وسوسات رزمة ورق....قصة قصيرة بقلم فادي شعار
دَخَلـَتْ الصيدلية... فاستقبلها الصيدلاني ببشاشة وجهه ربما كانت من أوائلِ الزبائن اللواتي يباركن قدومه بعد أن فصلت الحرب المدينة إلى قسمين: قسم شرقي وآخر غربي... كان مرغماً بترك صيدليته في القسم الشرقي فجاء استلامه الصيدلية الجديدة متابعة لمهنته كونه من قاطني القسم الغربي...
كانت أيامهُ الأولى و لم يكن على أتم الاستعداد ، فحين أكد لها أن أحد أصناف الوصفة الطبية ( الروجيته ) غير متوفر لديه رضيت منه بصرف باقي أصناف الوصفة ، فقام بصرفها ، ثم بدأ البحث عن ورقة ليكتب لها الصنف المتبقي تحسباً من جشع المتصيدلين بغية ربحهم كامل الوصفة خاصة إذا كان الصنف المطلوب من الأصناف المقطوعة ..فيطلبون من الزبون بقولهم أعد الدواء حيثما اشتريته فالدواء متوفر عندي بالكامل. ما زال يبحث عن ورقة أي ورقة...رغم أنه قبل الحرب كان يحتار أين يذهب بالوريقات والدفاتر والأقلام والهدايا التي توزعها المعامل والمستودعات كدعاية لمنتجاتها ... شعر بنوع من الحرج حينما مزق لها ورقة من دفتر حساباته مبرراً لها أنه مازال هنالك بعض النواقص في الصيدلية فهي في طور تأسيسي، فأشرقت ابتسامة الرضى قائلة: لا عليك سأشتري ما نقص من أقرب صيدلية.لم تكن تلك السيدة الأنيقة من الزبائن العابرين، فقد أدرك أنها إحدى جيران صيدليته وذلك عندما مرت ثانية متقصدة المرور ... وألقت تحيتها بطبقتها الصوتية الرقيقة... لم يكن معتاداً على تلك اللكنة الهادئة فقد كان يمارس مهنته في حي شعبي في المناطق الشرقية ذات اللهجة الشعبية وكما يقال لهجة شعبية وعلى العريض...بينما كانت المنطقة الجديدة التي يزاول فيها مهنته أكثر تحرراً وألطف في التعبير..لقد طلبت منه باللكنة الهادئة المعجمة : هاند بلاست إذا سمحت. فأجابها أنه لم يدرك طلبها، فأشارت إيمائياً إلى إصبعها فأدرك أنها تريد لصاقات جرح، بل وأدرك أنها كانت ذريعة لتقدم له رزمة ورقية دعاية لإحدى الشركات الدوائية مع ابتسامة خجولة... تشكرها ليدرك مع الأيام القادمة أين تقطن...أولادها... زوجها.. عملها.. هذه الرزمة الورقية جعلته يغوص في الزمن ليفتش عن وجهها المألوف جداً في مفكرة أفكاره..عَلِمَ بعد فترة أنها مسيحية الديانة فالسفور في المنطقة الغربية للمسلمات أضحى أمر شبه عادي ... و لكنه وجد أنها أشد التزاما في الحشمة ممن يدعين أنهن مسلمات في سجلاتهن المدنية و أكثر التزاماً في دينها خاصة عندما كانت تمر بصحبة ابنها الشاب و ابنتها الصبية كل صبيحة أحد و هم متجهون للكنيسة القريبة من الحي...و كأنهم يقولون له لست فقط من يلتزم بصلواته في مسجد الحارة المتاخم للصيدلية فكثيراً ما كان يلتقي بهم صدفة بينما يرتاد صلوات الجماعة...كم كان محتاراً .. فكأنه يعرفها بوجهها المألوف...كانت أنيقة بملابسها السوداء وشعرها الأسود ومشيتها تلفت نظره بينما يعمل داخل الصيدلية، كثيرون من أهل المنطقة يعتبرونها صاروخ بأنوثتها مع أنه لا يحب ذلك التعبير الحربي، فالأمر عنده قد يكون ومضة من تقدير وإعجاب واحترام... بل قد يكون الأمر تجاوز فوقع في فتنة خاصةً عندما يرى أبناءها مثالاً للأدب والخلق ومثالاً للباقة والتربية ويرى في الوقت ذاته ماذا أصاب أبناء المسلمين من مياعة و صياعة ... كان يتساءل هل كانت معه في المدرسة؟ هل عرفها في طفولته...؟ فوجهها مألوف للغاية...أسئلة عادية لكنه كان يتحاشى سؤالها حتى لا تظن بأنه يتحرش بها...تلك الوريقات التي أهدته إياها كانت توسوس له بالكتابة فخط على أول ورقة منها...((لا يحل مكان الحب إلا الفن فكلاهما ينفذان إلى القلب و ما يبدعه الفنان إنما هو انعكاس مشاعر دفينة و أسرار عميقة.))لم يكتف ذلك الصيدلاني بالكتابة بل بدأ يدخل عالم الرسم بأقلام الرصاص من خلال وسوسات تلك الوريقات... ودخل الصراعات وأخذ يرسم ويخط(أقوى الصراعات صراع الذات مع الذات صراع لنبذ المنكرات و اجتناب الملذات..))لم يعد يدري هل هو في منكر... فطيلة أيامه السابقة كان ملتزماً بصلته مع الله يخاف الحرام والخيانة....هو إنسان متزوج ويحب اسرته ولديه ولدان، وكذلك هي متزوجة و لديها ولدان، قد يكون أحبها و لكن ليس بمعنى حب الذكر للأنثى و إنما كحب المرء للوطن لمدينته حبه لأشخاص كقدوة... نعم يحترمها معجب بها بشخصيتها بأبنائها و لكنه في مجتمع له تقاليد لا يستطيع البوح بذلك، و التزامه بالدين و مبادئه كان سبباً في أن يلجم نفسه فيزكها كي لا تحلق في هواها فيقع كما وقع العابد المتنسك في هوى المليحة..ما زال محافظا على صلواته في المسجد يؤدي فروضه إلا أن وسوسات الوريقات كانت أقوى ، فتراود تلك الوسوسات أفكاره حتى في صلواته يحاول أن يبتعد عنها و يقنع نفسه و يدَّعي أن الله اختاره ليدعو لعائلتها بالهداية ....لقد تطور داء اهتمامه بأن يتفقدهم ، فمرة بينما يصلي صلاة المغرب في المسجد سقطت قذيفة هاون ، فتحطم زجاج المسجد ، و حين خرج من صلاته و قبل أن يطمئن على صيدليته كان يطمئن عنهم...كان يتودد للعائلة في هذه الحرب العبثية ليثبت أن دين الاسلام بريء من قذائف الغزاة التي أمطروها على حيٍ للمسيحين في عيد الفصح المجيد ، فكتب محاولاً أن يرسل لها حروفه و لكن حواجزه منعت وصول تلك الحروف إليها :
لا تجزعي... إن كنتُ معكِ أو لم تكوني معي...
انطقي بـ خفيّ النداءِ...
و صدقِ الدعاءِ...
على الذين ادَّعوا الخلافة بسفكِ الدماء..
لا تفزعي من مرورهم على الآمنين...
بل تضرعي...
برب المستضعفين.. على المارقين...
من تتار و نسل المغول بعباءة الدين ملتحفين...
هل باتت أرض الشام لهم خيرُ مرتع
أم بات سلاحهم "ميد إن أمريكا"
"ميد إن إسرائيل".... يدُّك كل مضجع...
آه ..آه...
لا تجزعي
من المدعيين بأنهم أعدل العادلين...
أعدل من الفاتحين...
ففي فكرهم بأن الفاتحين...نسوا هدم خوفو ومنقرع.
و قلع نخلة مريم و حرق ما زرع..
ففي عقيدتهم يطهرونا إن قتلونا..
و إن منعوا الكيل عنا و عاقبونا...فباعتقادهم أنهم يحررونا...
ما زال يكتب إلا أن موهبته في الرسم بدأت تتسارع بشكل ملحوظ، وكأنه قد ركبه عفريت رسم وكتابة وشعر... في تلك الفترة كان يحاول معرفة ما هذا الشعور، وما تلك الحالة التي يعيشها، ويسأل ترى هل فعلاً يعرفها ثم يدعو لها و لعائلتها في كل صلاة ...لقد كتم هذا الأمر عن زوجته وأصدقاءه المقربين وجيرانه وأخواته وهذا الكتمان أرهقه حتى دخل في هلوسات...إنها لغز الوريقات و وسوساتها...بدأ يفكر في خطبة ابنتها لابنه ولكن كان يتساءل عن ضوابط الشرع وشروطه في زواج الكتابية ثم بدأ يدعو بهداية ابنها واعتناقه للإسلام ليزوِّج ابنته ابنها...هلوسات يومية لمدة عامين تقريبا ...وصل إلى مرحلة لم يعد يحتمل خياله و مخيلاته و أفكاره التي تتضارب على صخر الواقع...بدأت تغزو تلك العائلة مناماته و أحلامه و رؤاه..لم يعد يدرك هل الأحلام الشيطانية بدأت تغزوه؟؟أم الرؤى الملائكية بات تزوره بنفحات في سهاده...؟!لكنه يدرك تماما أن هنالك رؤية رحمانية في إحدى مناماته حين رأى النور يسري في وجه ابنتها ... ترى هل ستكون يوما زوجة ابنه...استسلم بالاستخارة ودعاء قضاء الحاجة...وهو يتساءل عن سر ذاك الوجه المألوف...استسلم عندما بدأت رزمة الورق تتناقص...عندما بدأت تتالى الأحداث...عندما بدأ يتساقط جدار انقسام المدينة .... عندما بدأ يُرفع شعار لا شرقيّة لا غربيّة...عندما بدأت رحلته ليترك المكان الذي لازمه عامين وينقضي الأمر ومن دون وداع يبتعد عن عائلة أحبها في فترة الانفصال والانقسام ...تلاشت تلك الوريقات التي أهدته إياها، وترك وريقة بيضاء لا يريد أن يخط بها أو يرسم فيها ...لا يريد أن ينهي تلك المحطة رغم انتهاء رحلته والعجيب أنه أدرك كم كان غافلا عن ذاك الشبه فقد أدرك أخيراً من تشبه ...انها تشبه انسانة مازال يحترمها ويكن لها كل الود ولكن يستحي البوح باسمها فقد أهدته يوما ما ورقة حياته.
فادي شعار - حلب الشهباء