلى في الاسكندرية وفي بعض مناطق الصعيد... وهكذا.
في فلسطين والعراق يعيش المسيحيون العرب في هلع وقلق واضطراب. البقاء لا يحمي عائلاتهم من وضاعة القتلة وكوارث الاحتلال، والهجرة لا تحميهم من آلام الاقتلاع والغربة. وفي هذين البلدين لا سلطة ولا دولة تستطيعان ان تلقيا عليهم عباءة الطمأنينة. والاحتلال هو المسؤول الأول عن هذه الحال. في فلسطين لأنه دمر السلطة الفلسطينية الناشئة، وترك لسلطة الشارع أن تصبح اليد العليا، هذه السلطة التي تنجرف، بقوة، نحو التعصب الديني والكراهية، وفي العراق لأنه فكك بنية الدولة على النحو المعروف، الأمر الذي جعل السلطة العليا في هذا البلد للطوائف والاثنيات الهمجية.
أفول الحضارة السريانية
السريان هم السكان الأصليون لسوريا (بما في ذلك لبنان وفلسطين). وهم الآراميون ايضا بشقيهم: الشرقي، أي بلاد ما بين النهرين، والغربي، أي بلاد الشام التاريخية. وكانت بلاد السريان مقسمة الى ثلاثة أقاليم:
1ـ إقليم الشام.
2ـ إقليم السواد وهو يضم الجزء الأسفل من العراق الممتد بين بغداد والبصرة.
3ـ إقليم الجزيرة وهو يضم تكريت وسامراء حتى جبال طوروس شمالا، وفيها ديار ربيعة (الأنبار وسنجار والموصل)، وديار مضر (الرها وعين ديوار ورأس العين وحران)، وديار بكر (ميافارقين وملاطية وجزيرة ابن عمر).
في هذه البقعة شهد السريان الذين منحوا اسمهم للأقاليم المسماة »سوريا« أزهى عصور حضارتهم، فأنشأوا جامعات مهمة في نصيبين والرها (أورفة) وريش عينو (راس العين). واشتهرت مدينة حران التي كانت مقراً لقبائل بني تغلب المسيحية. لكن اجتياح تيمور لنك لبلاد السريان ربما دشن بداية أفول الحضارة السريانية العظيمة. ومنذ ذلك الوقت بدأت الأقوام الجبلية الكردية تنزح من الجبال الى مناطق السريان وتحل محلهم بالتدريج، وبالقوة أحيانا كما حدث في المذابح التي قادها، لاحقا، الأمير الكردي بدرخان. والمعروف ان القامشلي مثلا ومعها الحسكة ودير الزور كانت مدنا سريانية خالصة. واليوم باتت الغلبة الكردية واضحة في بعض انحاء هذه المناطق مثل عامودا والمالكية والدرباسية التي بدأ الأكراد يتدفقون عليها منذ العام 1925 فصاعدا عقب فشل تمرد الشيخ سعيد النقشبندي الكردي في تركيا. ثم جاءت مجزرة عامودا ضد السريان في سنة 1937 لتبدأ الخطوات المتسارعة في هجرة السريان نحو الغرب.
لكن، قبل ذلك، كان سقوط القسطنطينية والرها ونصيبين بيد العثمانيين الأتراك منذ سنة 1453 فصاعدا، المقدمة التي ابتدأ منها انحدار أحوال المسيحيين في المشرق العربي. ومهما يكن الأمر، فإن هجرة المسيحيين اليوم من بلادهم التاريخية لها مجموعة من الأسباب، ومن الخطأ ان نعيد هجراتهم الى سبب وحيد. وهذه الأسباب اقتصادية وسياسية وقانونية وغير ذلك. ولا شك في ان جاذبية الغرب علميا واقتصاديا هي أحد أسباب هجرة المسيحيين. وفي هذا المضمار يتساوى المسلمون والمسيحيون تماماً.
وهناك أسباب قانونية مثل القوانين التمييزية ضد المسيحيين التي لا يجد المسيحي نفسه متساويا مع أخيه المسلم كما هي الحال في السودان ومصر مثلا، وفي العراق مؤخرا. ولا ريب في ان الحروب الأهلية كانت سببا مهما من أسباب هجرة المسيحيين كما حدث في لبنان والسودان، وكما يحدث في العراق الآن، وكما حدث في بداية القرن العشرين إبان الحرب العالمية الأولى حينما ضربت المجاعة بعض انحاء سورية، وبالتحديد جبل لبنان، فهاجرت جماعات مسيحية كثيرة الى اميركا من جبل لبنان وفلسطين. وثمة أسباب أخرى مثل غياب الحريات السياسية، الأمر الذي يدفع مجموعات غير محددة من الناشطين السياسيين الى التفتيش عن بلاد تمنحهم هذه الحرية وتحترم حريتهم في إبداء الرأي. ومن عوامل هجرة المسيحيين الاضطهاد النسبي النازل بهم بسبب دينهم، وهذا ما يجري على أيدي بعض الجماعات التكفيرية في العراق ومصر. على ان الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين (والأميركي للعراق أيضا) هو عامل أساسي في هجرة المسيحيين من فلسطين والعراق. وهذه العوامل كلها أسهمت بقوة في انخفاض عدد المسيحيين في بلادهم قياسا على أعداد المسلمين مثلا. وثمة عناصر اخرى تفسر هذا الانخفاض مثل انخفاض معدلات الولادة للعائلة المسيحية مقارنة بالعائلة المسلمة، وارتفاع معدلات الولادة للعائلة المسلمة من الفئة الاجتماعية نفسها.
بين مصر والعراق والشام والسودان يعيش المسيحيون العرب في قلق واضطراب وبلبلة. ولعل سورية هي الدولة الوحيدة في المشرق العربي التي ما زالت شبه ملاذ للمسيحيين، خصوصا العراقيين منهم. فسورية هي جزء من أرض الآراميين، وهي التي استقبلت السريان الارثوذكس والأرمن الفارين من تركيا سنة ،1915 ثم استقبلت النساطرة المطرودين من العراق في سنة ،1933 وهي تستقبل مسيحيي العراق ابتداء من سنة 2004 فصاعدا. والمعروف أن أنطاكيا كانت المقر الأساسي لبطاركة السريان والكاثوليك والارثوذكس قبل ان تُسلخ عن أصلها في سنة .1939 ومع ذلك فإن السريان باتوا فيها أقلية بعد مذبحة عامودا في سنة .1937 غير ان المسيحيين في سورية ليسوا أقلية (مليونان)، بل هم جزء أصيل من الشعب السوري، ولا ريب في أن الجميع يتطلع الى تجنيب مسيحيي سورية الاضطراب العنيف الذي يعصف بالمشرق العربي كله، والذي تفاقم بعد احتلال العراق في سنة .2003
حيال احتدام مشكلة الأقليات القومية والاثنية والطائفية في العالم العربي، وفي مواجهة نزيف العرب المسيحيين من ديارهم، يبدو أننا أمام واحد من خيارين: إما الانفصال، أي تفتيت هذه المنطقة الى كيانات متناحرة، او تدشين رحلة الخروج من هذه المصيدة نحو تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الحكم الدستوري والمساواة والحريات والديموقراطية، وفي رأس هذه الحريات حرية المعتقد وحرية الرأي وحرية التفكير، وحق كل جماعة او مجموعة في تطوير ثقافتها بالطريقة التي تراها ملائمة لها، بشرط عدم الاخلال بالعقد الاجتماعي المشمول بالقبول الحر لجميع المواطنين الأحرار.
تشير التوقعات الى ان عدد المسيحيين في المشرق العربي (الشام والعراق ومصر) سينخفض من نحو 13 مليونا الى نحو 6 ملايين في سنة 2025 اذا استمرت معدلات الهجرة على حالها. وفي هذه الحال لن يبقى في أرض المسيح (فلسطين) مسيحيون الا بعض النُساك والرهبان المنذورين لخدمة الأماكن المقدسة، وستُقفر ارض العراق من أبنائها المسيحيين الذين منحوها، بوجودهم المستمر منذ أكثر من ألفي عام، رونقها التاريخي المتحضر، وقدموا دروسا في التعايش والتسامح.