منتظري.. فقيه عارض "ولاية الفقيه"
منتظري

"إنه ليس في مراجع التقليد الموجودين الآن من يصل إلى مرتبته، ولكنه مع فقهه واجتهاده المطلق ساذج في الأمور السياسية، فتصدر عنه آراء لا تناسب المقام فيجلب على نفسه نقمة سياسية". كان هذا هو رد عالم إيراني وسياسي بارز على الدكتور محمد سليم العوا عندما سأله عن رأيه في المرجع الشيعي آية الله العظمى حسين علي منتظري، والملقب بمهندس الثورة الإيرانية.
لذلك فقد بدا التساؤل الذي دار بين العوا ونفسه بعد ذلك الرد منطقيا حينما قال: هل كان آية الله الخميني بذكائه الحاد وتجربته العميقة وحكمته المشهود بها من خصومه قبل المعجبين به، يختاره نائبا له لو كان ساذجا سياسيا؟!
ذلك أن الاعتراف بعبقرية "منتظري" العلمية، لا يمكن أن يتصور معها أن الرجل "منتظري" يعاني من عدم النضج السياسي، فضلا عن أن يستبعد من منصبه الحساس والخطير، لهذا السبب.
الفقيه المقدام
الحديث عن عالم ومفكر وفقيه كبير بقدر "منتظري" ليس بالأمر الهين؛ لأنه ليس مجرد فقيه طال عمره، وظل يباشر أعماله الفقهية والفكرية ما يزيد على الستين عامًا، دون انقطاع، وإنما لأنه فوق ذلك زاوج بين الفقه والسياسة، بحيث جعل من الأول مرجعية وأساسا للثانية.
فقد كان منتظري منذ سنوات ما قبل انتصار الثورة في إيران من أبرز الشخصيات البارزة لدى علماء ورجال الحوزة العلمية والمناضلين والسياسيين المعروفين، بحيث لا يمكن إنكار الإسهامات التي قدمها هذا الرجل للثورة.
وبشكل عام، فإن الرجل يبدو أنه يتميز مع حنكته العلمية وعبقريته الفقهية بجرأة في طرح الآراء والنظريات، وجرأة أكثر في إعادة النظر فيها وتعديلها لتخدم هدفها النهائي، حتى إن أدى هذا التعديل إلى تغيير المعالم الأساسية لتلك النظرية.
لكن عندما تكون النظرية التي يتم تغيير معالمها هي التي تأسست عليها الدولة الإيرانية برمتها، بل تمحورت حولها معتقدات عشرات الملايين من الشيعة في جميع أرجاء العالم، فمن الطبيعي أن يتحول الأمر إلى معضلة تؤدي في النهاية إلى نسف تاريخ الرجل وطي صفحة إنجازاته، وتحويله في وسائل الإعلام الإيرانية، من "أبو المراجع" إلى مجرد عالم بسيط!!
لا.. لولاية الفقيه المطلقة
إنها نظرية ولاية الفقيه التي كان منتظري هو أول من أصل لها عندما اختارتها الثورة الإيرانية لتكون المحور الرئيس لتأسيس فكرة الثورة بشكل عام، وذلك عندما طوَّرها الخميني في دروسه عن الحكومة الإسلامية، لتصبح ولايةً عامةً شاملةً، بعد أن كان الفقه الإمامي يقتصر قبلها على الولايات الخاصة، كالولاية على الأيتام، وعلى تزويج النساء.
ومن المهم أن يكون حاضرا في الحديث عن منتظري أنه هو من تولى شرح النظرية، وتأصيلها من المذهب الإمامي ومن الأصول الإسلامية مباشرة، وألقى دروسه فيها لمدة تقارب ثلاث سنوات في قُمْ (العاصمة العلمية لإيران) تحت عنوان: "ولاية الفقيه" باللغة العربية، ثم أصدر كتابا ضم هذه الدروس، محققةً موسعةً، في أربعة أجزاء، وصل جزآن منها إلى يد القراء، وحيل بينهم وبين الجزأين الآخرين؛ بسبب عزل آية الله منتظري، ثم فرض الإقامة الجبرية عليه.
غير أن منتظري لم يدر بخلده أن تتحول نظرية ولاية الفقيه من إطارها الذي أراده، وهو الإطار الانتخابي، إلى ولاية مطلقة لا حدود لها من حيث الصلاحيات التي تمنح للفقيه أو المرشد.
فآراء علي منتظري في ولاية الفقيه كانت تتجسد في أن يتوافر في الحاكم (الزعيم) شروط الفقه الإسلامي، وأن يتم انتخابه من قبل الشعب، وأن تحدد صلاحياته بالدستور، والأهم من ذلك أن تكون له مدة رئاسية محددة، وأن يكون لمجلس الخبراء الحق في استجوابه وعزله إذا ما خالف الشروط السابق ذكرها أو أخل بالتزاماته وفقًا لما ورد بالدستور.
ويرى منتظري أن الولاية المطلقة للفرد غير المعصوم من منظوره ربما تستوجب استبدادا في الحكم، كما أن الولاية المطلقة لم ترد في الدستور وإنما أضيفت فيما بعد.
وفي هذا السياق، يقول منتظري: "لقد أدخلوا في الدستور كلمة (المطلقة) بعد (ولاية الفقيه)، وهذا عمل غير سليم، فنحن لا نؤمن بالولاية المطلقة للفقيه، ولا يجوز للفقيه أن يفعل ما يريد، فضلا عن أنهم قد ألقوا بشرط المرجعية عن القائد، وهو من شروط انتخابه".

وحول دليله لنفي الولاية المطلقة عن الفقيه يؤكد منتظري في مقابلة صحفية أجراها معه موقع "المعصومين" قبل سنوات قليلة قائلا: "نفي الولاية المطلقة للفقيه لا يستدعى دليلاً، إذ الأصل يقتضي عدم وجود ولاية لأحد على أحد، بل إن إثباتها هو الذي يحتاج ‏دليلا قاطعا ولم أعثر على ذلك في الكتاب والسنّة ولا في حكم العقل..".
ثم يبرهن على صحة موقفه بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، حيث يقول: "وصف الله تعالى في سورة الشورى المؤمنين بقوله: "وأمرهم شورى بينهم"، وخاطب رسوله - في سورة آل عمران - مع كونه معصوما بقوله: "وشاورهم في الأمر"، ويؤكد منظري أن كلمة (الأمر) في اصطلاح الكتاب والسنة كان يطلق على الأمور الاجتماعية والسياسية العامة. وكان رسول ‏الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عصمته يشاور أصحابه في الأمور المهمة الاجتماعية ولم يكن يستبدّ بها.
ويتابع: والولاية المطلقة خاصّةٌ بالله العظيم مالك كل شيء وخالقه، "إن الحكم إلا لله" (يوسف: 76) والباقون حتى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) موظّفون بإجراء أحكام الله تعالى، ولهم الولاية في إطار أحكامه عز وجل.
محافظ بنكهة التجديد
الآراء السابقة تدل بوضوح على أن الرجل محافظ بنكهة تجديدية، إن صح التعبير، وتجلى ذلك التوجه في سعيه الحثيث لتأصيل المفاهيم الفقهية وربطها بالواقع المعاش، والاجتهاد الدؤوب في نقد ومقاومة ما يعلق بها من تصورات خاطئة ومفاهيم جامدة، وأخرى قد تفتح المجال واسعًا لممارسة الاستبداد باسم الدين، وهو ما جعله ينادي مرارًا بعد نجاح الثورة بأن يترك رجال الدين السلطة لتتداول بشكل مدني عن طريق الانتخاب.
وفيما يتعلق بالتعديلات التي أدخلت على الدستور عقب وفاة الخميني يقول منتظري: "إن التعديلات التي أجريت لاسيما إلغاء منصب رئيس الوزراء، وتوسيع سلطات وصلاحيات الولي الفقيه (مرشد الثورة)، كانت غير ضرورية"، وقد كان رأيه هذا من واقع مسئوليته كرئيس لمجلس الخبراء آنذاك.
وفيما يتعلق بالتعديلات التي أدخلت على الدستور عقب وفاة الخميني يقول منتظري: "إن التعديلات التي أجريت لاسيما إلغاء منصب رئيس الوزراء، وتوسيع سلطات وصلاحيات الولي الفقيه (مرشد الثورة)، كانت غير ضرورية"، وقد كان رأيه هذا من واقع مسئوليته كرئيس لمجلس الخبراء آنذاك.
ومما سبق، يتضح أن مسألة الجمهورية في رأي منتظري لا تتحقق إلا باحترام الحقوق العامة، خصوصًا حق المشاركة الشرعية الفاعلة، والالتزام بالدستور، وتحديد صلاحيات الفقيه في إطار القانون، وكذا تحديد فترة ولايته، ومساءلته أمام مجلس الخبراء المنتخب من قبل الشعب.
ولم يكن أمام منتظري بد من محاولة تصحيح المسار، حتى إن بدت آراؤه مهددة لكيان الثورة الإسلامية ومزلزلة لأركانها، فالرجل منذ بداية تكوينه وهو جريء في إعلان رأيه، مقدام في تحمل تبعاته، فقد تحمل ما لا تطيقه الجبال في سجون السافاك من ألوان التعذيب والتنكيل، بل تحداهم بتنظيم إضراب عام داخل السجون حينما أرادوا إعدام الخميني وأجبرهم على الرضوخ لمطالبه بعدم المساس به!!
ولم يشفع لمنتظري وقفته الشديدة تلك مع الخميني، ودعمه غير المحدود له في بدايات انتصار الثورة الإسلامية عام 1979م، فتمت إقالته من جميع مناصبه السيادية (مرجعية الزعامة، ومجلس قيادة الثورة، ومجلس الخبراء)، وذلك بعد اصطدامه الشديد بالخميني عام 1988 م، ليتحول فجأة من نخبة صناع القرار إلى نخبة المعارضة، خاصة بعد ما كثرت انتقاداته اللاذعة لممارسات محاكم الثورة ضد عناصر النظام البهلوي أو رموز التيارات المعارضة لها، وانتقاداته للمحاكمات الخاصة برجال الدين وممارستها العنف والضغط ضد المراجع والطلاب، والأهم انتقاداته لنظرية "ولاية الفقيه المطلقة".
غير أن الرجل ظل، رغم ذلك، متمتعا بعدد كبير من الأتباع في صفوف المتدينين الإيرانيين أهلته لاستمراره في تولي مسئولية تفسير أحكام المرشد الأعلى، وهكذا فإن وجهات نظره كانت تتمتع بوزن لدى صناع القرار، ولكن الحكومة لم تكن ملزمة بتطبيقها.
وبعد أن أغرق منتظري في نقد النظام، استُبدِل على وجه السرعة كخليفة لآية الله الخميني بالمرشد الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله لمدة خمس سنوات بداية من عام 1997م.
من النظام إلى المعارضة
ومن يومها أضحى مؤصل نظرية "ولاية الفقيه" رمزا إصلاحيا معارضا للنظام الإيراني، ولم تؤد فترة احتجازه إلى إسكات صوته الذي لم يهن رغم وصوله إلى الثمانينيات من عمره، وشهدت الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة له دورًا بارزًا في انتقاد النظام ومرشحه نجاد، وقد أصدر منتظري فتوى تدين حكومة نجاد، وخاطب منتظري حينها رجال الدين الإيرانيين بأنهم قادرون، ويجب عليهم أن يسعوا إلى الإصلاح.
وفي أغسطس الماضي وصف المؤسسة الدينية في البلاد "بالدكتاتورية" قائلا: إن تعامل السلطات مع الاضطرابات التي اندلعت في الشوارع في أعقاب انتخابات الرئاسة المتنازع على نتيجتها "يمكن أن يؤدي إلى سقوط النظام".
وكان قد كتب بعد أربعة أيام من انتخابات الرئاسة قائلا: "للأسف إن هذه الفرصة الممتازة (الانتخابات) استخدمت بأسوأ طريقة ممكنة"، ووصف إعادة انتخاب نجاد بأنه "أمر لا يمكن أن يقبله أي عقل سليم".
كما ندد وقتها بالسلطات لممارستها العنف والقمع تجاه المتظاهرين، واتهمها بـ"تصفية حساباتها مع المثقفين والناشطين والمفكرين وتوقيف العديد من مسئولي الجمهورية الإسلامية بلا سبب".
وكما يقول الدكتور محمد سليم العوا: إن قرار العزل، وإن كان موضع جدل بين المهتمين بالشأن الإيراني من حيث أسبابه ومدى تسويغها له، فإن قرار فرض الإقامة الجبرية لم يكن موضع رضاء أحد، ولكن فرضه اعتبار سياسي بحت، لم ينل من مكانة آية الله منتظري، ولا من تطلع الناس إليه وتقديرهم لتاريخه وكفاحه في سبيل الثورة الإسلامية.
ومن المؤكد أن الرجل الذي يرقد في قبره الآن قد مثل نقلة ثورية في تاريخ ثورة قامت على أساس أصله هو، وأصبحت تشعر بالارتياح الآن بعد أن سكت صوته إلى الأبد.
من أسرة مدارك