سعيد بنعياد
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول العبد الفقير إلى مولاه، سعيد بنعياد:
هذا الموضوع كان في أصله مجموعة مشاركات،
أجبتُ فيها عن سؤال طرحه أحد الإخوة الأفاضل
في أحد المنتديات اللغوية،
عن الخلاف المتعلق برسم الهمزة
في كلمة (شُؤُون / شُئُون) وما ماثلها.
* * * * *
بسم الله الرحمن الرحيم
إن موضوع الإملاء العربي عموما، ورسم الهمزة خصوصا، موضوع متشعب، ما زال في حاجة إلى تضافر كثير من الجهود، التي تتوخى الإحاطة بِمذاهب القدماء أوّلاً، وتأصيل مختلف الوجوه الواردة عنهم، قبل الترجيح بينها، والحكم بصحة هذا الوجه وضعف ذاك أو خطئه.
والأفضل - في رأيي المتواضع - أن نبتعد عن منطق الإقصاء، ونُقِرّ بجواز الأوجُه الخلافية المبنية على أساس اجتهادي مقبول، ثم نحاول تقليص مساحة الخلاف تدريجيا، إلى أن نصل إلى النتيجة المتوخّاة.
ومن المؤسف أن القواعد الإملائية، في أكثر كتب الإملاء المتداولة، تُعرَض من غير تعليل، وكأنّها وحي مُنَزّل أو مُسلّمات لا تقبل النقاش.
شُئُون) وما ماثلها.
* * (1) * *
فيما يخص كتابة الهمزة، ينبغي أن نعلم أوّلاً أنّها مرت بعدة مراحل، قبل أن تصل إلينا بقواعدها الحالية. فلا بد من استيعاب هذه المراحل، قبل إصدار أي حكم بترجيح هذا الوجه على ذاك.
1- ففي أول الأمر، كانت الكلمات المهموزة تُكتب على لغة أهل التخفيف، الذين كانوا يتخلصون من ثقل الهمزة بإحدى كيفيات التخفيف المعروفة. فكتبت الكلمات المهموزة على لغتهم، مع مراعاة الابتداء والوقف.
فمثلا: (رَأْس) (مُؤْمِن) (بِئْر) (جاءَ)، كُتبت هكذا:
راس * مومں * ٮٮر * حا
(لا نَقْطَ ولا شَكْلَ ولا همزاتٍ)
لأنها تُلفظ في لغة أهل التحقيق هكذا: [رَاس] [مُومِن] [بِير] [جا].
2- ثم ابتُكرت علامة الهمزة (ء)، فوُضعت في موضعها المناسب، دُون تغيير طريقة الكتابة الأصلية:
رَأْس * مُؤْمِن * بِئْر * جاءَ
3- ثم اهتدى بعض المعاصرين، كالشيخ محمد بشير سلمو والدكتور رمضان عبد التواب، إلى قاعدة سهلة ميسّرة لكتابة الهمزة، لا تخرج في مجموعها عن مذاهب القدماء، سمّوها قاعدة (أقوى الحركات).
4- ولكن بعض قواعد كتابة الهمزة تعرضت - في تاريخها الطويل هذا - لتغييرات متعددة، كانت السبب فيما نعانيه اليوم من اختلاف.
* * (2) * *
من الهمزات التي تعرضت طريقة رسمها لتغيير جذري: الهمزة المتوسطة المتحركة بعد ساكن صحيح؛ نحو: (يَزْأَرُ) و(يَلْؤُمُ) و(أَفْئِدَة).
1- فالقدماء لم يجعلوا لها صورة، بل كتبوها هكذا:
ٮرر * ٮلـم * اڡـده
لأنّها تُخفف بحذفها مع نقل حركتها إلى الساكن الذي قبلها، هكذا: [يَزَرُ] [يَلُمُ] [أَفِدَة].
2- وبعد ابتكار علامة الهمزة (ء)، صارت توضع مستقلّةً في موضعها المناسب:
يَزْءَرُ * يَلْـءُـمُ * أَفْـءِـدَة
[المفروض عدم انقطاع الخط
في الكلمتين الأخيرتين]
فالهمزة هنا توضع مستقلّة:
* إمّا على السطر، إن وقعت بعد حرف لا يقبل الاتصال بما بعده؛ نحو: (يَزْءَرُ) (يَدْءَبُ) (يَرْءَبَ).
* وإما على الخط الرابط بين ما قبلها وما بعدها، إن وقعت بعد حرف يقبل الاتصال بما بعده؛ كما يتضح عند تأمُّل كيفية كتابة الكلمات الآتية في المصاحف العثمانية: (يَسْـءَـلُونَكَ) (يَسْـءَـمُونَ) (الْمَشْـءَـمَة) (تَجْـءَـرُونَ) (يَنْـءَـوْنَ) (أَفْـءِـدَةً) [كتبناها بطريقة تقريبية، لتعذُّر الكتابة المطلوبة على الحاسوب؛ إذ المفروض عدم انقطاع الخط الرابط بين ما قبل الهمزة وما بعدها].
3- وفي عصر لاحق، صارت الهمزة المذكورة تُرسم بحرف حركتها، استثقالا لكتابتها مستقلة، ومراعاةً لكون حركتها أقرب الأشياء إليها:
يَزْأَرُ * يَلْؤُمُ * أَفْئِدَة
3- وقد رُسمت كلمة (مَسْـءُـولُونَ) في المصحف الشريف وفقا للقاعدة القديمة، لأن همزتَها متوسطة متحركة بعد ساكن، ومِثلُها كلمة (مَسْـءُـولاً)؛ إذ لا فرق في المصاحف بين الكلمتين.
فالهمزة هنا لا صورة لها في المصاحف العثمانية؛ لكن هذا يعود إلى القاعدة القديمة في كتابة الهمزات المتوسطة المتحركة بعد ساكن صحيح، لا إلى قاعدة (تَوالي الأمثال) خلافا لِما توهّمه كثير من الأئمة الأعلام كالإمام الشاطبي (رحمه الله). وقد نبّه الإمام ابن الجزري (رحمه الله) على هذا الوهم في كتابه (النشر).
وأما في الرسم الحديث، فإن القاعدة الجديدة تقتضي رسم الهمزة واوا، فتُطرح عند ذلك مشكلة (تَوالي الأمثال).
وأما (رَءُوفٌ) و(بِرُءُوسِكُمْ) ونحوُهما، فإن رسمها في المصاحف راجع إلى (تَوالي الأمثال)، والمشكلة مطروحة في الرسم الحديث أيضا.
* * (3) * *
نأتي الأن إلى مسألة (تَوالي الأمثال)، فنقول:
1- كان القدماء يستثقلون اجتماع ألفين، أو واوين ثانيتُهما حرف مد، أو ياءين ثانيتُهما حرف مد، في كلمة واحدة.
فلذلك كتبوا مثلا:
العاوں * رٮاٮٮں
بدلا من: الغَاوُونَ * رَبَّانِيِّينَ.
وهي تُضبط في المصاحف هكذا:
الْغـَاوُونَ * رَبَّانيِّــۧــنَ
ومن الأمثلة القرآنية أيضا: دَاوُود * يَلْوُونَ * يَسْتَوُونَ * الْحَوارِيِّــۧــنَ * الأُمِّيِّــۧــنَ.
وهذه قاعدة عامة في رسم المصاحف، لا تُستثنى منها إلا مواضع معدودة، كـ(يُحْيِيكُمْ) و(عِلِّيِّينَ).
2- هذه القاعدة تصدُق أيضا على ما كان أحد المثلين فيه صورة للهمزة، نحو:
ادم * ٮروسكم * حاطٮں
بدلاً من : أَادَم * بِرُؤُوسِكُمْ * خَاطِئِينَ.
وهي تُضبط في المصاحف هكذا:
ءَادَم * بِرُءُوسِكُمْ * خَاطِـءِـينَ
ومن الأمثلة القرآنية أيضا: رَءُوفٌ * يَـءُـوسًا * مُسْتَهْزِءِينَ * مُتَّكـءِـينَ.
ويتضح من هذه الأمثلة أن الهمزة توضع مستقلّة:
* إما على السطر، إن وقعت بعد حرف لا يقبل الاتصال بما بعده.
* وإما على الخط الرابط بين ما قبلها وما بعدها، إن وقعت بعد حرف يقبل الاتصال بما بعده.
3- غير أن الكُتّاب مالوا، مع مرور الوقت، إلى التخلص من هذه القاعدة على مراحل. ولم تُعامل الأحرف الثلاثة (الألف والواو والياء) معاملة واحدة، وإنّما وقع شيء من التمييز بينها.
* * (4) * *
من التغيُّرات المهمة التي طرأت على طريقة رسم الهمزات: إلغاء إمكانية رسم الهمزة على (مُتَّسَع)، أعني: على الخط الواصل بين الحروف، وكتابة الهمزة في هذه الحالة على (نبرة)، أي: على سِنّ صغيرة تشبه الياء.
وهكذا، صار الذين يستثقلون اجتماع المثلين في نحو: (يَؤُوسًا) و(مَسْؤُول) [في الرسم الإملائي بطبيعة الحال] يكتبون:
يَئُوسًا * مَسْئُول
بدلا من:
يَـءُـوسًا * مَسْـءُـول
وقد أدّى ابتكار مفهوم (النبرة) هذا إلى تشتُّت أفكار كثير من المبتدئين، لعدم تمييزهم بين ما حَقُّه الرسم على (ياء)، وما كان حقُّه الرسم على (مُتَّسَعٍ) فرُسِم على (نبرة).
بل وصلت العدوى إلى المتخصصين، فصِرْنا نقرأ تخريجات غريبة أدى إليها الخلط بين (الياء) و(النبرة)، كقول بعضهم: إن (شُئُون) تُرسم هكذا مُراعاةً لِلهجة بعض العرب الذين يلفظونَها بكسر الشين.
* * (5) * *
قلنا: إن كُتّاب العربية - في تطوّر مواقفهم من قاعدة قلنا: إن كُتّاب العربية - في تطوّر مواقفهم من قاعدة اجتماع المثلين - لم يُعاملوا الألفوالواو والياء معاملة واحدة. فما معنى هذا؟
1- أمّا الألف، فما زال اجتماعها بمثلها مُستثقلا، عند جميع الكُتّاب.
* فكلهم يكتب:
تَسَاءَلَ * تَشَاءَمَ
بدلا من:
تَسَاأَلَ * تَشَاأَمَ
* وكلهم يكتب:
آدَم * مَآرِب * مِرْآةبدلا من :
أَادَم * مَأَارِب * مِرْأَاة
نعم؛ هم مختلفون في نحو: (أَنْشَأَا / أَنْشَآ)، مِن الأفعال المُسنَدة إلى ألف الاثنين. وهذا موضوع آخر.
2- وأمّا الياء، فصار اجتماعها بمثلها سائغا مقبولا عند الجميع.
* فكلهم يكتب:تَزْيِين * رَبّانِيّينَ * حَوَارِيّينَ
* وكلهم يكتب:
رَئِيس * زَئِير * مُسْتَهْزِئِينَ
مع أنّه كان بإمكانِهم كتابتُها هكذا:
رَءِيس * زَءِير * مُسْتَهْزِءِينَ
مع أنّه كان بإمكانِهم كتابتُها هكذ
وإلى عهد قريب، كانت كُتيّبات الإملاء تُجيز طريقة الكتابة هذه [يُنظر مثلا: (المُفْرَد العَلَم، في رسم القَلَم) للسيد أحمد الهاشمي)].
* وكلهم يكتب:خَاطِئِينَ * مُتّكِئِينَ
هنا، حتّى لو أرادوا كتابة الهمزة مستقلّة، فإنّهم سيُضطرّون إلى كتابتها على نبرة، بعدما أُلغِيَ مفهوم (الهمزة المكتوبة على مُتَّسَع)، وبذلك يقعون في مِثْلِ فرّوا منه، إذِ النبرةُ لا تختلف في شكلها عن الياء. فلا مناص إذَنْ من اجتماع الياءَيْن.
* وكلهم يكتب:
بَرِيئِينَ * مُسِيئِينَ
هنا أيضا، لا مناص من اجتماع الياءَيْن أو الياءات، لِما ذكرناه آنِفًا.
* والغريب في الأمر: أنّ اجتماع الياءَيْن بقي مُستثقلا في باب الألف الليّنة، إذ يكتب الجميع:العُلْيَا * اسْتَحْيَا
بَدَلاَ من:
العُلْيَى * اسْتَحْيَى
وذلك استثقالا لاجتماع ياءَيْن.
3- وأمّا الواو، فلنا معها لقاءٌ قريب، بإذن الله.
* * (6) * *
رأيْنا أنّ اجتماع المثلين ما زال مستثقلا في حالة الألِفَيْن، ولكنه أصبح مستساغا مقبولا في حالة الياءين.
ومِن ثَمّ، يتعذر قياس حالة الواوين على هاتين الحالتين.
فليس لمن يكتب (مَسْئُول) أن يحتجّ على خصمه قائلا: (لماذا لا تكتب (تَسَاأَلَ)؟)؛ لأن لخصمه أن يردّ عليه: (ولماذا لا تكتب: (مُسْتَهْزِءِينَ)؟).
وليس لمن يكتب (مَسْؤُول) أن يحتجّ على خصمه قائلا: (لماذا لا تكتب (مُسْتَهْزِءِينَ)؟)؛ لأن لخصمه أن يردّ عليه: (ولماذا لا تكتب: (تَسَاأَلَ)؟).
* * (7) * *
فيما يخص اجتماع الواوين، يمكن القول: إنه في المنزلة بين المنزلتين، أو في طريقه من الاستثقال إلى عدم الاستثقال؛ ولذلك يقع الخلاف في شأنه.
1- ففي حالة اجتماع واوين، أولاهما مضمومة والثانية مدية، نجد قاعدة الحذف مطّردة في رسم المصاحف؛ نحو: دَاوُود * الْغاوُونَ * يَلْوُونَ.
أما في الرسم الإملائي، فاستُثنيت (ذَوُو) لئلا تلتبس بالمفرد (ذُو)، واستُثني نَحْوُ (مَدْعُوُّونَ) مِمّا كانت واوه الأولى مشددة، ثم استُثنيَ نحْوُ (الْغَاوُونَ) و(يًلْوُونَ) بحُجّة أن بين الواوَيْن فاصلا مقدّرا هو الياء المحذوفة.
وبقي الخلاف فيما عدا ذلك:
* فبعضهم ما زال يحذف الواو الثانية فيما تبقى من الكلمات، نحو: (دَاوُد) و(طَاوُس) و(هَاوُن) و(رَاوُق) و(نَاوُس). وكلها تُلفظ بواوَيْن.
* وبعضهم لا يحذفها إلا في (دَاوُد) و(طَاوُس)، لشهرتِهما.
* وبعضهم لا يحذفها إلا في (دَاوُد)، لأنه الأشْهَرُ.
* وبعضهم لا يحذفها مُطلَقا، بحجة أن حذف الواو الثانية في الرسم قد يُوهِمُ القارئ أنّها محذوفة في اللفظ أيضا (إذ لا توجد هنا أيُّ واو صغيرة تُرشد القارئ إلى النطق الصحيح، كما هو الشأن في ضبط المصحف).
1- وفي حالة اجتماع واوين، أولاهما صورة لهمزة مضمومة والثانية مدية، نجد قاعدة الحذف مطّردة في رسم المصاحف؛ نحو: بِرُءُوسْكُمْ * رَءُوفٌ * يَـءُـوسًا * وَلاَ يَـءُـودُهُو. أمّا (مَذْءُومًا) و(مَسْـءُـولاً)، فليستا - في رسم المصاحف - من هذا الباب، كما قلنا سابقا.
وكان بعض علماء الضبط قد اقترح إضافة الواو الأولى بِلَون أحمر (أو بحجم صغير)، ووضع علامة الهمزة فوقها؛ ولكن استقرّ العمل على وضع علامة الهمزة مستقلة، على السطر أو فوق المُتَّسَع، كما سبق بيانُه.
أما في الرسم الإملائي، فإن لِكُتّاب عصرنا مذهبَيْن:
* مذهب يرى استثقال اجتماع الواوين، فيكتب: بِرُءُوسِكُمْ * رَءُوفٌ * يَئُوسًا * وَلاَ يَئُودُهُ، وكذا: مَذْءُومًا * مَسْئُولاً، فهُما - في الرسم الحديث - من هذا الباب.
* ومذهب يرى عدم استثقال اجتماع الواوين، فيكتب: بِرُؤُوسِكُمْ * رَؤُوفٌ * يَؤُوسًا * وَلاَ يَؤُودُهُ، وكذا: مَذْؤُومًا * مَسْؤُولاً.
وأرى أن الأفضل الابتعاد عن الإقصاء، وإجازة المذهبين معا، فلكل منهما حججه، وإن كان من الواضح أن تطوُّر الأُمور يسير في صالح المذهب الثاني، لعدة أسباب، لعلّ أبرزها التعقيد الذي أحدثه ابتكار مفهوم (النبرة)، والذي اضطَرَّ أصحابَ المذهب الأول إلى التمييز بين نحوِ (رَءُوف) ونحوِ (يَئُوسًا)، وهذا قد يَشُقُّ على كثير مِمّن لا يميزون بين (النبرة) و(الياء).
هذا ما تيسّر لي قولُه في هذا الباب، ومن المؤكَّد أن بعض النُّقط ما زالت تحتاج إلى شرح وتوضيح، ولكن (ما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك جُلُّه). فأكتفي بهذا القدر.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.