أخي الفاضل الأستاذ عبد الرحمن ..
بارك الله بك وبنواياك الطيبة التي لمست منها الدافـــع لإرسالك هذه القصة القصيرة التي تحمل عبرا ومثــلا ليست أمتنـا وشــبابنا ونســاؤنا بأشـد حاجـة إليهـا كثـر مما هم اليـوم. فالأمــم تكالبت علينـا، والطامعــون طمعـوا ليس في ثرواتنـا فحسـب، بل في تحقيق نـوازع غيظهـم لنـزع أي من قيـم الخيـر والاسـتقامة التي ربـانا عليهـا رسـولنا الكريـم عليه الصلاة والسـلام وفـق المنهـج والديـن الذي ارتضـاه اللـه لنـا.
أولسـنا - ونحن نواجـه مكر الصهاينـة ومن ولاهـم- بحاجـة إلى جرعـات ولو قليلـة من اليقيـن؟؟ صــدقني - عبد الرحمن- بأنه يتواجـد بين ظهـراني أمتنــا سـواء في غـزة المؤمنـة المظلومـة أو العـراق الجريـح بالإضـافة إلى العديـد من أوطـان المسـلمين نمـاذج كثيـرة مثـل أبي قلابـة (بطـل قصتنـا) .. ولربمـا هنـالك البعض ممن ذهب ظـلم وبطش الأعـداء وهمجيتهـم بنفوسـهم عن اتزانهـا لنجـد أن ابـا قلابـة كان محقـا في أنه يحمـد اللـه أن تـرك له عقـلا راجحـا يسـتعمله ليميـز به الحـق من البـاطل. وتلك لعمـري نعمـة أدنـى من نعمـة الديـن الذي هو عصمـة الأمـر.
إنني وإذ اسـوق المثـل والعبـر لاأقصـد أن أرفـع رايـة البطولــة لأقــول لمن يقـرأ كــلامي بأنني مثـل يحتـذى ســوف يخلدنـي التـاريخ في قصصـه كما خـلد أبـا قلابـة، أو يتحدث عنـي الإعـلام العالمـي كما تحـدث عن محمـد الدرة ووالــده المســكين. فــأنا رجـل أضعف من أن أحتمــل جــزء يســيرا مما احتملتــه ســيدة من ســيدات غـزة أو أب من أســر صبــرا وشــاتيلا، ولاأظننــي قـادر على هكـذا عـزم إلا أن يثبتنـي اللـــه بقولــه الثـابت، إلا أن الطريـق الصحيـح والنهـج الســليم والتصرف الحكيـم واضـح لكـل ذي عقـل .. سـواء تمكـن المؤمـن من الصبـر أو غلبـه الأسـى فقتلـه.
ولعـل الرجـل الذي صـادف - أبـا قلابــة - (حسـبما تروي القصـة) ذكـرني بحـال والـد محمـد الدرة، فبطـل القصــة الذي أقـــر بأن حزنـه على ولــد أبـي قلايـة لم يكـن ليـوازي حزنـه على أبيـه كــان محقــا تمــاما. وهكـذا كـان حـال الجميــع عندمـا روت لهـم الصـورة خـلال ثـوان حـال أب يدافـع عن ولـده وهـو يومـىء لمسـتهتر حقيـر من جنـد الصهاينــة .. أن كف عنــا فأنــا مدنـي وبيـن ذراعـي طفـلا .. ومـاكان من ذلك الجنـدي أو مجموعتـه إلا الإصـرار على قتـل الطفولــة لإرضـاء نزعـة الإجـرام والـدم لدى هـؤلاء القـوم ... ليس إلا.
إنهـم يحســدوننا لمجـرد أننـا نعرف اللــه ونقـدر الإنسـان .. فمابلك وهـم يعلمـون أن أراضينــا تختـزن الثــروات التي يتطلعـون إليهـا وهم بـدون شــك عبــاد للهـوى .. ترى كيف ســيعاملونا ؟؟ من هنـا أرى أن حاجتنــا لليقـن الذي يحملـه أبو قـلابة وأمثـاله، فنحن أمـة ســـدنا العـالم بالحكمـة والموعظـة الحســنة، ولاشـك بأنهـا المهمـة الأصعب. فترويض النفوس لايـأتي بالبطش والحـروب بــل يكون بالكلمـة الطيبــة. ولعــلك تعــلم بأن المـرأة الســبية في عهـد الفتوحـات الإسـلامية كانت تنـزع إلى اعتنـاق الديـن الإسـلامي نزوعــا، وتقبـل باليقيــن بديـلا حســنا عن زوجهـا الذي مـات في الحرب لتدخـل في سـهم رجـل من المســلمين يحتضنهـا ويحـافظ على كيانهـا ويعوضهـا عمـا فاتهــا .. زوجــا أم ولــدا ... يعوضهـا عنهمـا بأحســن ممـا فات. ولاأظن أن التعويض الذي قبلت به يخفـاك - عبد الرحمـن. إنهـا قبلت باللـه ورســوله بديـلا. أليس ذلك بكــاف ؟؟
دمت
هذه القصة القصيــرة وردت من الأخ عبد الرحمن سـليمان مشـكورا في معرض رده على قصيدة الوالدة (فنعم عقبى الدار). أشـكره من القلب واسأل الله أن يجمع لنـا خيري الدنيا والآخــرة وأن يديم الخيـر والأمن والسـلام على كل بقـاع الشـام وسـائر بـلاد المســلمين.
سَلآمٌ عَلَيْكُمْ بِمَآ صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقُبَى الدَّآرْ
كان هناك أحد الأشخاص ويدعى أبو إبراهيم يروي قصته فقال: كنت أمشي في صحراء .. فضللت الطريق .. فوقفت على خيمة قديمة فنظرت فيها فإذا رجل جالس على الأرض .. بكل هدوء وإذا هو قد قطعت يداه .. وإذا هو أعمى .. وليس عنده أحد من أهل بيته .. رأيته يتمتم بكلمات اقتربت منه وإذا هو يردد قائلاً : الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً فعجبت من كلامه وجعلت أنظر إلى حاله فإذا هو قد ذهبت أكثر حواسه .. وإذا هو مقطوع اليدين .. أعمى العينين وإذا هو لا يملك لنفسه شيئاً.
نظرت حوله .. أبحث عن ولد يخدمه .. أو زوجة تؤنسه .. لم أر أحداً أقبلت إليه أمضي .. شعر بحركتي فسأل : من ؟ من ؟ قلت : السلام عليكم .. أنا رجل ضللت الطريق .. ووقفت على خيمتك وأنت الذي من أنت ؟ ولماذا تسكن وحدك في هذا المكان ؟ أين أهلك ؟ ولدك ؟ أقاربك ؟ فقال : أنا رجل مريض .. وقد تركني الناس .. وتوفي أكثر أهلي قلت : لكني سمعتك تردد الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، فبالله عليك ! فضلك بماذا ؟!! وأنت أعمى .. فقير .. مقطوع اليدين .. وحيد. فقال : سأحدثك عن ذلك .. ولكن سأطلب منك حاجة .. أتقضيها لي ؟
قلت : أجبني .. وأقضي حاجتك.
فقال : أنت تراني قد ابتلاني الله بأنواع من البلاء .. ولكن الحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً أليس الله قد أعطاني عقلاً ؟ أفهم به .. وأتصرف وأفكر. قلت : بلى. قال : فكم يوجد من الناس مجانين ؟ قلت : كثييييير. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً ؟ أليس الله قد أعطاني سمعاً ؟ أسمع به أذان الصلاة .. وأعقل به الكلام .. وأعلم ما يدور حولي ؟ قلت : بلى قال : فكم يوجد من الناس .. صمٌ لا يسمعون ؟ قلت : كثيييير. قال : الحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً. أليس الله قد أعطاني لساناً ؟ أذكر به ربي .. وأبين به حاجتيز قلت : بلى. قال : فكم يوجد من الناس بكمٌ .. لا يتكلمون ؟ قلت : كثيييير. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً. أليس الله قد جعلني مسلماً .. أعبد ربي .. وأحتسب عنده أجري .. وأصبر على مصيبتي ؟؟ قلت : بلى. قال : فكم يوجد من الناس من عُبَّادِ الأصنام والصُّلْبَانِ .. وهُمْ مرْضَى .. قد خسروا الدنيا والآخرة ..؟ قلت : كثيييير. قال : فالحمد لله الذي فضلني على هؤلاء الكثير تفضيلاً.
ومضى الشيخ يعدد نعم الله عليه وأنا أزداد عجباً من قوة إيمانه .. وشدة يقينه .. ورضاه بما أعطاه الله. كم من المرضى غيره .. ممن لم يُبْتَلُوا ولا بِرُبْعِ بَلائِه .. ممن شلهم المرض .. أو فقدوا أسماعهم أو أبصارهم ..أو فقدوا بعض أعضائهم .. ويعتبرون أصحاء لو قارناهم به ومع ذلك .. عندهم من الجزع والتشكي .. والعويل والبكاء بل وضعف الصبر وقلة اليقين بالأجر .. ما لو قسم على أمة لوسعهم.
سبحت بتفكيري بعيييداً .. ولم يقطعه علي إلا قول الشيخ .. هاه ..!! أأذكر حاجتي ..؟ هل تقضيها .. ؟ قلت : نعم .. ماحاجتك ؟ فخفض رأسه قليلاً .. ثم رفعه وهو يغص بعبرته وقال: لم يبق معي من أهلي إلا غلام لي .. عمره أربع عشرة سنة هو الذي يطعمني ويسقيني .. ويوضؤني .. ويقوم على كل شأني ، وقد خرج البارحة يلتمس لي طعاماً .. ولم يرجع إلى الآن .. ولا أدري .. أهو حَيٌّ يُرْجَى .. أَمْ مَيِّتٌ يُنْسَى وأنا كما ترى .. شيخ كبير أعمى .. لا أستطيع البحث عنه. فسألته عن وصف الغلام .. فأخبرني .. فوعدته خيراً ثم خرجت من عنده .. وأنا لا أدري كيف أبحث عن الغلام .. وإلى أي جهة أتوجه ؟ فبينما أنا أسير .. ألتمس أحداً من الناس أسأله عنه. إذ لفت نظري قريباً من خيمة الشيخ جبل صغير .. عليه سرب غربان قد اجتمعت على شيء، فوقع في نفسي أنها لم تجتمع إلا على جيفة أو طعام منثور. فصعدت الجبل .. وأقبلت إلى تلك الطيور فتفرقت فلما نظرت إلى مكان تجمعها .. فإذا الغلام الصغير ميت مقطع الجسد وكأن ذئباً قد إنقضَّ عليه .. وأكله ثم ترك باقيه للطيور. لم أحزن على الغلام بقدر حزني على الشيخ. نزلت من الجبل .. أجر خطاي .. وأنا بين حزن وحيرة هل أذهب وأترك الشيخ يواجه مصيره وحده .. أم أرجع إليه وأحدثه بخبر ولده ..؟
توجهت نحو خيمة الشيخ .. بدأت أسمع تسبيحه وتهليله كنت متحيراً .. ماذا أقول .. وبماذا أبدأ مرّ في ذاكرتي قصة نبي الله أيوب عليه السلام .. فدخلت على الشيخ. وجدته كسيراً كما تركته ..سلمت عليه .. كان المسكين متلهفاً لرؤية ولده بادرني قائلاً : أين الغلام قلت : أجبني أولاً .. أيهما أحب إلى الله تعالى أنت أم أيوب عليه السلام ؟ قال : بل أيوب عليه السلام أحب إلى الله. قلت : فأيكما أعظم بلاءً .. أنت أم أيوب عليه السلام ؟ قال : بل أيوب. قلت إذاً فاحتسب ولدك عند الله.
لقد وجدته ميتاً في سفح الجبل .. وقد إفرسته الذئاب وأكلته، فشهق الشيخ .. ثم شهق .. وجعل يردد .. لا إله إلا الله .. وأنا أخفف عنه وأصبره .. ثم اشتد شهيقه .. حتى انكببت عليه ألقنه الشهادة، ثم مات بين يدي ..غطيته بلحاف كان تحته ثم خرجت أبحث عن أحد يساعدني في القيام بشأنه، فرأيت ثلاثة رجال على دوابهم .. كأنهم مسافرين .. فدعوتهم .. فأقبلوا إليّ فقلت : هل لكم في أجر ساقه الله إليكم .. هنا رجل من المسلمين مات، وليس عنده من يقوم به .. هل لكم أن نتعاون على تغسيله وتكفينه ودفنه، قالوا : نعم. فدخلوا إلى الخيمة وأقبلوا عليه ليحملوه .. فلما كشفوا عن وجهه تصايحوا : أبو قلابة .. أبو قلابة. وإذا أبو قلابة .. شيخ من علمائهم .. دار عليه الزمان دورته وتكالبت عليه البلايا .. حتى انفرد عن الناس في خيمة بالية قمنا بواجبه علينا .. ودفناه .. وارتحلت معهم إلى المدينة فلما نمت تلك الليلة .. رأيت أبا قلابة في هيئة حسنة .. عليه ثياب بيض وقد اكتملت صورته .. وهو يتمشى في أرض خضراء سألته : ياأبا قلابة .. ماصَيَّرَكَ إلى ماأرى ؟فقال : قد أدخلني ربي الجنة .. وقيل لي فيها: سَلآمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقُبَى الدَّارْ.