بقلم: أ.د.عبد العظيم الديب * *
نتابع الحديث عن سماحة الأتراك، وجهودهم في نشر الدعوة، وعمدتنا في ذلك المصادر الأجنبية، التي لخصها لنا، واعتمد عليها (توماس أرنولد)، وعنه نأخذ، ونلاحظ أن هؤلاء مع اعترافهم بسماحة الأتراك، وأنهم لم يدفعوا أحدا للدخول للإسلام قسراً، مع اعترافهم بهذا إلا أنهم يسمّون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة (خداعاً)، ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئاً.
يعبر الباحث الأوروبي عن اهتمام الأتراك بالدعوة، فيقول:
" وقد رأى الأتراك أن أعظم خبرٍ يستطيعون تقدمه لأي فردٍ هو أن يهدوه إلى دين الإسلام، وفي سبيل هذه الغاية لم يدعوا وسيلة للإغراء (!!) إلا فعلوها: يحدثنا رحالة هولندي، عاش في القرن السادس عشر أنه بينما كان يُظهر إعجابه بمسجد أيا صوفيا الكبير حاول بعض الأتراك أن يؤثروا في عواطفه الدينية من طريق إحساسه بالجمال، فقالوا له:" إنك لو أصبحت مسلماً، لاستطعتَ أن تأتي هنا كل يوم من أيام حياتك" وبعد ذلك بقرن تقريباً حدث لرحالة إنجليزي ما يشبه تلك الحادثة، إذ قال:" وقد يسألون مسيحياً بدافع من فيض حماسهم، في أدب جم (انظر في أدب جم) كما سألوني أنا نفسي عند مدخل مسجد أيا صوفيا: لماذا لا تصبح مسلماً، فتكون كأحدنا؟" ويتحدث عن تلك الاحتفالات التي يقيمها الأتراك ابتهاجاً بالمسلمين الجدد مبينا دلالتها، وواصفاً إياها، فيقول:" ومما يدل على الحب الروحي المتوقد الذي جعل هؤلاء القوم في مثل هذه المنزلة من الغيرة على نشر الدين، تلك الأفراح الشعبية التي كانوا يُحيّون فيها من دخلوا طوعاً من المسلمين الجدد في الإسلام. فكان المسلم الجديد يمتطي حصاناً، ويطاف به في طرقات المدينة، وهم في نشوة النصر."
ويتحدث عن مكافأتهم للمسلمين الجدد (تأليف قلوبهم)، فيقول:" فإذا توسّموا في هذا المسلم إخلاص النية، أو كان ذا مكانة استقبلوه بتكريم عظيم، وأمدّوه بما يعينه".
ثم يؤكد أن هذا الشغف بالدعوة، والحرص على هداية الناس للإسلام، كان سمة يُعرف بها الأتراك، فيقول:" إن في نفوس الأتراك غيرة لا يكاد يصدقها العقل حين يبتهلون إلى الله أن يحوّل الناس إلى الإسلام، أو بعبارة أصح أن يحوّل المسيحيين إلى ديانة الأتراك المارقة (تأمّل) إنهم كل يومٍ يبتهلون إلى الله في مساجدهم مخلصين أن يؤمن المسيحيون بالقرآن، وأن يهتدوا على أيديهم، ولم يدعوا للتأثير وسيلة من وسائل الترهيب (كذا) والترغيب إلا فعلوها" أ.هـ.
وهذا الكلام ينطق بما في قلبه صاحبه من حقد وتعصب، فالديانة الإسلامية مارقة، وبعد أن شهد للأتراك بأنهم لم يرغموا أحداً على الإسلام كان لا بد أن يدسّ كلمة (الترهيب) ناسياً أنه يناقض نفسه.
ثم يفسّر سرّ نجاح الأتراك في الدعوة إلى الإسلام، مبيناً حالة الانحطاط والفساد التي كانت تسود الكنيسة الإغريقية، والحياة الإجتماعية، ويجعل ذلك من العوامل التي أدت أو ساعدت على نجاح الأتراك في نشر الإسلام، فيقول:
"إن حالات المجتمع المسيحي نفسه قد جعلت هذه الجهود التركية التي تنطوي على الغيرة والحماسة الدينية أشد أثراً، وأعظم قيمة".
وبعد تدهور الكنيسة الإغريقية أهم هذه الأسباب، إلى جانب طغيان الدولة البيزنطية في الشئون الزمنية (أي الدنيوية)، أضف إلى ذلك الاستبداد في الأمور الدينية، مما جعل الحياة العقلية ترزح تحت عبء قرار حاسم حرّم كل مناقشة في شئون الأخلاق والدين" أ.هـ.
وبعد أن أفاض في تصوير هذا الفساد، قال:
" كل ذلك جعل الناس يتقبلون الإسلام بصدرٍ رحب نظراً لتعاليمه الواضحة، المنهومة التي تقوم على الوحدانية، وقد انتهت إلينا أخبار عن طوائف كبيرة من الناس أسلموا، ولم يكونوا من البسطاء والعامة فحسب، كانوا من العلماء على اختلاف طبقاتهم ومناصبهم وحالاتهم.
كما انتهت إلينا أخبار عن الطريقة التي أجرى بها الأتراك أرزاقاً أسخى على هؤلاء الرهبان والقساوسة الذين اعتنقوا الإسلام، حتى يكونوا قدوة قد تدفع غيرهم إلى اعتناق الإسلام.
وبينما كانت أدرانة لا تزال عاصمة الأتراك (أي قبل فتح القسطنطينية عام 1453م) كان البلاط قد اكتظ بالذين أسلموا. ويقال إنهم كانوا يؤلفون السواد الأعظم من أصحاب الجاه والسلطان هناك، وكثيراً ما انحاز الأمراء البيزنطيون وغيرهم إلى صفوف المسلمين، ووجدوا منهم ترحيباً كبيراً: ومن اسبق هذه الحالات ما يرجع تاريخه إلى سنة 1140م عندما أسلم ابن أخي الإمبراطور جون كومنين John Comnenes وتزوج إحدى بنات مسعود سلطان قونية" أ.هـ.
وأعتقد أن هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق. ولكن...؟؟
يواصل (توماس أرنولد) حديثه عن سماحة الأتراك مع المسيحيين، وعن شغفهم بالدعوة إلى الإسلام، وكيف تسابق المسيحيون إلى الدخول في الإسلام، فيقول:
" ولقد باشر العثمانيون السلطة على الرعايا المسيحيين منذ الأيام الأولى التي قاموا فيها بتوسيع مملكتهم في آسيا الصغرى. ولم تكد حاضرة الإمبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453م، حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية والكنيسة المسيحية بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت.
ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني، بعد سقوط القسطنطينية وإعادة إقرار النظام فيها، أن يضمن ولاء المسيحيين بأن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية. فحرم اضطهاد المسيحيين تحريماً قاطعاً، ومنح البطريق الجديد مرسوماً يضمن له ولأتباعه ولمرءوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق. وقد تسلم جناديوس، أول بطريق بعد الفتح التركي، من يد السلطان نفسه، عصا الأسقفية التي كانت رمز هذا المنصب، ومعها كيس يحتوي على ألف دوكة ذهبية، وحصان محلي بطاقم فاخر، وكان يتميز بركوبه في خلال المدينة تجف به حاشيته" أ.هـ.
ولم يقتصر الأمر على التوقير والاحترام، ومظاهر التقدير والتكريم للبطريرك، بل صار للبطريرك سلطة واسعة على رعايا الكنيسة، واستقلال كامل بشئون الطائفة من الناحية الدينية. يقول توماس:
" ولم يقتصر المسلمون في معاملة رئيس الكنيسة على ما تعود أن يلقاه من الأباطرة المسيحيين من توقير وتعظيم، بل كان متمتعاً أيضاً بسلطة أهلية واسعة، فكان من عمل البطركية أن تفرض الغرامات، وتسجن المجرمين في سجن معد لها، بل كان لها أن تحكم بالإعدام في بعض الأحيان. بينما صدرت التعليمات إلى الوزراء وموظفي الحكومة بتنفيذ هذه الأحكام: وكانت المراقبة التامة على الشئون الروحية والكنسية (وهي التي لم تتدخل فيها الحكومة التركية مطلقاً بعكس السلطة المدنية التي كانت مخولة للدولة البيزنطية) متروكة كلها في أيدي البطريك وأعضاء المجمع الأعظم، وكان في استطاعة البطريك أن يدعوهم متى شاء. كذلك كان في استطاعته أن يفصل في كل شئون العقيدة والشريعة من غير أن يخشى تدخلاً من جانب الحكومة" أ.هـ.
ولم يقتصر الأمر في نفوذ البطريرك على الكنيسة ورعاياها، بل كان له أيضاً كلمة مسموعة لدى السلطات التركية يجاب طلبه، وتُقبل شفاعته، يقول أرنولد:
"ولما كان هذا البطريك معترفاً به موظفاً في الحكومة السلطانية، كان يستطيع أن يقوم بعملٍ كبير في رفع الظلم عن المظلومين بأن يوجه أنظار السلطان إلى أعمال الحكام الظالمين" أ.هـ.
وقد شملت هذه المعاملة رؤساء الكنائس في الولايات، ولم تكن قاصرة على بطريرك الكنيسة الكبرى فقط، قال أرنولد:" كذلك عومل الأساقفة من الإغريق في الولايات معاملة تنطوي على رعاية بالغة، وعهد إليهم كثيراً من القضايا المتعلقة بشئونهم المدنية، إلى حد أنهم ظلوا حتى عصور حديثة يعملون في اسقفياتهم كما لو كانوا عمالاً من الأتراك على الأهالي الأرثوذكس، وبذلك حلوا محل الأرستقراطية المسيحية القديمة التي استأصل الغزاة شأفتها. ونجد أن رؤساء الكنيسة كانوا بوجه عام أكثر نشاطاً باعتبارهم من الأتراك منهم باعتبارهم قساوسة من الإغريق: وطالما علموا شعبهم أن السلطان قد اكتسب قبولاً إلهياً بوصفه حامي الكنيسة الأرثوذكسية.
ومن ثم أذيع منشور يكفل للأرثوذكس حق استخدام الكنائس التي لم تصادرها الحكومة لتحويلها إلى مساجد، ويمنح لهم حق الاحتفال بطقوسهم الدينية تبعاً لعاداتهم القومية."
(ولم يبين صاحبنا أن هذه الكنائس التي حولت إلى مساجد كان كل رعاياها قد تحوّلوا إلى الإسلام. ولكنه ـ كما قلنا لم يسلم من تحامله على الأتراك أبداً)
وقد كان من أثر ذلك التسامح ما عبّر عنه بقوله:
"وكان من أثر ذلك أن الإغريق، ولو أنهم كانوا يفوقون الأتراك عدداً في كل الولايات الأوروبية التابعة للدولة، قد جعلهم التسامح الديني الذي تمتعوا به، وما نالوه من حماية لحياتهم وأموالهم، يسرعون إلى الموافقة على تغيير سادتهم، وإيثار سيادة السلطان العثماني على سيادة أية سلطة مسيحية".
وقد سبقت الاتراك سُمعتهم، وحسن سيرتهم، مما كان يسهّل عليهم الفتوحات، "فقد كان الغزاة العثمانيون في بقاعٍ كثيرة يلقون ترحيباً من جانب أهل البلاد، ويعدُّنهم مخلّصين لهم من الحكم الظالم المستبد... فقد صبرّوا الشعب في حالة من العبودية يرثى لها" أ.هـ بنصه.
فهذه شهادات قاطعة ينقلها لنا (توماس أرنولد) عن المؤرخين الأوروبيين، والرحالة المعاصرين الذين يشهدون للأتراك شهادةً عن عيان "والفضل ما شهدت به الأعداء" "وشهد شاهد من أهلها."
فمن الذي رسم هذه الصورة البشعة للأتراك، ووضعها في بؤرة الشعور لكل المثقفين والدارسين؟؟ نعوذ بالله من الخذلان. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
________________
*(أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة بجامعة قطر سابقا )
* هذه المقالة ضمن سلسلة مقالات كتبها الدكتور عبد العظيم الديب عليه رحمة الله بشكل خاص لإسلام أون لاين لم يسبق لها النشر