الثقافة والعلوم الاجتماعية
سلام مرادإن العلوم الاجتماعية وعلى الرغم من حرصها على الاستقلالية الإبيستيمولوجيا، ليست مستقلة تماماً عن السياقات الفكرية واللغوية التي تبني في مجراها ترسيماتها النظرية والمفهومية.
ومما تقدم فإنه يجب دراسة تطور مفهوم الثقافة عبر تطوره التاريخي، وهو تطور يرتبط بالتكون الاجتماعي للفكرة الحديثة عن الثقافة.
كما أن هذا التكون الاجتماعي يكشف أن هناك تباينات اجتماعية وقومية تكمن وراء الاختلافات الدلالية المستَندة للتعريف الصائب الواجب إضفاؤه على الكلمة؛ لذلك كانت صراعات التعريف هي في الواقع صراعات اجتماعية.
ـ تطور كلمة «الثقافة» في اللغة الفرنسية.
يعتبر القرن الثامن عشر فترة تكون معنى الكلمة الحديث.
قبل هذا التاريخ أي قبل عام 1700م. كانت قد ظهر معاني للثقافة في أواخر القرن الثالث عشر مأخوذ من اللغة اللاتينية ويعني العناية الموكولة للحقل والماشية. وذلك للإشارة إلى قسمة الأرض المحروثة (cultura).
في بداية القرن السادس عشر، كفت الكلمة عن الدلالة على حالة (حالة الشيء المحروث)، لتدل على فعل هو فلاحة الأرض، ولم يكون المعنى المجازي إلا في منتصف القرن السادس عشر، إذ بات ممكناً أن تشير كلمة «ثقافة» حينذاك، إلى تطوير كفاءةٍ، أي الاشتغال بانتمائها.
ويعتبر القرن الثامن عشر هو القرن الذي بدأت فيه كلمة «ثقافة» تفرض نفسها في معناها المجازي تم إدراجها في قاموس الأكاديمية الفرنسية (Dictionnaire de Lácadémie Francaise).
ظلت «الثقافة» في القرن الثامن عشر مستخدمةً في صيغة المفرد، وهو ما يعكس كونية الفلاسفة وإنسانيتهم، إذ الثقافة هي أخص ما يختص به الإنسان (نوعاً)، تجاوزاً لكل التمايزات، شعوباً وطبقات.
انخرطت «الثقافة» في أيديولوجيا الأنوار، إذ اقترن اللفظ بأفكار التقدم والتطور والتربية والعقل التي احتلت مركز القلب من فكر العصر.
كانت «الثقافة» حينها، قريبةً من كلمة أخرى جازت نجاحاً كبيراً (أكبر مما حازته كلمة «ثقافة») ضمن معجم القرن الثامن عشر الفرنسي وهي كلمة «حضارة».
الكلمتان تنتميان إلى ذات الحقل الدلالي وتعكسان التصورات الأساسية. قد يتم الجمع بينهما، أحياناً، ولكنهما ليستا مترادفتين تماماً، إذ تستحضر «الثقافة» التقدم الفردي، وتستحضر «الحضارة» التقدم الجماعي.
انتصار مفهوم الثقافة
تطور مفهوم الثقافة في جميع البلدان، لكن لم يكن التطور متماثلاً في جميع البلدان التي ازدهر فيها مفهوم الثقافة.
كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر الدول التي تطور فيها مفهوم الثقافة، فقد شهدت تطوراً ملحوظاً في جميع المناحي المعرفية، وبالتالي تكرست المفهوم العلمي للثقافة، مما جعل الكلمة تُتبنى سريعاً بمعناها الأنتروبولوجي في الاختصاصات المجاورة، وخاصة في مجال علم النفس وعلم الاجتماع.
الولايات المتحدة الأمريكية تختلف عن أوروبا، من حيث السياقات، فالولايات المتحدة الأمريكية بلد مهاجرين ذوي أصول ثقافية مختلفة، ففي الولايات المتحدة تؤسس الهجرة الأمة، وبالتالي تتعرف الأمة على ذاتها باعتبارها متعددة الأجناس.
تتأسس الأسطورة القومية الأمريكية التي تكاد شرعية المواطنة فيها ترتبط بالهجرة، إذ الأمريكي مهاجراً وهو ابن مهاجر، على نموذج طريق للاندماج القومي يقبل بتكوين جماعات إثنية مخصوصة.
وغالباً ما يتزاوج انتماء الفرد إلى الأمة مع ارتباطه المعترف به بجماعة معينة، ولذلك نعت البعض هوية الأمريكيين بأنها هوية «همزات الوصل»، إذ يمكن أن يكون الواحد منهم بالفعل «الإيطالي ـ الأمريكي» أو «البولوني ـ الأمريكي» أو «اليهودي ـ الأمريكي» الخ...
وقد تمحض عن ذلك ما أمكن اعتباره «فدرالية ثقافية» تسمح، في الحيز العام، بالتعبير عن ثقافات مخصوصة لا تكون، مع ذلك، مجرد إعادة إنتاج خالصة أو بسيطة لثقافات المهاجرين الأصلية.
بل أقلمة لها وإعادة تأويل وقف المحيط الاجتماعي والقومي الجديد. وبرأي دوني كوش صاحب كتاب مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية أن الأسطورة الأمريكية تؤدي إلى اعتبار أن الهنود، وهم تعريفاً ليسوا مهاجرين، والسود، وهم من كانت هجرتهم قسرية، ليسوا أمريكيين تماماً.
ليفي شروس والتحليل البنيوي للثقافة (Lévi- strauss) لم تستقطب الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكية في فرنسا أتباعاً كثيرين، غير أن موضوع الكلية الثقافية أعيد تناوله، وإنْ من منظور جديد، من قبل كلود ليفي شروس الذي يعرف الثقافة كما يلي: «يمكن اعتبار كل ثقافة مجموع أنساق رمزية تتصدرها اللغة وقواعد التزاوج والعلاقات الاقتصادية والفن والعلم والدين. كل هذه الأنساق تهدف إلى التعبير عن بعض أوجه الحقيقة الطبيعية والحقيقة الاجتماعية، وأكثر من ذلك إلى التعبير عن العلاقات التي ترتبط بها كل من هاتين الحقيقتين بالثانية، وتلك التي ترتبط بها الأنساق الرمزية ذاتها بعضها ببعض».
كان ليفي شروس على معرفة جيدة بأعمال زملائه الأمريكيين، فقد أقام طويلاً في الولايات المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها من عام 1941 إلى عام 1947، وتشبع بأعمال الأنثروبولوجيا الثقافية، وخاصة ما كان منها لبّوا وكروبر وبينيدكت.
اقتبس ليفي شروس أربعة أفكار جوهرية من روث بينيدكت: أولها أن كل الثقافات تتحد بنموذج (pattern)، وثانيهما أن الأنماط الثقافية الممكنة معدودة العدد، وثالثها أن دراسة المجتمعات «البدائية» هي أفضل طريقة لتحديد الترابطات الممكنة بين العناصر الثقافية، وآخرها أنه يمكن دراسة هذه الترابطات في حد ذاتها، في استقلال عن الأفراد المنتمين إلى المجموعة التي تظل هذه الترابطات، بالنسبة إليها، لا واعية.
الثقافة والهوية
في الفترة الأخيرة ازداد استعمال مصطلح «الهويّة» مما أدى إلى أن يصفه بعض المحللين بأنه موضة، وبالتالي يجب معرفة ما تعنيه «موضة» الهويات.
فهناك إدانة دائمة لأزمة الثقافة ولأزمة الهوية، وبالتالي هل علينا أن نضع تطور هذه الإشكالية في إطار ضعف نموذج الدولة ـ الأمة وتوسع الاندماج السياسي ما فوق القومي وشكلٍ ما من عولمة الاقتصاد؟.
وبالتالي يصل الأستاذ دوني كوش الباحث الاثنولوجي في جامعة السوربون «إن الموضة الهوياتية الحديثة هي استمرار لظاهرة تمجيد الاختلاف التي ظهرت خلال السبعينيات والتي كانت من فعل مدارات أيديولوجية كثيرة التنوع، لا بل متناقضة، سواء أكانت تمجد المجتمع المتعدد الثقافات، من ناحية، أم كانت على عكس ذلك، من باب «ليلزمْ كلٌ منزله حتى يبقى هو هو ذاته».
غير أنه، ولئن كان لمفهومي «ثقافة» و«هوية ثقافية» وإلى حد كبير مصير مترابط، فإنه لا يمكن المطابقة بينهما بلا قيد ولا شرط. يمكن للثقافة، عند الاقتضاء، أن تكون من دون وعي هوياتي، في حين يمكن للاستراتيجيات الهوياتية أن تعالِج، بل أن تعدل ثقافة ما بحيث لا يبقى لها الشيء الكثير مما تشترك فيه مع ما كانت عليه قبلُ.
إن الثقافة تخضع، إلى حد كبير، لصيرورات لا واعية، أما الهوية فتحيل على معيار انتماءٍ واع، ضرورةً، إذ هو ينبني على تعارضات رمزية.
تحيل مسألة الهوية الثقافية، منطقياً وأولاً، على مسألة أكثر اتساعاً هي مسألة الهوية الاجتماعية، والتماهي أحد مكوناتها، الهوية بالنسبة إلى علم النقص الاجتماعي: أداة تمكن من التفكير في تمفصل النفسي والاجتماعي لدى الفرد، إنها تعبّر عن محصّلة التفاعلات المتنوعة بين الفرد ومحيطه الاجتماعي، قريباً كان أو بعيداً، إن هوية الفرد الاجتماعية تتميّز بمجموع انتماءاته في النسق الاجتماعي، الانتماء إلى صنف جنسي وإلى صنف عمري وإلى طبقة اجتماعية وإلى أمة، الخ... الهوية تمكّن الفرد من أن يحدد لذاته موضعاً ضمن النسق الاجتماعي وأن يُحدِّد الآخرون موضعه اجتماعياً على أن الهوية الاجتماعية لا تتعلّق بالأفراد وحسب، ذلك أن لكل مجموعة هوية تتناسب مع تعريفهما الاجتماعي، ذلك التعريف الذي يمكّن من تحديد موقعها ضمن الكل الاجتماعي، الهوية الاجتماعية استدماج وإقصاء، في آن معاً: إنها تحدِّد المجموعة (يُعتبرون أعضاء في المجموعة من كانوا متماثلين، من ناحية ما) وتُميزّها عن المجموعات الأخرى (التي يختلف أعضاؤها عن الأولين، من الناحية ذاتها). إن الهوية تبدو، من هذاا لمنظور، ككيفية تضيفٍ للتمايز، نحن وهم قائمة على الاختلاف الثقافي.الكتاب: مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية
الكاتب: دنيس كوش ـ ترجمة: منير السعيداني
الناشر: المنظمة العربية للترجمة بيروت 2007م.