تخوم الدلالة والفن الشعري في (( خطوات تتقدم الموكب )) للشاعر المغربي جمال أماش
عبد الرحمن الخرشي
الدراسة مهداة هنا إلى الدكتور : (( محمد جاهين بدوي ))
هذه القراءة مدينة للشاعر جمال أماش الذي أهداني مجموعته الشعرية ( خطوات تتقدم الموكب ) بعد طبعه لها مباشرة – يونيو 2005 - منيرا لي سبيل تجربته الشعرية المميزة ، تلك التجربة القائمة على مفاهيم الحداثة الشعرية ، ولأقرأها بهذه القراءة العجلى المختزلة لعمل لا زال في طريق الدراسة والإعداد .
كما أنني مدين لأخي الأستاذ عبد اللطيف الكرطي الذي تكرم علي وألح أن تكون هذه الكلمة مزاحمة لهؤلاء النقاد والدارسين في هذا الاحتفاء الشعري .
أشكر الأخوين أنهما حملاني مسؤولية عمل إبداعي آخر لا يقل أهمية عما قام به الشاعر ، ألا وهو : القراءة .. وذلك في صرح هذا الرواق الثقافي المراكشي الجميل الذي نتمناه أن يكون مفتوحا – دائما - في وجه الثقافة والمثقفين والإبداع والمبدعين دون تمييز !! .
وقبل القراءة المومأ إليها أحب أن أعرض – بإيجاز شديد - لإشكالية قصيدة النثر كما وقفت عليها في ما توفر لي من مراجع . وهي أحد العوائق وأهمها بيننا وبين هذا النوع من الشعر الذي لم يحسم في أمره بعد – وإن ادعى البعض خلاف ذلك –. ولولا هذه الإشكالية لكان الأمر ممهدا أمامنا لمعانقة هذا النوع من التجارب الشعرية باعتباره تجربة وافدة من الشرق أو من الغرب دون عناء.
إن إشكالية قصيدة النثر من هذا المنظور يمكن اختزالها في:
1 - إصرار البعض على أنها لون من ألوان الشعر استوجب ترسانة من الدراسات لم تكن في الواقع سوى تنظيرات أسست لشعرية قصيدة النثر ، ولا بد هنا من التشديد على كتابات "أدونيس" وبعض المنشورات المغربية ؛ منشورات اتحاد كتاب المغرب خاصة .
2 - نفي البعض الشعرية عنها ، وتصنيفها ضمن خانة النثر الصرف ، بل واعتبارها من ( الشعر المتفلت المنثور ) الذي استوجب الرفض لكونه "ساهم في إفساد الأجيال الصاعدة فكرا ولغة وذوقا ، وفي إفساد الحس الأدبي الصادق الذي تريده اللغة العربية" ( 1 ) .
وعندي فإن حل هذه الإشكالية ؛ إشكالية قصيدة النثر، ياتي من الغربلة – لا الرفض المطلق - ومن احتضان ، نماذج الإبداع الشعري ذات القدرة على الغوص في جوهر الشعر الحقيقي ، الشعر الذي يهز ويؤثر ، ويهتم – قبل ذلك - بشعرية النص واصالته وتميزه ، كل ذلك من اجل خلق نوع من التراكم الذي يؤسس لحقيقة هذا الشعر الذي وجد المساندة والدعم من فسطاط ( أدونيس ) ، الذي لازال في صراع مفاهيمي مع جل منتقديه وحوارييه إرساء لقواعد موكبه الشعري !.
وحسبي بعد هذا أن أتلمس وألامس تجربة الشاعر جمال أماش ( خطوات تتقدم الموكب ) باعتبارها شفع باكورته ( اشتعال الثلج )( 2 ) وآخر ما راكم من تجارب نشرها في الصحف والمجلات المغربية والعربية . وقد وقفت على الكثير منها . حيث تبين لي بأنها تجربة واعدة وقابلة لطرح إشكالات – ربما هي نفس أوبعض ما يطرح هذا (الشعر) من إشكالات - أضعها أمام قراء هذه التجربة الغنية بالدلالات والرموز .
بداية أسجل أن تجربة اليوم ( خطوات تتقدم الموكب ) قد أخرجها الشاعر جمال أماش من رحم الرفض والقطيعة للأنماط الشعرية القديمة ، والإحيائية ، والرومانسية ، وتلك المنسوبة للمعاصرة والتحديث في إطار حركة الشعر العربي الحديث .. وهي تكريس ( بالفعل الإبداعي ) لمقولة الهدم والتمرد .. وهي – في نفس الوقت – ترويج للمفهوم الحداثي الأدونيسي الذي ينطلق من مقولة الرفض للشعرية العربية بمقاييسها الأصيلة : لغة ، وإيقاعا ، وصورة شعرية ، وجمالية فنية ، وأساليب ، و ... فأدونيس يرى أن لا بد لهذا العالم من الرفض الذي يهزه ، لا بد له من قصيدة النثر – كتمرد أعلى في نطاق الشكل الشعري.. وهو ينطلق – كذلك – من مقولات : إن الشعر معرفة فردية تعتمد خبرة الحدس ، والاستبطان ، والكشف ، والعرفان ، والغوص في الأعماق الإنسانية ، والحياتية . وتعرية كهوف الذات ، ومحاولة القبض على العالم من دون بنيان أو فكر منطقي ، مع محاولة خلق أنموذج أو مثال ، يرى الشاعر أنه على المجتمع أن يقوم بتقليد هذا المثال دون إذعان الشاعر للمجتمع أو للحياة باعتبارهما المثال الأسمى، كما أنه من الواجب على الشاعر أن يضبط عالمه الفوضوي ...
أغلب ظني ، وحسب ما طاله بحثي الدقيق في ثنايا (الخطوات) ، أؤكد أن الشاعر جمال أماش كتب ( خطواته ) / قصائده : وهو – من منطلق المناصرة لأدونيس وحوارييه – يستحضر تلك المقولات الحداثية الأدونيسية أثناء ممارسته للفعل الإبداعي .. ومن هنا تأتي صعوبة ولوج العالم الشعري لهذه المجموعة الشعرية ..! عالم التبس في اعتقادي بمسوح الغموض ، والإبهام ، والتجريد ، والإضراب ، وعدم الانتظام ، والمراهنة على المتلقي ليقوم بأدوار المقارنة ، والتحليل والتأمل ، والتأويل ؛ بغاية الوصول إلى ما عبر عنه الشاعر من ( رؤيا ) .
شخصيا بكثير من التمحيص والصعوبة وجدتني مجرورا – أحيانا – نحو الإسقاط أثناء ضبط مفردات ( الرؤيا ) المعبر عنها في المجموعة الشعرية . وهي بتركيز شديد : الإبداع . الإنسان: الأنا ، الآخر . الطبيعة . الزمان . الحرمان . الوجدان . الاغتراب . السوداوية . الألم . الاضطهاد بأنواعه ؛ خاصة منه: السياسي ، والفكري ، والمجتمعي . وأخيرا : الموت .
وبالاستقراء تبين لي أن هذه المجموعة الشعرية تعكس تجربة ذاتية حياتية ، وتعكس ثقافة صاحبها المرتبطة بحياته العامة والخاصة وتلك الخاصة جدا (( ... )) وهي رغم محدودية أفقها الفني ، ورغم محاولة ظهورها مجددة . فإنها أساسا تربط بالكون ، وبالناس ، وبالأشياء الجليلة ، وباللقطات الحياتية العابرة .. بل هي رصد ذاتي لمفارقات اليومي ، والهامشي في الحياة الاجتماعية .. وفيها من الكشف ما يبرر مظاهر وأبعاد مأساوية في الحياة اليومية للشاعر والناس .
وبما يشبه البوح حاول الشاعر تجسيد معاناته الناجمة عن انخراطه في المجتمع ضمن علاقات أبرزها ألحها على نفسه ؛ أعني السياسي ، والإنساني ، والوجداني العاطفي .. وقد رتق كل ذلك بعناصر الطبيعة صائتة وصامتة . وبأحاسيس تجلوها الانفعالات . وصدمات داخلية تشذرت وتشتتت لغة مجازية ، وتراكيب لغوية غير تامة الدلالة في بعض الأحيان .. أظن أن الشاعر قد بسط هذه التجربة أمام المتلقي مرآة عاكسة للمكان وللعلاقات وللحياة كما يحياها هو .
ولعل الشاعر جمال أماش يعيدنا بكل ذلك إلى تشخيص الناقد صلاح فضل لقصيدة الحداثة حينما قرر أنها تحمل روحا قلقة ، ولا تنتهج السرد الرتيب المنظم ، أو خطا واحدا.. وانتهاج التجزيء والتشتت الدلالي دون ربطها برباط منطقي واضح( 3 ). ولعل قصيدة الشاعر جمال أماش قد أضافت إلى الدلالة في هذه المجموعة تعددها ، ولا نهائيتها ، وكثافتها ، ومراوغتها ، وإرجاءها ، وربطها بين المتنافرات ، وتحويلها إلى سراب يجعل الدارس أو الناقد أو المتلقي قناصا يجري وراءاقتناص بنية النص باعتبارها بنية جديدة تؤسس لأحد أهداف الشاعر وأبرزها : فرادته في تجربة يتقدم بها موكب الإبداع الشعري !.
ودعك مما يقال من أننا أمام ( شعر صامت ) أو ( شعرية الصمت ) أو ( أدب الصمت ) أو ( الأدب الذي لا يقول شيئا ) أو ( اللامعقول ) أو ( اللاتخطيط ) و ( الفوضى ) و ( الاعتباطية ) . ودعك من كل التنظيرات المؤسسة والمكرسة لما أسميه ( صراع الايديولوجيا في الشعر ) . فنحن – بالفعل - أمام ( شعر ) . الشاعر قال فيه كل ما أسلفت وقال فيه ما هو آت هنا .
وبالفعل لقد أتحفني الشاعر جمال أماش بتجربة قرائية فريدة في هذه المجموعة الشعرية ؛ تجربة تتبعت خلالها تشكيلاته اللغوية ، وإيقاعاته النثرية ضمن فضاء شعر النثيرة ، إضافة إلى تمظهرات النصوص المتنوعة فكانت هذه الإشارات العابرة :
أولا: اللــغــة الــشــعــريــة :
في هذا الإطار وجدت الشاعر بنى ( قصائده ) في هذه التجربة على المزج بين لغة الحديث اليومي ، ولغة الانزياح ، والمجاز ، والخرق . وكذا التعقيد اللغوي .. وهو ما جعلها غير متناسبة الأسلوب ، بفعل ما ورد فيها من إشارات رمزية غامضة وإيحاء وتفكك في الدلالة والبناء . وما فيها من خروج عن المألوف ، والرصين من أحكام النقد .
لنقرأ ما ورد في ( الصفحة 39 ) تحت عنوان ( محمية لوحيش القلب ):
"-1-
في الجبل الشارد.
- 2-
في المنفى الكلي
المدجج بالأخطاء
نحتمي من أمواس
تهب علينا
من جهة القلب. "..
الشاعر هنا أنهى الجملة اللغوية الأولى بنقطة قبل إتمام معناها .. ثم أعقبها ببياض فتح التلقي على متاهة التفسير ، والاحتمال ، والتأويل ؛ لعله تأويل المسكوت عنه في النص !! لاشك أنه قناع من الأقنعة الأدونيسية ارتضاه الشاعر لنفسه بعد أن ضاق وتشتت نفسيا .. وكأني به قد نسي حدود حريته وحدود وعيه السياسي المفترض فيه أن يكون مفتوحا على عالم الحرية لما يتيح من رحابة فكرية ، وتعبير . ولربما الشاعر بذلك استسلم للخوف من سلطة ما ، دون تبرير !!
ناهيك عن الرقم (1) وأرقام أخرى في نفس النص ( من2 إلى 10 ) . الشاعر بما صنع يبعثر مفهومنا للمقطع الشعري . ويضعنا وجها لوجه أمام خصوصية من خصوصياته ، أو فرادته ، وتفرده، وتفرد تجربته . فالنص لا يقوى على الدفاع عن نفسه أمام أحكام النقد الرصين . كما لا يستطيع تبرير الطريقة المعتمدة في وضع الأرقام !.
وفي قراءة النص ( الغامض في الوردة ) ما يدعو إلى التأمل . أعرضه لأعالجه بالملاحظة والمساءلة . يقول الشاعر في هذا النص :
الندى الذي يسيل ليلا
والعطر الذي لم ينتبه إليه حارس العمارة
المداوم
قلب في حانة يتفجر على كرسي،
جاذبية تفقد الأمل في الريح
رائحتك غالية أيها المدى
لا تقلق على غيمة الجذور
أنت تسقط في البئر وحدك
بينكما رباط سري.
أذكر للشاعر أنه من أوجب الواجبات على المبدع أن يولي اللغة الأهمية القصوى في العملية الإبداعية باعتبارها مادة نسيج الشعر تلك النعمة النادرة على حد تعبير الراحل الكبير عبد الوهاب البياتي !. وإلا كنا كمن يبني عمارة شاهقة فوق الرمال !. ثم ما جواب الشاعر عن هذه الأسئلة والملاحظات حول هذا النص :
1 - أتساءل عن علاقة العنوان الفرعي ( الغامض في الوردة ) باعتباره عتبة للنص وشفرة موضوعية تربط بالعنوان الأصلي ( عش أعلى من الملح ).. وعن علاقته بلحمة النص ؟ أطرح هذا السؤال في غياب آليات التأويل والتحليل المراهن عليها ، والتي يفتقدها أغلب القراء !
2 - شخصيا وجدت من الصعب علي رصد البؤرة الموضوعية الشاملة التي تستوعب طاقات النص الدلالية والشعورية . فأوعزت الأمر إلى أنني لست من النخبة التي يكتب الشاعر لها !.
3 - جل تراكيب النص غير مستوفاة الدلالة . أسأل : لماذا ذلك؟
4- لا أدري ما داعي هوس الشاعر في المجموعة بحانوت الخمار بكل تفاصيلها ؛ أوردها في هذا النص بلفظها ( حانة ) . وبأخواتها من الألفاظ والجمل في نصوص أخرى (النبيذ ) (5 مرات ): كي يرشف نبيذا ( ص20 ) . لا شيء غير نبيذ يسابق الضوء ( ص23 ) . بنبيذ غائر ( ص31 ) . دخل يبحث عن نبيذ ( ص 36 ) . أحتاج إلى رغيف ونبيذ وماء وقليل ( ص103 ) . الخمر : تخمر في عروقه ( ص36 ) . في الصباح مخمورا يسير في تظاهرة ( ص40 ) .السكر : والخطأ مركب سكران ( ص30 ) يعشق
قهوته السوداء بلا سكر ( ص27 ) . الثمالة : يعشق حد الثمالة جرحا في الخلاء ( ص27 ) . الندماء : كحمية ندماء القصيدة ( ص66 ) . النخب : في أرخبيل المعنى كنت خلف الركح تنخب كأسا مع الخنازير ( ص33 ) ...
5 - التركيب : ( رائحتك غالية أيها المدى ) بالرغم مما فيه من تقديم وتأخير نحملهما على التبئير . فإن الشاعر لو تأمل التركيب لوجد أن لفظة ( غالية ) تحتمل وتحتمل ؛ تحتمل الدلالة على نوع من الطيب . وتحتمل دلالتها على ( غلاء ) السعر .. فأيها قصد الشاعر ؟. وأيها تبادر إلى ذهنه ؟ وأيها نقل النص إلى القارئ ؟!.
6 - استهل الشاعر النص بهذا التركيب ( الندى الذي يسيل ليلا ) . لا أدري لماذا لم يفطن الشاعر إلى أن ( الندى ) هو ندى النهار.. أما ندى الليل في اللغة فيطلق عليه ( السدى ) .. وعلى ذلك فكل التركيب : ( الندى الذي يسيل ليلا ) يمكن اختزاله في كلمة واحدة تنوب مناب التركيب بأجمعه وهي ( السدى )...
وفي هذا الإطار فإن الشاعر قد استعمل اللغة استعمالات تجاوز بها حدودها ؛ من ذلك عدم ملاءمة الصفة للموصوف من جهة العدد في قوله ( اصفر القراطيس )( ص57 ) حيث وصف الجمع بالمفرد . وكان حريا به أن يكتب ( صفر القراطيس ) أو ( القراطيس الصفراء ).. كما أعاد الضمير على مجهول ، إذ عادة ما يعود الضمير على ما قبله ، استعمله في أول نصوص المجموعة ( تهمة ) (ص9) :
لأنه يجمع حبات هواء
في أصابع أفق
يصنع له ريشا
- دون أن تدرى الريح -
وينفخ في صدره
اتهموه بتحريض الحبر.
كما طعم الشاعر لغته بجمل أو كلمات من اللغات الأخرى ؛ كتب بعضها بالحرف اللاتيني في النص الشعري ! ( I Love you America ) ( ص107 ) ، (Rose ) في ( الصفحة 108 ) ، هاته التي ربطها - في تركيب عجيب فريد - بأداة التعريف العربية (ال) .. وكتب بعضها بحروف عربية ( ألبـوم ) ( ص104 - و( بادجات ) (ص102)..!!! . وطعم لغته من الدارجة المغربية : ( خوفانة ) ( ص 102) .. ( أطلق روحه ) ( ص 14 ) .. ومن الطريف في هذا المجال أن هذه المجموعة الشعرية تعتبر القرطاس شيئا مكتوبا : ( قال لي : في قرطاس الأولين ) ( ص59 ) ثم قوله : ( وبحثت عنه في أسفار التاريخ / في كتب الحكمة / في أصفر القراطيس ) ( ص57 ) ...
ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال نذكره مرقما :
1- تخللت الطبعة بعض أخطاء الطبع اللغوية وإن كان هذا مما عمت به البلوى في واقعنا الشعري والثقافي المعيش ؛ منها كتابة كلمة : ( أذاعب ) ( ص22 ) التي هي في الأصل بالدال المهملة ( أداعب ) . وكلمة : ( فادح ) ( ص79 ) التي هي في الأصل بالدال المعجمة ( فاذح )..
2-هذه الطبعة جعلتني أقف على مسألة هامة وجب التنبيه إليها هنا هي : عدم شكل بعض الكلمات بالشكل التام ، وهي كلمات مفصلية في سياق الجملة ، والتي من الممكن أن تنزاح عما أراده الشاعر لها من دلالة ؛ فالشكل –كما لا يخفى- تأكيد على الدلالة المطلوبة . ونمثل لذلك من نص ( حمام متوحش ) ( ص27 ) :
لطيف مثل حمام متوحش
يتبع الأخبار البعيدة
أعصابه حمراء
يفتح للسموم قلبه كي تموت!
الجار والمجرور(للسموم) : يحمل على أن يشدد ويفتح ( للسموم ) وهي بذلك : الريح الحارة . وأن يشدد ويضم ( للسموم ) وهي بذلك : جمع لأصناف السم القاتل . فأيها نرشح لما يقصده الشاعر انسجاما مع خط التأويل الذي يوجب علينا أن نسير فيه ؟!.
ثانيا: البنية الإيقاعية
بالرغم من كون هذه التجربة نمت وترعرعت ضمن حضيرة قصيدة النثر الحداثية . فإنها قد راهنت على إيقاعات خاصة مفتوحة وغير محصورة في قوالب معينة ، مخالفة بذلك النماذج العروضية والإيقاعية الأصيلة . وإن كنت أجزم أنها راهنت على إيقاعات دلالية ، وبصرية ، وكاليغرافية . وعلى مكونات لغوية ؛ تركيبية ، وأسلوبية . إضافة إلى ما يمكن أن يحققه النبر ، والتنغيم ، والوقف ، وعلامات الترقيم – رغم قلتها الملفتة للنظر - من نبرات صوتية دعما لهذا النوع من الإيقاع الخاص..
لقد اتسم الإيقاع الهندسي البصري في ( خطوات ) الشاعر جمال أماش بالبساطة ، والاعتباطية ، دون تركيز على ما تقتضيه الدلالة / الدلالات . فالشاعر لم يقيد نفسه بشكل هندسي معين في النصوص ، وإنما أعطى لنفسه الحرية والانفتاح والتفتح ؛ وقد انعكس هذا على المكونات الكاليغرافية التي حققها الشاعر من خلال التوزيع الهندسي لفضاء النصوص .. وإن كنت أرى أنه لا ضير في بساطة الإيقاع الهندسي البصري في مجال قصيدة النثر مادام الشاعر يراهن على إيقاعات أخرى . ولتوضيح ذلك أذكر أن الشاعر بنى جل النصوص على البدء بالسطر الطويل أو القصير ، ثم يبدأ في التقلص ، أو التمدد ، إلى أن يصبح السطر كلمة ، أو جملة قصيرة جدا . ثم يعاود الامتداد ، ثم يقلص من جديد في كلمة تعقبها جملة مخصوصة فكلمة ...
ومما اعتمده الشاعر في هذه التجربة كمكون إيقاعي التكرار الصوتي . كما هو تكرار المد والشين في "تجربة حياة" (ص28):
"سماء
ترشنا
بالشهب
ومن شقوق
أصابعنا"
والتكرار اللفظي الناجم عن ألفاظ متماثلة صوتيا ودلاليا، كما هو تكرار لفظة ( أحجار ) عموديا مرات عديدة في تجربة ( تحت شجرة التوت تسهر أصابعي ) ( ص.ص73-74) :
"أحجار تتساقط
أحجار تمر
أحجار تضرب
في صدر حنون
أحجار تؤدي مهمتها بعيدا
عن الكلام
أحجار فانية
أحجار أقذفها في بئر أمينة"
وتكرار لفظتي ( ترفرف ) و لفظة ( الظلمة ) أفقيا في تجربتي ( خفقان ) ( ص 10 ) . و( النسيان ) ( ص11 ) وهما على الترتيب :
"السماء في يدك ورقة
ترفرف، ترفرف، تطير"
* * *
"وربما كنت تخشى التحليق
والظلمة، آه الظلمة التي حفظت
سر لؤلؤة"
ومن أنواع التكرار في هذه التجربة تكرار يأتي من نبرات الجمل . كما هو تكرار جملة ( تحت الأنقاض ) في تجربة بهذا العنوان ( ص.ص 115-116) .
ثالثا: تمـظـهــرات النصوص فـي (الخطوات) :
إن تمظهرات النصوص في المجموعة الشعرية ( خطوات تتقدم الموكب ) للشاعر جمال أماش قد اتسمت بالخصوبة ، والتنوع ؛ سواء في تركيبها أو في توزيعها على بياضات الأوراق، أو في ترقيم أو عدم ترقيم ما أكاد أحسبه مقاطع . والفصل بينها بالزيادة في فضاء البياض ، أو كتابة أرقام مع البياض للفصل أو ربط الرقم بعنوان ، أو ترك السطرين فارغين ، اللهم من النقط تأكيدا على أن للشاعر ما يسكت عنه أو يخاف من ذكره بالتصريح أو بالتلميح أو.. وهو اليوم عاجز عن ذلك ...!!
ومن تمظهرات هذا التنوع في هذه التجربة:
1 - نصوص قصيرة جدا على شكل ومضات أو مشاهد، وصور تلتقط حالات ولحظات محددة بإيجاز وكثافة كما في تجربة ( تهمة ) ( ص9 ) :
"لأنه يجمع حبات هواء
في أصابع أفق
يصنع له ريشا
-دون أن تدري الريح-
وينفخ في صدره
اتهموه بتحريض الحبـر."
2 - نصوص متوسطة الطول ذات بناء مختلف ، يتقاطع في بعضها السردي أو الدرامي والرمزي، وتقوم على شيء من التكرار الصوتي واللفظي كما في تجربة ( صخرة الأصل ) (ص23) :
"البحر بيننا
ولا شيء غير الصفعة الحرة
لا شيء غير ريح أزالت غطاء الصمت
عن جبل الملح
لا شيء غير نبيذ يسابق الضوء..."
3 - نصوص طويلة متعددة المقاطع ذات طبيعة مركبة أو متنامية في بنائها . يتقاطع فيها السردي والخيالي ويهيمن الأول على الثاني كما في نص المجموعة ( خطوات تتقدم الموكب ) ( ص89 ) ...
أخي الشاعر جمال أماش:
لا يسعني وقد قرأت تجربتك الشعرية الحداثية هذه القراءة العجلى إلا أن أذكر لك أنني سأنهي مداخلتي مزهوا بقراءتي لما راكمت من تجربة شعرية واعدة . أقصى غاياتها أن تتقدم الموكب .. كما يغمرني إحساس صادق أنك ستتقدمه بـ ( خطواتك ) عندما تعززها بعمق ثقافي وفلسفي وتراثي أصيل . وعندما تعززها بإيقاعات النفس والروح تترجمها الكلمات . وبمفارقات الحياة والوجـود ، وبانفتاحك - أكثر - على أغوار الذات ، والقضايا الجوهرية ، والتجارب الإنسانية الكبرى ، وكذا على التراث الرمزي المغربي الثقافي ، بما فيه من تاريخ وحكاية وأسطورة مع التميز بالوعي الشعري الفني والجمالي والإيقاعي ، والعمق الإبداعي . والتفكير في أنك تكتب لجمهور عريض – لا للنخبة الخاصة كما تزعم – وأنا من هذا الجمهور الذي يتوق إلى التواصل مع تجربتك وتجارب كل الشعراء الكبار أولئك الذين يرشون الحياة بملحها العظيم وترياقها الأعظم ( الشعر ) !. واسمح لي أخي أنني من ذلك الجمهور الذي لا يتسامح في أن يخرج الشاعر عن حدود الدلالة في اللغة ، وعن جمال الإيقاع ، وجمال الصورة الفنية ، والأساليب الراقية ، و ... بل وقيم ومواقف و( رؤيا ) في حدود ( خطوات تتقدم الموكب ) فعلا..
------------------------
1 - عدنان علي رضا النحوي (الشعر المتفلت من التفعيلة إلى النثر) .ج.م.ح.أ. البيضاء ط2/2001 ص 103.
2 - صدرت سنة 1998.
3 - صلاح فضل / إنتاج الدلالة الأدبية، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع – القاهرة ط1 ص40.