إنّ التّوجيهات القرآنية راقية وسرّ رقيّها أنها تتجه بالمؤمن نحو الكمال في دينه وخلقه وفكره وسلوكه وقوله وفعله , وسائر تصرّفاته وقضاياه وكلّ جوانب حياته . واللطيفة القرآنية الّتي نتناولها اليوم مدارها على آية واحدة احتوت توجيهاً ربّانياً له أهميته الخطيرة في حياة المؤمن لأنه جزء من دينه وشاهد من شواهد متانة عقيدته التي أيقظت ضميره لمّا أحيت فيه ملكة المراقبة , بحيث يصحبه الشعور العميق , أنّ الله معه أينما كان وحيثما كان,( وهو معكم أينما كنتم ) ربّك معك , إذاً هو يراك, مطلع عليك , لا يخفى عليه من أمرك شيء . ( إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء . ) أنا وأنت , وأنتم وأنتنّ , ونحن وهم تحت نظر الحق تبارك وتعالى . من هنا وعلى هذه القاعدة تلحظ سرعة الالتزام بتطبيق التّوجيهات القرآنية منهجاً حياتياً وسلوكاً يومياً لا يفارق المؤمن أبداً . مع الآية (172) من سورة البقرة نعيش أمتع اللحظات, أنس ولطف , حنو وحبّ , يبدو شروق وهج نوره من وراء الحروف المباركة . قال الله عزّ وجلّ : ( يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إيّاه تعبدون . ) هكذا بوصف الإيمان أرقى الأوصاف وأكملها يأتي هذا التوجيه القرآني خطاباً من الله تعالى لعبده المؤمن المهيّأ لتلقّيه وامتثاله , يسأل نفسه , ماذا يريد منّي ربّي ؟ بيسر وبساطة يعرف مراد الله ويخضع مراده لمراد ربّه . مراد ربّه عبدي كل من طيّبات ما رزقتك . فيقول : سمعاً وطاعة . كيف وأنا عبدك المملوك لك , كيف وأنا أعبدك وحدك لا شريك لك , كيف وأنا أعبدك لأنّي أحبك وما تريد أريد , شكر نعمك حقك المترتّب لك عليّ , أثني عليك بقلبي ويعلن عن ثنائي لساني , لكن أنّى لي أن أوفيك من الثّناء ما يليق بك فما أعجزني عن ذلك , لكن رأفتك بي أثلجت صدري , (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها) نعمك عليّ ظاهر أثرها كما تحبّ (إنّ الله يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده ) مما يزيدني تواضعاً لك وعرفاناً بفضلك وجودك . نعمك طريقي إلى طاعتك وعزّتك لا أجعل منها سبيلا ً إلى معصيتك , ومع كل هذا فما أعجزني عن شكرك ! أنّى للعاجز الضعيف أن يشكر القوي المتين الّذي تجاوزت قوّته حدود النهايات إلى ما لا تحيط به الحدود ولا العقول ولا التصوّرات . أخي المؤمن : كل وأشرب والبس وتصدّق بعيداً عن الإسراف والخيلاء كما أرشدك الرسول الكريم سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( كل واشرب والبس تصدّق في غير إسراف ولا مخيلة . ) وختاماً إليك هاتين الفائدتين : أوّلاً : ما هي الطّيّبات الّتي أمرنا ألله أن نأكل منها ؟ هي الحلال لا غير من كل ما لذّ وطاب بعيداً عن الحرام الخبيث وإن كان لذيذاً عند من يأكله اجتراء وتجاوزاً . ولا تنس أن أكل الحلال سبب في قبول العبادات وإجابة الدّعوات , ( أطب مطعمك تجب دعوتك . ) هذا ما أجاب به النبي عليه الصّلاة والسّلام سعد بن أبي وقّاص لمّا طلب إليه أن يكون مجاب الدعوة وبهذا نعلم أن تناول الحرام يمنع قبول العبادات ويحجب إجابة الدّعوات , فقد روى الإمام أحمد والترمذي ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلّم , أنّه قال : ( أيّها الناس : إنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً , وأنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين , فقال: " يا أيّها الرّسل كلوا من الطيّبات واعملوا صالحاً إنّي بما تعملون عليم .وقال : " يا أيّها الّذين آمنوا كلوا من طيّبات ما رزقناكم ..." وذكر الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه يا رب..يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام أنّى يستجاب لذلك ! . ) ثانياً : ما هو الشكر المطلوب منّا لله تبارك وتعالى ؟ هو ثلاث شعب : 1-ردّ النعمة إلى المنعم سبحانه وتعالى : ( كلّما دخل عليها زكريّا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله...)2-استعمال النعمة في طاعة الله مما يعين على دوامها.3-الثناء الدائم على الله تعالى بالقلب واللسان بما يتسّر من صيغ الحمد والثناء.المأمول أن أكون قد قدّمت ما ينفع في أمر الدّين والدنيا لأبناء أمتي فذلك من فضل الله عليّ وما أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله والحمد لله ربّ العالمين .