من سـرق الكيـس الأصفــر
من سـرق الكيـس الأصفــر تستقبلني كل صباح ابتسامات لئيمة مرسومة بنفاق بالغ على وجوه الرجال المحنّطين أمام دكاكينهم الضيّقة والمكتظّة ببضائع شتى.. برّاقة لامعة.. ومزيّفة.. حتى أنهم يسرقون مساحة من الشارع الضيق بالأصل، يفرشون معروضاتهم الأثرية، الفضيّة والمذهّبة والملوّنة بألوان زاهية ويتزاحمون ويتشاجرون.. في ذلك السوق الضيق، الذي رصفت أرضيته بحجارة سوداء مربّعة ومستطيلة بتناسق جميل. تتراكم الدكاكين الضيقة والمقاهي والمطاعم الشعبية، وباعة العصير والمرطبات والكعك والجرابات.. تختلط أصواتهم النابحة مع ضجيج أنغام رديئة تلفظها أشرطة الكاسيت في وجوه الناس سكّان البيوت القديمة المهلهلة، والعابرين من خلال أزقّته المتشابكة والمنخفضة إلى أكثر أحياء المدينة المحيطة.. وبين أفواج متتالية من السائحين الأجانب بجنسياتهم المختلفة والزائرين القاصدين التبرّك بحجارة مقامات وقبور الأولياء والصالحين من السلف.. قصدت عندما وصلت إلى دكاني الضيق أيضاً أن أتجاهل النظر إلى صاحب مطعم (الشاورما) القائم قبالة محلي تماماً.. تراه يجلس على كرسي منخفض وراء طاولة صغيرة تحمل مع ما تحمل صندوق المال الآلي. يطل برأسه الأصلع يراقب بفضول كل شيء يتحرك أمامه.. دخلت متجري النظيف فبادرني "نزار" الشاب النحيل الذي يعمل معي، بجملته المعهودة.. - لا شيء جديد.! أضاف هذه المرة بسخرية: - جاء ياسر وسأل عن دليل هاتف.. قال أنه فقد كيساً فيه ألف ليرة..؟ لم أعر الأمر اهتماماً، كنت أعلم أن رقم الألف عند ياسر هو نهاية الأرقام التي يدركها، وسقف المعرفة المدوّن في تلافيف عقله.. غالباً ما يقول حصلت على ألف سيجارة، أو ألف علبة فارغة. كأنه ينشد تهويلاً لأمر جلل ينسجه خياله المعتوه، وكنت أكتم سخريتي.. ألاطفه وأجلس معه، أدعوه وأشاركه شرب كأس من الشاي المحلى الذي يحبّه، أدخل عالم خياله الغريب والساخر، أحاول قدر جهدي استخلاص الرؤى التي لا يدركها سواه.. تساءلتُ.. كيف نقيس جدارة العقل.؟ من يملك الحق في الفصل بين عاقل ومخبول.؟ بل ما هي العقلانية أصلاً.؟ هل تكون الصورة المطلقة التي رسمناها لعقولنا وأوصلتنا بغرور مطلق إلى سحق الآخر بمسميات أطلقناها وبمعايير وضعناها.؟ كان ياسر محور تساؤلي الدائم، أقف مشدوهاً أمام حركاته وتصرفاته المضحكة والتي يعبّر من خلالها عن موقف يعيشه أو يحسّه، أو حالة لا يملك القدرة على التعبير عنها بشكل آخر، وأحياناً أمام آراء يطرحها بسلاسة وبساطة رأيت فيها كمال العقلانية والسداد والحكمة.. عرفته منذ زمن، وعرفت الكثير عن ظروف حياته، قد يكون أهم مفصل فيها يوم قفزت به الحياة إلى شكل مثالية نادرة، فكرّس نفسه وقدراته بتفان ليس له مثيل في رعاية زوجة وأبناء شقيقه الوحيد الذي مات فجأة.. كان مجذوباً، هذه حقيقة ولكن من نوع فريد.. استطاع أن يتعلّم بسرعة مذهلة كيف ينتزع قوته ورزقه، يجمع قدر ما يستطيع من علب "الكولا" الفارغة والعبوات البلاستيكية والنايلون والمعادن والأخشاب، وأي شيء يقع تحت يديه، فلكل شيء ثمن.. واستطاع أن يتعرّف إلى أصحاب الجحور التي تشتري وتبيع هذه النفايات.. تعلّم سريعاً كيف يسوق ما يلقّطه من رزق بوسائل شتى، إلى الأسرة الكبيرة، يطعم الأفواه القاصرة التي تنتظره دون سواه ليقيمها على الحياة، ولن يتذوّق لقمة واحدة قبل أن يزجي لهم الكفاية.. وتعلّم فوق ذلك كله كيف يهرب من دوريات مكافحة التسول، والتشرّد.. تعلّم كيف يقبل الحياة ويختصر مسافات السؤال عن قلة الحظ وقلة فهم الآخرين لنا إلى آخر القائمة التي نتعذّب في أتونها كل لحظة لأننا.. عقلاء.. وهكذا مضى به العمر كائناً وسط دوّامة تدور يوماً بعد يوم حتى تشكّل في قلب الصورة مكمّلاً لهيكل المكان المزدحم، إلى جانب مجموعة ليست قليلة من المعوقين عقلياً وجسدياً تزيد عدداً لسبب ما في مثل هذه الأحياء المغيّبة.. كان دائم الابتسام، يمتلك بين جوانحه روحاً حلوة ووديعة، يطرب للكلمة الرائقة ويحس بالدعابة ويستسيغها.. يبدو أليفاً محبّباً ودوداً وهذه الصفات قرّبته إلى قلوب الناس الذين عاشروه وعرفوه، وأسهمت إلى حدّ كبير في ترسيخ صداقة حميمة بينه وبين عبد القادر صاحب الشاحنة الصغيرة ذات اللون الأخضر الداكن والعجلات الثلاث والذي يقيم أيضاً في بيت إلى جانب بيت ياسر في الزقاق ذاته.. ولعل الاستثناء الوحيد في علاقاته الطيبة مع الآخرين، تلك العلاقة الموتورة بينه وبين (أبو راشد) بائع الشاورما الذي ضربه عندما تجرأ والتقط علبة كولا فارغة من أمام دكانه.. يومها ابتلع ياسر غضبه، وأخرج من كيسه الكبير المعلّق على ظهره علبتين فارغتين وضعهما بهدوء أمام "أبو راشد" وحين ابتعد عنه، أنزل الكيس الذي يحمله، وصرخ بصوت صبّ فيه جام غضبه: - أبو راشد يا ابن…….. ثم ضحك بسخرية، حمل كيسه وهرب، يقفز مثل أرنب.. ومنذ ذلك اليوم اتسعت بينهما فجوة الجفاء، وتحوّلت إلى كراهية متبادلة كنت أحسّها وألمسها من نظرات ياسر وحرصه على الابتعاد قدر ما يستطيع عن خطوط التماس بينهما.. وكان عبد القادر على النقيض، يصطحبه إلى معظم الأماكن التي يقصدها في جولة عمله اليومية المقتصرة على نقل حمولات من بضائع مختلفة من مكان إلى آخر.. يحبه وينقذه من مضايقات الأطفال والكبار أحياناً.. مؤكداً أكثر من مرة على تفوق ياسر عليهم جميعاً (على الأقل) بما يجري في شرايينه من دم زمرته نادرة قلّما يحمل مثلها الكثيرون.. وكان ياسر يبادله الحب، يرتاح إلى رفقته ويعيش أحلى ساعات عمره وأقصى مشاعر سعادته عندما يركب واقفاً في صندوق الشاحنة السريعة التي تجعل الريح تضرب وجهه، وتعبث بشعر رأسه ولحيته المهملة الكثيفة، وتنفخ الثوب الفضفاض الذي يرتديه ويحزمه من وسطه بخيط فوق قمّة كرشه.. ذهلت عندما رأيته يجلس القرفصاء أمام باب بيته حزيناً كما لم أره من قبل.. يدفن رأسه بين راحتيه، ويعتصر دمعة تأبى مغادرة مآقيه.. ما أن رآني حتى هب واقفاً، نظر إلي بحنان جم وضمني بين ذراعيه القصيرين وابتسم بفرح طفل.. سألته أحاول إخراجه من موجة الحزن التي تجتاحه.. - سمعت أنك تفتّش على دليل الهاتف.. لوى رأسه بحسرة وتمتم.. - لم يعد الأمر مهماً.؟ ثم نظر في وجهي وأردف. - دليل الهاتف فيه ألف رقم.. كلها أرقام الحكومة.. - الحكومة مرة واحدة.. - أنت لا تعرف الحكومة.؟ هربتُ منهم، جاؤوا أكثر من ألف شرطي في سيارة.! فتح عينيه بدهشة وتابع على وتيرة الحماس ذاتها: - حبسوا كل الناس.. وأنا هربت.. ركضت وركضت حتى وصلت الزقاق.. وضحكت عليهم.؟ ضرب على صدره بحسرة كأنه تذكّر أمراً مهماً وتمتم بحزن: - سرقوا كيساً فيه أغراض بألف ليرة.. - من.؟ الحكومة.؟ نظر إلي باستخفاف وضرب بيده على عرق نافر في ساعد يده الأخرى وأجاب باقتضاب: - لم يعد الأمر مهماً.. في ذلك الصباح الباكر انطلق ياسر مع عبد القادر في الشاحنة ذاتها لنقل صناديق تحتوي على أطعمة مختلفة إلى أحد المتنزّهات القريبة من المدينة.. وهناك اكتشفت عينه الخبيرة بحكم العادة عدداً لا يستهان به من علب الكولا الفارغة ملقاة بين الطاولات، فاندفع يلتقطها ويدسّها واحدة بعد الأخرى في كيسه الكبير.. وفي طريق العودة توقفت الشاحنة أمام بيت يشبه القصر حوله حدائق غناء وأشجار باسقة.. ثم تتالت الأحداث بسرعة غير متوقعة فقد أخذته سيدة (يبدو أنها كانت في انتظاره) متأنقة وعلى قدر من الجمال، ومضت به إلى داخل البيت، غاب فيه أكثر من ساعة، وعندما خرج كان يحمل بين يديه كيساً أصفر اللون، فيه كثير من الخبز واللحم، وقطعة قطن طّبي ملتصقة على عرق نافر في ساعده الأيسر.. قالت السيدة وهي ترافقه إلى الباب الخارجي: - كلما طلبناك ستحصل على كيس مثل هذا، وكلما احتجت شيئاً.. أي شيء، لا تتردد بالاتصال بنا.. نحن الحكومة.. حمل ثروته المعبأة في الكيس الأصفر وكأنه امتلك دنيا جديدة، وركنه بحرص بالغ في زاوية أمينة من صندوق الشاحنة.. قال له عبد القادر: - لك أن تفرح.. ربحت كيساً فيه ألف ليرة.! لكن فرحه الكبير لم يدم طويلاً فقد لاحقته لحظة ولوجه ذلك السوق الضيق مجموعة من الرجال المكلّفين قمع المخالفات ومكافحة التسول.. شدّ جلبابه الطويل وانطلق بكل ما أوتي من قوة بين الأزقّة والزواريب، ألقى كيس النفايات الكبير المعلّق على ظهره، وقبض بإصرار على الكيس الأصفر وهو يركض هارباً.. يتعثر تارة بخطواته المتخبطة، وتارة بأكتاف وأقدام الناس المتزاحمين في السوق.. وقد فوجئ بأبي راشد يغلق أمامه الطريق، ويفتح ذراعيه للإطباق عليه، ولم يجد إلا أن يقذفه بالكيس الأصفر الذي يحمله مغتنماً فرصة المفاجأة ليتجاوزه وينطلق من جديد بقوة وعزم.. في لحظة الانعطاف الأخيرة حانت منه التفاته إلى الوراء، ليشاهد بحزن كيسه الأصفر يغتصب بين أيدي المطاردين.. دخل الزقاق الضيق الأخير ونجا.. تراكمت أمام عينيه صور كثيرة ومختلطة وهو يطوي وجهه بين يديه، يجلس القرفصاء ويحبس دمعة كادت تفيض من مقلتيه.. تذكّر في اللحظة نفسها تفاصيل الوجوه التي طاردته واغتصبت كيسه الأصفر.. واكتشف أنها ذات الوجوه التي سرقت بعضاً من دمه النادر.. ابتسم ببلاهة، وأرسل ذراعيه القصيرين في الهواء، وراح يقفز مثل عصفور.. ولم يلبث أن توقف فجأة عن ممارسة حركات مضحكة ليس لها معنى.. ربط كيساً جديداً كبيراً إلى ظهره، وانطلق يبحث في حاويات القمامة عن رزق أسرة تنتظره دون سواه.. كان قد وصل إلى نهاية الزقاق الضيق.. نظر إلي من بعيد ورفع يديه في الهواء كأنه يقول: - لم يعد الأمر مهماً..؟ عندما غادرت متجري في المساء، وسلكت زقاقاً يطل آخره على ساحة كبيرة تقود إلى عالم لا يمت بصلة إلى عالم المنطقة التي يعيش فيها ياسر مع من يعيش. شبّه لي أنني رأيت عبد القادر وأبو راشد، يجلسان في صندوق شاحنة من ثلاث عجلات أخضر داكن يأكلان بنهم وتلذذ ما تبّقى من فتات لحم انتزع من قاع كيس أصفر.