صلاح الدين
ليس لغزا


كتبها: فيصل الملوحي






تقديم:

ليس صلاح الدين لغزاً محيّراً ،ولا نبيّاً مرسـلا ، ولم يؤيده الله بمعجزات خاصة ، سوى ما وعد به المؤمنين بعامة ( إن يكـن منكم عشـرون صابرون يغلبوا مائتين من الذين كفروا ....)، لم يكن بدعاً من البشر، كانت له أخطاؤه، ومايشاع عنه قد يكون صحيحاً وقد يكون افتراء أو وجهة نظر، أو سوء فهم، كلّ مانحتاج أن تكون لدينا وسائل البحث التاريخيّ محاولة للوصول إلى الحقيقة، وإن كان الأمر ليس بهذه الضرورة الماسّة، فهناك ماهو أولى.


أن تعرف العدو من الصديق أمر تفرضه الحياة ، وإلا دمّرتك الحياة ، أن تتوجس خيفة من كيد العدوّ نزعة فطرية خلق الله الإنسان عليها . ولكن هل يقف الإنسان عند هذا الحدّ ، أم يفكر بالتخلّص من الخطر المحدق؟هل هذه الرغبة وهذا الاندفاع سياسة لا يقدر عليها إلا أهلها المحنّكون ، وروّادها المتميزون ؟!

ما كان لأمـة أن تتخاذل في الدفاع عن كيانها ووجودها ، بل يعلمنا التاريخ أن الأمة التي تندفع إلى المعركة المحتمة حين تُفرض عليها هي وحدها التي تحافظ على حياتها ، وأما الأمة المتخاذلة فتسحقها سنابك خيول الأعداء .

ونحن العرب في هذه الحقبة واجهتنا محنة وأيُّ محنة ، واجهنا هذا الكيـان الأخطبوط الذي يهدّد وجودنا وشخصيتنا وعقيدتنا ولغتنا وحضارتنا،ويزمع تحويلنا إلى خدم أذلاء ، بل أسـوأ من الخدم – وكلنا يعلم أن لهم عقيدة تجعلنا من غير البشر - .

فالفرد من عامّة الشعب ليس بحاجة إلى سياسة حين يفكّر بهذا الخطر ، ليس لك أن تُدخله في باب السياسة الآنيّة أو المرحليّة ، ولا المحلية أو الإقليمية ، ولن تجعله وزيراً ، ولا دارساً في كليّة الاقتصاد والسياسة ، لأنّ ما يدافع عنه حياته ووجوده .

ولكننـا – مع الأسف – نريد تثبيط همّة هذا الإنسان البسيط ، والخلـود إلى الراحـة والسكون ، فندعـو الله له أن يهيئ له قائداً كصلاح الدين الأيّوبي قاهر الصليبيين ، ولم نعلم أن الدعاء المجاب يصاحبه إعداد وعمل ، وليس تواكلاً ولا تخاذلا ، وكأنك تحسّ في انتظارهـم لظهور صلاح جديد بحثاً عن فرد ذي خصائص متفردة، ليس من طبيعة البشر الذين خلقهم الله . إنهم يفعلون ما يفعله عامة الناس بأبطالهم ، مندفعين إلى ذلك بحبهم الشـديد والإقرار بمآثرهـم العظيمة، فيضيفون من خيالهم صفات إعجازية خارقة، وأعمالا بطولية لا يستطيع القيام بها البشر.

ويجلس البسطاء يحلمون بظهور هذا البطـل الخارق، يتقبلّون الذلّ والفقر. هذا ما ألمسه اليوم من الدعاء لظهور صلاح الدين الذي ننتظر منه أن يخلصنـا من الكابـوس الذي يجثـم على صدورنا، ونحن قابعـون أذلاء إلا من ضحايا بريئة تقدم أرواحها ، ونذرف دموعنا حزنا عليهم ، نعلن عن عجزنا أمام اليهودية أو الصهيونية العالمية – مع اعتذاري للأطراف المتنازعة حول التفريق بين الدين اليهوديّ والحركة العالمية الاستيطانية ، وكلنا يعلم أنكل من جاء أرض القدس، وكل من أعانـه عليه من الخارج معنوياً أو مادياً مغتصب متوحش مهدد لوجودنا سواء اختلفنا فسماهم كل فريق منا باسم خاص به، أو اتفقنا على اسم واحد لهم .
تعبير العجز عن المواجهة، والركون إلى الظلّ انتظاراً لمنقذ من غير البشر– سواء أكانا عن فهم خاطئ ، أو خبث باطن– هما مصيبتا الشعوب. ولم يكن الأبطال في التاريخ سوى بشـر فاقوا غيرهم بمميزات فكرية وجسدية، وما كان الله لينعـم بها على الأمـم باستثناءات خاصة، وإنما وفق سنة أقرّها في كتابه الكريم { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .} .
نعم ! لقد تميز صلاح الدين على الناس ولكن بصفات لا نفقدها بيننا ، وكل ما ينقصنـا الإرادة والتصميم الصلاحيّان: أن نتخلص كلنا من حالة اليأس والقنوط ، وأن نبعـد عن عقولنا فكرة العدو الذي لايقهر، أن نلغي من قاموسنـا أن الصهيونيـة أو اليهودية – كما تحبّ أيها السامع – بلغت من التسلط والتجبّر إلى الحدّ الذي نعلن فيه عن عجزنا .
نحن نقرّ جميعاً بوجود أخطبوط يلف بأطرافه العالم يعتصره ويمتصّ دماءه، يسيطر على العالم بفكره واقتصاده ، ويغسل العقول البشرية بوسائل الإعلام التي يسيرها بفكره وماله، ولا يغيب عن بالنا مخططه الرهيب لاغتصاب أرض المسرى ومهد المسيح، لا ننسى تآمره من داخل الدولـة على السلطــان عبد الحميد الذي رفض بيع الأرض المقدسة ،لا ننسى اليهود الاتحاديين– الوجه العنصري الطوراني للمؤامرة - والماسونية – الوجه الإنساني الذي يخفي خلفه وجههم القبيح-، وتآمرهم من الخارج بالاتفـاق مع الإنكليـز والفرنسيين وتضليلهم في وعدهــم للعرب بإنشاء المملكـة العربية، وتسلسل الأحداث، ودعم الأمم المتحدة لهم في إنشاء دولتهم على حساب أمة ضعيفة ذليلة .لا ينكر كلّ هذا إلا جاهل أو مجُهَّل، ولكن الخطرالأعظم أن ننسى قدراتنـا، أن ننسى مقومات انتصاراتنا في تاريخنا، أن نستسلم، أن نقف مكتوفي اليدين انتظاراً للوحش الكاسر ليلتهمنا، أن ننسى أنهم جبناء لايقاتلون إلا من وراء جدر مشيدة، أن نتجاهل تآمرهم الذي لا يواجهون به الناس، بل يضللون ويمكرون . هل فقدنا عقولنا ومعلوماتنا وثقافتنا ، هل نعجز عن فضحهم أمام الأمم ، ألا يمكن أن نذكر إخواننا النصارى الذين يعيشون بين ظهرانينا والذين يعيشـون في ديار الغرب – وهـم أعلم بالأمرمنا– بتآمر اليهود ضدّ السيد المسيح – عليه السلام-، وبرأيهم في غيرهم أنهم أبناء الزنا..أن ننسى أن تضحيات المخلصين من أبناء بيت المقـدس وما حوله ترهبهم وتزلزل كيانهم – دون أن أذكر حسرتي عليهم لأنهم كما قال الشاعر :

كلما قالوا : تقـدّمْ .......قدّم الروح ، وأسلم


كلما قالوا : تراجعْ...... عاد للبيت يُقلّــــــمْ

وهم يحاولون بكل وسيلة خبيثة أن يقضوا على الأهالي في بيت المقدس وماحو له، أو أ ن يحوّلوهم إلى خدم وعبيد كما فُُعل بأجدادهم من قبل في مصر - في المرحلة الأولى .
لقد انتصر صلاح على الجيوش الصليبية التي أرسلتها أوربة متحدة– رغم خبث الداعين إلى تلك الحملات لاختلاف ظاهرهم عن باطنهم ، ضللوا الشعوب المسيحية وقالوا : خلّصــوا بيت المقدس من أيدي المسلمين الوثنيين- كلنا يعلم أن مسيحيي الشرق لم يُخدعوا بهذه الدعوة إلا عصبة قليلة منتفعة كان من بينهم مسلمـون وهو أمر غير غريب ، ففي كل الشعوب تجــد الضعفاء طمعاً أو حاجة أو جبناً – والحقيقة أنهم أرادوا التوسّع وزيادة ثرواتهم ، فهل تعتقدون أن اليهود – وهم يخدعون الشعوب – يمتلكون قـوة لا تقهـر؟! إن السلاح الذي يستخدمونه في تضليل الشعوب الغربية أوهى من بيت العنكبـوت، إن عرفنا الوصـول إلى عقـول الأوربيين وفكرهم ، ولكن هل يفعل ذلك العرب وهم يعيشون في عمق الغرب ؟
نعم! لن نقول : إننا في يوم وليلة سوف نقهر الصهاينة، فنحن أمام زبدة الحضارة الغربيـة تجمعت في بيت المقـدس وماحوله ، نواجهها بأمـة تمزقت وتشتت جماعات وفرقا متناحرة، وأفراد متخاذلين يبحثون عن لذة عابرة،وينسـون ألماً سوف يعتصـرهم في المستقبـل وقد يسحقهم ، ولكن لن نفعل كما تفعل العامّـة ، فنذهب إلى التشاؤم والسوداوية، لن نقول: إن اللوحة كلها سوداء كالحة، بل سنقول: إن لدينا من القدرات الفكرية والعلمية والنفوس المتلهفة ما نصنع به حضارة، ونبني به الأمة من جديد. إننا أولى بعلمائنا الذين يخدمـون الغرب بقدراتـهم العلمية التي يوجهها إلى ضرب أمتنا ، وذلك بعد إزالة الأسباب التي دفعتهم إلى الهجرة ، وإقناعهم أن ما يحصلون من ثروة وجاه سبّة عار في وجوههم ، قد نسمـع منهـم اليوم هزءاً وسخريـة مـن هذه( السفسطة) ، ولكن تأكدوا أن أعماق نفوسهم ترفض هذا القول، اسمعهـم في مجالسهـم يقولون : إننا نُتّهم بخيانة أمتنا ، ولكن هل قدّرت أمتنا ما تحمله عقولنا من علم ، وما تؤديه أيدينا من فعل؟! نعم! نحن لا نؤمن بمثل هذا القول ، ولكـن النفس البشرية ضعيفة، تخضع للإغراءات المادية والمعنوية، فلنكن صادقين مع نفوسنا ولنبحث عن كل وسيلة ليكون علماؤنا قوة لنا لا علينا. لماذا يهاجر عمالنا إلى الغرب، ولماذا يضمهم المجتمع الغربيّ ، أيستخدمهم عطفاً وشفقة، أم يأخذ منهم أكثرمما يعطونه لماذا لا يجدون عمـلا بين أهليهم وأحبابهم، ألا نؤمن يقيناً أن الإنسان ينتج أكثر مما يستهلك؟! تأكدوا أن العلماء والعمال خسارة معنوية لنا قبل أن تكون خسارة مادية ، إنهم العنصـر البشري الخـلاق الذي نزداد به قـوة ومنعـة . فهل نحن عاملون على استقطابهم وإعادتهم إلى حضن أمتهـم؟! ولو قبلنا بوجودهم – لسبب أولآخر– فعليهم واجب الدعاية لأمتهم والتعريف بحقها في الحياة الكريمة ، ورفعة مكانتنا ، واعتداء اليهود المغتصبين على حقنا في بيت المقدس وما حوله وحقوق الأوربيين التي يغتصبها في عقر ديارهـم، وأن الضجـة حول مذابح اليهود أخذت أكبر من حجمها ، وأن نسأل الأوربيين لماذا تندبون قتلى اليهود وتنسَوْن قتلاكم على أيدي النازيين، هل كانوا أقلَّ عددا ؟ !
ونستطيع في الداخل أن نفعل ما فعله صلاح الدين، أن نكون أمة واحدة تفكـر بقلب واحد ، وآمال وتطلعات لمستقبل واعد، وأن ننزع الحقد والأثرة من نفوسنا ،وأن نعلم أن شذوذ أحد منا عن الجماعة لن يفيده إلا في اللحظة الحالية ،وأن المستقبل لمن ذاب في الأمـة وعاش بها ولها ، إلا إذا أحبّ الانسلاخ عنها ، ونحن لا نظنّ بأصحاب الجاه والمال إلا أنهم يبقوْن أبناء هذه الأمة ولو فكروا بمكاسب مادية ظالمة ، ولا يمنع أن يفكر أعداد قليلـة منهم بالانســلاخ عن مجتمعهم ، والانتماء إلى مجتمع آخر، ولكننا لن نأسف عليهم .علينا أن نتوجه بكل طاقاتنا للبناء ، أن ننتظر الوقت الملائم لإعادة ما تدمر منا ، أن نعيش في حالـة سكـون إلا من وقائع جانبيـة تضطرنا فيها الظروف إلى الدفاع عن نفوسنا . بيد أن الخطر _ كل الخطر _ الخضـوع لمطالـب العدو بالتنازل عن قيمنـا وثقافتنا ، لأن ذلك لا يعني التخليَ عن كياننا ووجودنا فحسـب وإنما تحويلنا إلى خدم وعبيد كما يريدون لنا، وانظر إلى سادة البلد بالأمس– في بيت المقدس وماحوله– واسأل عما حلَّ بهم ،ألا تراهم يسألون اليهود العمل، ألا تسمع بشكوى العمال الذين تمنعهـم إسرائيل من العبور إلى مساكن السادة!!حيناً ليعملوا ويحصلوا على ( قوت الذي لا يموت)، ثم تسمح لهم حيناً آخر، وهي لا تستطيع التخليَ عنهم ، بيد أنها سياسة الاستعباد والإذلال.
لا أريد مما ذكرت وضع فلسفة ولا نظريات ، كلّ همي أن تكون لدينا الإرادة والإخلاص كما كانا عند صلاح الدين ، ومَنْ حول صلاح الدين ، فما كان لأمة أن تفوز بشخص فرد، وإنما بالتآزر والتكاتف .
ليس صلاح الدين لغزاً محيّراً ،ولا نبيّاً مرسـلا ، ولم يؤيده الله بمعجزات خاصة ، سوى ما وعد به المؤمنين بعامة ( إن يكـن منكم عشـرون صابرون يغلبوا مائتين من الذين كفروا ....)، لم يكن بدعاً من البشر، كانت له أخطاؤه، ومايشاع عنه قد يكون صحيحاً وقد يكون افتراء أو وجهة نظر، أو سوء فهم، كلّ مانحتاج أن تكون لدينا وسائل البحث التاريخيّ محاولة للوصول إلى الحقيقة، وإن كان الأمر ليس بهذه الضرورة الماسّة، فهناك ماهو أولى.

كم أمـينٍ كصــلاحٍ...... قـائـد للنــاس يَأْلَمْ


واحــــد مـنّا يقــينا..... ذلك القـهـرَ المُنَظَّم


واحد منا تقــدَّمْ......... غارة الليل المُقـتـَّم


واحد مـنّا تحـمَّــل....... ْ لَسْعَة الجوع المرجَّم


قائدٌ مـنّا رفـيــق.............. أنكر الذاتَ وأقـــدم


أخشى في ختام هذا البحث أن أدعو إلى آمال للمستقبل، فأقع بما انتقدته في هذا البحث ، ولكني أريد أن يكون ما نؤمن به واقعاً حيّاً نعيشه ، لا مخدّراً يغمرنا بالأحلام .