مع الشاعر مصطفى عكرمة
دعوة الى الأصالة والحب
ويمضي العمر....يمضي العمر ..عالم من الورق...رحيل حثيث وراء حبر الطباعة والكلمات...وهذه دمشق الفيحاء تشهد خطوات الفتى القادم من (بابنا) من (الحفة) من جبال اللاذقية الى ضفاف بردى!..
أطياف تحلق في سماء الرؤى، والأشواق تضج في حنايا النفس، ومصطفى عكرمة ماضٍ الى الشام، عيناه الدافئتان تحلمان بموطىء قدم، وهو على موعد مع الوظيفة المتواضعة التي سعى اليها، في الاذاعة والتلفزيون، عيناه تتسلقان جبل قاسيون، هاهنا مقر عمله، هاهنا يبدأ في تشكيل الحلم الذي راوده!!..
أربعون عاماً أو تزيد وهو يشبع رغبته الملحة التي طالما أرقته، ان يكون له شيء مهم، شيء متمم لحياته!..أربعون عاماً وهو يركض من محطة الحجاز، الى شارع الارجنتين، الى جسر فكتوريا، الى المرجة، الى بوابة الصالحية، والكلمات أكلت من عمره، والمطبعة نالت من جهده، وهو يذود بكل ما يستطيع عن الشعر الأصيل!!.أربعون عاماً وهو ماض في ركضه المتواصل الدؤوب، يرفع إلينا اشعاره، ويترنم بقصائده وأناشيده..نهر صغير يتدفق..
نهر صغير يفيض بهدوء حباً وخصباً وحناناً..
لم يكن المكان الذي ضمنا ذلك الصيف البعيد يتسع لأكثر من ثلاثة، مصطفى وأنا والصديق المشترك، جلسنا متجاورين متقاربين، والمكتب الذي انطلق منه كان صغيراً جداً، بقطر الكشتبان، خلف مبنى البريد، قريباً من محطة الحجاز، فتنا يومئذ بمصطفى عكرمة وهو يحدثنا عن مشروعه الشعري، تسلقت أنظارنا جبل قاسيون وهو يشير بإصبعه الى هوائي التلفزيون، يدلنا من نافذة المكتب على مكان عمله!!.العصافير الصغيرة التي رافقته صارت نسوراً...والادباء الصغار الذين يقرؤون معه أبجدية الحروف غدوا كباراً..
صارت الأبجدية كتاباً، وديوان شعر...صارت مطبعة تهدر، وكتباً توزع وتنشر..صارت الأبجدية عالماً وحياة ودنيا واعدة!!.
ونهر بردى شهد وقع خطوات مصطفى عكرمة..
كان يدلف الى دار الثقافة في شارع الارجنتين، ساقته قدماه الى (مدحة عكاش) الذي كان ملء السمع والبصر، شجيرات النارنج والكباد تحييه، والبركة الصغيرة تثرثر في مودة، هذا شاعر على الطريق، ينبوعه يترقرق في عذوبة ورقة، (بابنا) تنهض بسحرها وتوقها في عينيه الملونتين، بأطياف جبال الحفة، وطلات(صهيون) وامتداد البحر الأزرق الشفيف، مصطفى عكرمة صار مفتوناً بالحرف المتوهج، مشدوداً كوتر الى الأصالة، الى العروبة، الى الاسلام، يردد أشعار المتنبي، ويتغنى بأبي فراس الحمداني وبدوي الجبل، وعمر أبي ريشة، ونزار قباني، ومحمد إقبال، وأحمد محرم، عمر بهاء الدين الأميري، يحلم بالشعر النبيل الأصيل، أخذته المنابر اليها، أخذته صفحات الجرائد، وقد ظل اسمه يتصدر واجهة (الثقافةالاسبوعية) ردحاً من الزمن..!..
أيتها البلاطات الحجرية في شاع الارجنتين، هل تذكرين فتاك الجميل الذي كان ينطلق بأحلامه وأشعاره يريد ان يدق بوابة الدنيا، يريد أن يقوض مملكة الظلام والغموض والعبث، وهذه قصائده منجمة في الكتب المدرسية، هذه أشعاره يلثغ بها الأطفال على مقاعد الدراسة، هذه أناشيده وابتهالاته المؤمنة، قوس قزح معلق بين الارض والسماء، تجذب اليها المريدين والغيورين على أم اللغات، هذه غراسه الصغيرة صارت أشجاراً، وهو ما يزال يؤصل في مشروعه الشعري فرحة الانتماء الى دوحة الثقافة العربية العريقة، يؤصل للطاقات الحبيسة حتى تتفجر ضوءاً وبرقاً في الزمن الرديء..لم يكن مصطفى عكرمة في مسيرته الشعرية الا مبدعاً يحب الجمال، جمال الروح لا جمال الجسد:
فلها بعينيك ابتداء واختزال
ورأيت روح الحسن منها أشرقت
من سحر حالمة متممة الخصال
أحببت فيها ما تصبى مهجتي
قالت تعال ولم تكن تعني تعال
الله ما أشهى وأروع بسمة
- وهو يصون قلبه الآمن ما استطاع عن الهوى ، وهذه زفراته تطرب العفاة الأباة..و.. :
هي للروح والاباء نشيد
توقظ الحب في الفؤاد الحرون
-والشعر حبه في دمه:
ياشعر حبك في دمي متجدد
والحب أين الحب أين نعيمه؟
وبرغم ما ألقى فأنت محبب
إن لم يكن نشدو به ونشبب
ودعوته دعوة مخلصة الى الحب، لا يتعصب ولا يتطرف، لأنه ثروته الحقيقية، حتى انه يتماهى في رؤيته الشعرية مع الحق، مع الايمان، مع حب الوطن..
ولأنت لولا الحب لولا ناره
فقلت يا زوجتي والحب ثروتنا
ما كنت يوماً في المسامع تعذب
حسبي من العمر ان نحياه أحبابا
* وفي سحبة صوفية، وتجل ناهض يقول:
أمشي بلا خطو وأهرب قاعداً
وتشولني وتخطني أحلامي
وبلا جناح كم صعدت محلقاً
لأرى بأني ما برحت مقامي
أهوى فلا أقوى وأعشق صامتاً
وأدان لكن دونما آثام
-ص74- قصيدة أنوي المسير
أما المؤمنون الصالحون فهم:
المؤمنون أحبة لا فرق في
جسد على بعد الهوى المترامي
يسعى الجميع على الجميع كأنهم
السعي الذي فيه
الحب (حب الناس) والآمال والـ
التنافس للغد البسام
بل إنه يعيش للحب ويسعى في الحياة من أجل وحدة الحب، ووحدة الوطن، وحب الأمة، وهؤلاء الطغاة في العالم لا يؤرقهم الا ان يستيقظ الحب في الناس، ويرتفع شعاراً وممارسة، وحينئذ تنتصر إرادة الشعوب، ويهزم المتسلطون!!!.
يعلم الحب أنني عشت للحب
وماز لت فاسألي الحب عني!!
جهلت يا طيف ان الحب وحدنا
ما الحب ان لم أكنه أو يكون أنا
والحب..
أنى يسر تند الدروب وتنشر النعمى ظلالي
و..الناس تبسم لي وتكرمني فهم أهلي وآلي
والكون أحسبه لآلىء كله..ولي اللآلي
ومصطفى عكرمة يصرح بكل اعتداد ان الحب هو الحقيقة، هو الغد، هو المستقبل المأمول والآتي المنتظر:
نحن الحقيقة، نحن الحب، نحن غد
ولا يهمك ما قالت أعادينا
نوزع الحب في الدنيا ونزرعه
فيورق الصخر ان مسته نجوانا
-ص205- الحرف
ويتجذر الحب في ضمير الشاعر، يتجذر حب الناس والوطن والأمة في دعوة سامية تصدر عن قلب ولهان، يتوق الى الحرية، الى الغاء الحواجز والفواصل، الى تحرير الانسان من عبودية الانسان، من الطغاة الظالمين، المتنفذين!!..
حبي الحب ان أكون اذا نادى
منادي الجهاد أول فاد
حبها حب أمتي ما استراحت
من جهاد الا حبت لجهاد
هكذا حبها تسامى بقلبي
وشعوري وصبوتي واعتقادي
أنا أفدي حبي بروحي وقلبي
وبحبي أفدي حماة بلادي
-ص135-
درب المحب الى الأحباب مختصر
فاسلك بقلبي سبيل الحب يا سفر
فكل من أخلصوا في الحب هم رحمي
وبينهم كم يطيب الأنس والسمر
أسلمت للحب والأحباب ناصيتي
فما اعتراني أسى يوماً ولا ضجر
أليس بالحب كل الرسل قد بعثوا
أليس بالحب والاحسان قد نصروا
بالحب نعبد من بالحب أوجدنا
وبالمحبة كل الذنب يغتفر
بالحب ليس بغير الحب من أمل
في ان يزحزح عن انساننا الخطر
-ص195-الحب والسيف
ثم يربط الحب بالايمان، بالعدل، بالمرحمة..
من لم يحب أخاه حب مهجته فإن ايمانه قد شابه الكدر
ويطلق مصطفى عكرمة نداءه الأخير، علام لا نحيا على الحب، علام لا نلتقي على المحبة والوئام، إلام يبقى الحب فينا نائماً، لم لا نصحو من رقدتنا الطويلة..
علام لا نحيا على الحب الذي
فينا يفجر للجميل عزائما
-ص183- قصيدة علام
وبالحب ندحر الطواغيت، ونزيح الأحقاد والأضغان، وننشر السلام والأمان في الأرض..
يا قوم عيسى لم يكن عيسى أخا
حقد ولا حرب ولا شرب الدما
يا قوم عيسى ان عيسى مرسل
بالحب كي يبقى التسامح حاكما
تعالوا الى كلمة سواء..أيها المحبون، أيها العاشقون..ايها المبدعون هذا مصطفى عكرمة يدق بوابة الدنيا، يحيل مداد القلم نوراً أخضر...ويرفع راية الحب والتواصل الحميم والاخاء، هذا مصطفى عكرمة يعلن دعوته المخلصة الى الأصالة والحب والشعر النبيل..
نزار نجار
جريدة البعث
العدد: 13261 - تاريخ: 2007-10-20