قصة الدعارة

11\2
بقلم( محمد فتحي المقداد)


لا تزال البشرية تعاني منذ بدء الخليقة من المشاكل التي تتشابه أسبابها وطرقها, وعند انحدار الذوق البشري إلى حمأة الجسد, فجعل من المرأة سلعة تباع وتشرى كأنها المتاع المستهلك.
ومن ذلك انتشار بيوت الدعارة المرخصة في كثير من المدن, ما يلفت النظر في ذلك في مدننا العربية والإسلامية حديثاً. وباستقصاء تاريخ بيوت الدعارة فقد نقلت لنا الكتب التاريخية. أن هناك إشارة إلى العاهرات في النصوص القديمة, وفي الرسوم الهيروغليفية المصرية وفي الكتابات السومرية, وفي العهدين القديم و الجديد.
لكن المهنة لم تنتظم إلا في القرن السادس قبل الميلاد في أثينا, عندما أنشأ المشترع سولون المواخير التي تشرف عليها الدولة, وقام بفرض ضريبة على الاتجار بالجسد, لقي هذا الإجراء ارتياحاً في صفوف رجال الأعمال في أثينا, لأن هذه التجارة كانت محرمة, وصارت شرعية.
وبمجيء الإسلام فقد ركز على القيم الإنسانية والخلقية الراقية وحارب كل أسباب الزنا الذي يشي باختلاط الأنساب, وكرّم المرأة كإنسان وجعل الحساب والعقاب والترغيب والترهيب على أساس الإيمان والتقوى دون النظر إلى الجنس, ولكن الخطاب القرآني جاء شاملاً في قوله تعالى: [ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِين وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ](1) *
[يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] (2)*. كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك و كنّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين ولا يعصينك في معروف طاعة الله ورسوله فبايعهن واستغفر لهن الله عما مضى إن الله غفور بتمحيق ما سلف رحيم بتوفيق ما استئنف. وروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال اخذ في بيعة النساء وهو على الصفا. وعمرُ قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه. وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا, فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً, فقال عليه السلام: ولا يسرقن. فقالت هند إن أبا سفيان رجلٌ شحيح وأني أصبت من ماله هنات, فقال أبو سفيان ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم وعرفها. فقال لها: إنك لهند قالت: نعم, فاعفُ عما سلف يا نبي الله, عفا الله عنك .فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة؟. فقال: ولا يقتلن أولادهن. فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم, وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم .فقال: ولا يأتين ببهتان. فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال :ولا يعصينك في معروف.فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
و بالمقابل في مجتمع أثينا فقد جعلوا العاهرات مراتب فكنّ يصنّفن وفقاً للضرائب التي يدفعنها.أولاً- هناك العاهرات الأقل ثمناً وتدعى ( pone ) وهي عبدة يملكها أصحاب المواخير. والعرب مثلهم مثل الأمم الأخرى فهم ليسوا بمنأى عن هذا الانحدار الخلقي, وقد استنكروا مثل تلك الأشياء, وقد كان ينظر إلى المرأة الحرّة على أنها لا يمكن أن تتعاطى بأفعال الدعارة, وقد قالوا في ذلك: ( تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها). ثانياً- العاهرات التي تجد زبائنها في الشارع وتدعى ( perirpatetike) . وقد كان شائعا في الجاهلية أن هناك بعض النساء يجلسن على قارعة الطريق أو في بيوت تطلّ عليه. تُؤْذِن طُلاَّبَها بقُحابها وهو سُعالها, قيل للبَغِيِّ قَحْبة وأصبح هذا اللفظ مؤشراً لفاعل الرذيلة. ثالثاً - العاهرة التي تأتي في الصدارة من حيث النوعية, والمبلغ الذي يدفع لها وتدعى (hetnifa ) أي الأنثى الرقيقة, وهي ترافق رجال الأعمال في أسفارهم و تتردد إلى المطاعم, وتتمتع بالسيادة المطلقة على أموالها, وتتدخل في حياة المدينة السياسية. وقد شاع كثيراً استخدام كلمة الصديقة أو الصديق على ألسنة الرجال والنساء على السواء, و قد أشار القرآن الكريم لهذا المعنى في الآية: [ مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافحاتٍ ولا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ](3)* يعني أَن يَتِّخِذْنَ أَصدقاء أخلاء يزنون بهن سراً. والخَدِينُ الصديق والأَخْدَنُ ذو الأَخْدانِ وخِدْنُ الجارية صديقها. وما ستكون عليه ماهية سياسة الدولة التي تتدخل فيها العاهرات. والدَّعارَةُ هي الفِسْقُ والداعر هو خائن يعيب أَصحابه دَعِرَ الرجلُ دَعَراً إِذا كان يسرق ويزني ويؤذي الناس, وأَهل الدَّعارَةُ هم أهل الفسادُ والشر, وكذلك يقال للمرأَة الفاجرة عاهِرةٌ و مُعاهِرة ومُسافِحة و عاهَرَها أَتاها ليلاً للفُجور ثم غلب على الزِّنا مطلقاً وقيل هو الفجور. ورجل قَحْبٌ وامرأَة قَحْبة كثيرة السُّعال مع الهَرَم. وقيل هما الكثيرا السُّعال مع هَرَم أَو غير هَرَم و القَحْبة الفاجرة وأَصلُها من السُّعال أَرادوا أَنها تَسْعُلُ أَو تَتَنَحْنَحُ تَرمُزُ به.
وبهذه الجولة في حديقة اللغة, من الفائدة الدلالية والإيحائية لهذه المعاني التي يشار إليها باشمئزاز من أصحاب الذوق العفّة, والمعاني الثلاثة التي تناولناها( الخدن والعاهرة و القحبة) أصبحت مصطلحات بمجرد أن تتلفظ بإحداها فيذهب الذهن دون مناقشة إلى المواخير والقوّادين و الزناة.

---------------------------------
1- الأحزاب35َ
2- الممتحنة12
3- النساء 25