في مدينة مرو واحد من أكابر الرجال وأكملهم عقلاً وعلماً , أنه ذا دين قويم وورع وتقى . أتعلمون يا أحبة من هو هذا الرجل ؟ إنه نوح بن أبي مريم . أنعم الله عليه برزق وافر طيب فكانت له بساتين فيها من أطايب الثمار , وقد منّ الله عليه بابنة من أجمل النساء وأعقلهن حيث اجتهد في تربيتها تربية صالحة على منهج الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم , وقد خطبها إليه أكابر الرؤساء والولاة لكنه لم يكن لينعم بها على أحد , ورحل يوماً إلى بستان له وجلس يستريح تحت ظل شجرة بعد أن ناله التعب , وكان قد عهد من ذي قبل إلى مولى له يدعى مبارك بحفظ ثمار البستان وتعاهدها , فقال له : يا مبارك آتني بقطف عنب . فذهب مبارك حيناً وأتاه بقطف عنب , فأكل منه فوجده حامضاً , فقال يا مبارك إنه حامض , آتني بقطف غيره , فذهب وأحضر قطفاً آخر , فأكل منه فألفاه حامضاً . فقال : يا مبارك هو حامض , ألا تعرف الحلو من الحامض ؟ فقال : لا أعرف . فقال : أما أكلت منه ؟ فقال : لا لم آكل منه , فقال : ولم قال : أمرتني بحفظ الثمار وتعاهدها ولم تأذن لي بالأكل . وكان نوح قد كظم غيظه من مولاه , فكر مليّاً , فوجد أنه أمام شاب أمين , فقال : يا مبارك إني أريد مشاورتك في أمر . قال : ما هو يا سيدي ؟ فقال : إن لي ابنة أريد تزويجها وقد حرت في ذلك فبم تشير عليّ ؟ قال : يا سيدي , إنما تزوج المرأة لأربع إما لمالها وإما لحسبها وإما لجمالها , وإما لدينها وذلك هو الذخر يا سيدي , وهو ما جاءت به السنة النبوية الكريمة , ففكر نوح فوجد نفسه أمام رجل حكيم وأمين وقرر بينه وبين ذاته أن يزوجه ابنته , فقال : يا مبارك , إني أريد أن أزوجك ابنتي , فما تقول ؟ قال : كيف يا سيدي ! وأنا رقيق , فقال : لا عليك . فقال : اسألها يا سيدي قال : أفعل . وتوجه نوح إلى ابنته بهذا السؤال , ما تقولين إذا زوجتك من مبارك . فقالت : الأمر إليك يا أبي . واستأمر أمّها , فقالت : الأمر إليك . وتمّ الزواج المبارك . وأثمر وأينع طفلاّ هو عبد الله بن المبارك الذي ملأ أركان الأمة علماً وفقهاً وجهاداً وكان من خيرة العبّاد والزّهاد , وهذه بعض مناقبه :
1- مجمع على إمامته وجلالته في كل شيء .
2- تستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحبه . ورد ذلك في تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي رحمه الله تعالى حيث يقول عنه : " هو الإمام المجمع على إمامته في كل شيء , والّذي تستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحبه . "
3- حفظ مالا يقل عن عشرين ألف حديث وجمع إليها الفقه والأدب والنحو واللغة والشعر , ونزّه علمه ومعارفه عن البدع والمبتدعين .
4- شديد الخوف من الله عظيم الحذر من عقابه . وقد بلغ من شدة خوفه وورعه أنه استعار قلماً من رجل من بلاد الروم فعزم على أن يردّه إلى صاحبه فلما قدم عائداً إلى مرو نظر فإذا هو قد نسيه معه , فرجع إلى بلاد الشام ليرى صاحب القلم فيردّه إليه .
5- كان النموذج الأمثل في الزهد , فقد كان ينفق أكثر مما يجمع , وكان يغمر بعطائه إخوانه من طلبة العلم والفقراء , وسمع أن رجلاً يطالب بدين قدره سبعمئة درهم فكتب إلى وكيله أن يعطيه سبعة آلاف درهم .
6- طلق الوجه , حسن الصحبة لطيف الدعابة .
7- مجاهد شجاع مع خبرة عسكرية عالية بفنون القتال .
8- اتفق كل الّذين ترجموا لابن المبارك أنه كان يتجنّب أموال الأمراء والسلاطين وأعوانهم , فقد عرف بشدّة التورّع عنها ودوام الترفّع فوقها , وكان يوصي بتجنّب الأخذ منها .
تلك طائفة من مناقب الرجل فكيف بمناقب أبيه , فهذا غرس طيب من بذار طيب . والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : 1- مجلة حضارة الإسلام العدد الثاني السنة الحادية والعشرون .
2- شخصيّات استوقفتني : لأستاذنا الجليل فضيلة الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي أطال الله بقاءه , الطبعة الأولى : 1420 – 1999 . دار الفكر بدمشق .