علم البيان

يقول الإمام الخطيب القزويني علم البيان هو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه ودلالة اللفظ إما على ما وضع له أو على غيره والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت أو الحيوان في مفهوم الإنسان أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف أو الضاحك عن مفهوم الإنسان وتسمى الأولى دلالة وضعية وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية وتختص الأولى بدلالة المطابقة والثانية بالتضمن والثالثة بدلالة الالتزام وشرط الثالثة اللزوم الذهني أعني أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما لحصول الخارج فيه لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجة ولا يشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يثبته العقل بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب إما لعرف أو لغيره لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي الخارجي وقد وقع في كلام بعض العلماء ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام وهو بعيد جدا وإن صح فلعل السبب فيه توهم أن المراد باللزوم الذهني اللزوم العقلي لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتى بالدلالة الوضعية لأن السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض وإلا لم يكن كل واحد منها دالا وإنما يتأتى بالدلالات العقلية لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض ثم اللفظ المراد به لازم ما وضع له إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز وإلا فهو كناية ثم المجاز منه الاستعارة وهي ما تبتنى على التشبيه فيتعين التعرض له فانحصر المقصود في التشبيه والمجاز والكناية وقدم التشبيه على المجاز لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة التي هي مجاز
أما القول في التشبية:
التشبيه الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنى والمراد بالتشبيه ههنا ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية ولا الاستعارة بالكناية ولا التجريد فدخل فيه ما يسمى تشبيها بلا خلاف وهو ما ذكرت فيه أداة التشبيه كقولنا زيد كالأسد أو كالأسد بحذف زيد لقيام قرينة وما يسمى تشبيها على المختار كما سيأتي وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه وكان اسم المشبه به خبرا للمشبه أو في حكم الخبر كقولنا زيد أسد وكقوله تعالى ( صم بكم عمي ) أي هم ونحوه قول من يخاطب الحجاج
( أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتحاء تنفر من صفير الصافر )
وكقولنا رأيت زيدا بحرا
وإذا قد عرفت معنى التشبيه في الاصطلاح فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة وأن تعقيب المعاني به لا سيما قسم التمثيل منه يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها مدحا كانت أو ذما أو افتخارا أو غير ذلك وإن أردت تحقيق هذا فانظر إلى قول البحتري ( دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضري)
( كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... للعصبة السارين جد قريب )
أو قول ابن لنكك
( إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا ... رأيت صورته من أقبح الصور )
( وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر )
أو قول ابن الرومي
( بذل الوعد للإخلال سمحا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء )
( فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء ) أو قول أبي تمام
( وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود )
( لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود ) أو قوله أيضا
( وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد )
( فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد )
وقس حالك وأنت في البيت الأول ولم تنته إلى الثاني على حالك وأنت قد انتهيت إليه ووقفت عليه تعلم بعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك وكذا تعهد الفرق بين أن تقول الدنيا لا تدوم وتسكت وأن تذكر عقيبه ما روي عن النبي قال من في الدنيا ضيف وما في يده عارية والضيف مرتحل والعارية مؤداة أو تنشد قول لبيد
( وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع )
وبين أن تقول أرى قوما لهم منظر وليس لهم مخبر وتقطع الكلام وأن تتبعه نحو قول ابن لنكك
( في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر )
وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى ولذلك أسباب منها ما يحصل للنفس من الأنس بإخراجها من خفي إلى جلي كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يعلم بالفطرة أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته كما قيل
( ما الحب إلا للحبيب الأول ... ) أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم كالانتقال من المعقول إلى المحسوس فإنك قد تعبر عن المعنى بعبارة تؤديه وتبالغ نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقصر يوم كأقصر ما يتصور فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم أيام كأباهيم القطا وقول الشاعر
( ظللنا عند باب أبي نعيم ... بيوم مثل سالفة الذباب )
وكذا تقول فلان إذا هم بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه ولم يشغله عنه شيء فلا يصادف السامع له أريحية حتى إذا قلت إذا هم ألقى بين عينيه عزمه امتلأت نفسه سرورا وأدركته هزة لا يمكن دفعها عنه ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس وتمكين المعنى ما ليس لغيره أنك إذا كنت أنت وصاحب لك يسعى في أمر على طرف نهر وأنت تريد أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على طائل فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له انظر هل حصل في كفي من الماء شيء فكذلك أنت في أمرك كان لذلك ضرب من التأثير في النفس وتمكين المعنى في القلب زائد على القول المجرد ومنها الاستطراف كما سيأتي ومن فضائل التشبيه أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة نحو أن يعطيك من الزند بإبرائه شبه الجواد والذكي والنجح في الأمور وبإصلاده شبه البخيل والبليد والخيبة في السعي ومن القمر الكمال عن النقصان كما قال أبو تمام
( لهفي على تلك الشواهد فيهما ... لو أمهلت حتى تصير شمائلا )
( لغدا سكوتهما حجى وصباهما ... حلما وتلك الأريحية نائلا )
( ولأعقب النجم المرذ بديمة ... ولعاد ذاك الطل جودا وابلا )
( إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرا كاملا )
والنقصان عن الكمال كقول أبي العلاء المعري
( وإن كنت تبغي العيش فابغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول )
( توقى البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل )
وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة كقول ابن بابك في الأستاذ أبي علي وقد استوزره وأبا العباس الضبي فخر الدولة بعد وفاة ابن عباد>.\( وأعرت شطر الملك شطر كماله ... والبدر في شطر المسافة يكمل . )