قصة متكررة
د. محمود نديم نحاس
مازلت أذكر قصة قرأتها من أيام الصبا، وكانت بعنوان "الدكتور" من تأليف "محمد المجذوب". وتدور أحداثها حول أسرة متواضعة أرسلت ولدها البكر لدراسة الطب في أوربا، واضطرت لأن تعيش عيشة الكفاف من أجل تأمين مصروف الدراسة له، ظناً من الأب أن تصرفه ذلك كان استثماراً سيعود عليه بعوائد كبيرة عندما يصبح ولده طبيباً مشهوراً ويصبح هو في سن التقاعد ويكون في حاجة إلى من ينفق عليه.
وكان أفراد الأسرة يعدّون الأيام بل الساعات لعودة ولدهم، ولا يكفّون عن الكلام عن أحلامهم، كلٌّ مع معارفه، وهم يمنّون أنفسهم بالعيش الرغيد بعدما يعود الطبيب الذي سيُشار إليه بالبنان، ويكون مصدر فخر لهم، إضافة إلى مصدر رزق، ومصدر رفاهية حُرموا منها سنين من أجل أن يحصل ولدهم على الشهادة التي يتمناها كل شاب.
طالت السنوات وعاد صاحبنا ليجد أهله ليس على الحالة التي تركهم عليها، وإنما في بؤس شديد، فاستنكر عليهم تلك الحال، وكأنه لا يدري ما الذي جعلهم كذلك، وراح يفكر أنه لا يمكن أن يستقبل أصحابه في بيت أهله، فينظرون إليه نظرة دونية، فاستأجر صالة في أحد الفنادق الفخمة وأقام فيها حفل استقباله، وذلك حتى يحصل على الشأن الذي يطمح إليه. ولم يكتف بذلك بل إنه استأجر غرفة في الفندق ليعيش بالمستوى اللائق به...
وظن الأهل أنها أيام ويعود إلى رشده، ويعود إليهم ليرعاهم ويبرّ والديه اللذين أذهبا شبابهما وهم ينتظران عودته. لكن لم يحصل شيء من هذا، فقد اكتشفوا أنه تفرنج في كل شيء! لقد تخلّى عن المبادئ، فكان سهلاً عليه أن يتخلى عن السلوك والأخلاق. وأخفق الجميع في إعادته إلى رشده. فقد كان لمغادرته بلده في سن مبكرة أكبر الأثر على تغيّره، وانسلاخه عن كل شيء، ثم اتباعه لعادات المجتمع الذي درس فيه.
وفي تلك الظروف، لم يكن غريباً أن يمرض والده من الهم والغم. وقد اتصل بالدكتور أحد الأقارب ليقول له إن والده على فراش الموت، فلربما يلين قلبه ويأتي لزيارة والده الذي لم يره منذ أن عاد من الدراسة، لكن الجواب كان صاعقاً: "في الوقت متسع! اتصلوا بي بعد أن يُقضى الأمر".
على أن الدكتور تأثر تأثراً بالغاً فيما بعد! يقول كاتب القصة: "فقد اضطر إلى حبس نفسه في بيت والده خضوعاً لتلك العادات العمياء التي تفرض على أمثاله رؤية أولئك المعزّين".
تتكرر هذه القصة في كل زمان ومكان. وأنقل لأمثال هؤلاء قولاً هو من أروع ما قرأت: لقد وصل رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، ثم عاد يأكل مع الفقراء، وينام على الحصير.
نعم أقول لهم هذا، حتى لا يدخل الغرور على قلب أحد فيظن أن ما عند الأقوام الأخرى أفضل مما عند قومه. ليت هؤلاء يأتوننا بالعلم والتقنية التي نحتاجها، وليتهم يعودون وقد تعودوا على الانضباط بالأنظمة والقوانين، وليتهم لا يلتفتون إلى معتقدات الآخرين وعاداتهم، فعندنا ما يقول عنه رب العزة والجلال (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا). الإسلام عقيدة وسلوكاً وتطبيقاً.