روائع الأدب العالمي أربع: «الإلياذة» لهوميروس، و«الكوميديا الإلهية» لدانتي، و«دون كيشوت» لسرفانتس، و«فاوست» لغوته. هكذا كتب عبدالرحمن بدوي في صدر ترجمته رواية «دون كيشوت» التي يصادف هذا العام الذكرى السنوية الأربعمئة لنشر جميع أجزائها. هذه التحفة الأدبية المتجددة التي أثبتت ثراءً وقدرة بالغة على التجدد، كتبها الإسباني سرفانتيس في جزأين في 1605 و1615، مؤرخاً لميلاد أول رواية حديثة في العالم، ألهمت فلوبير، وحللها فرويد، وفُتن بها مارك توين وكافكا وبيكاسو ونابوكوف وبورخيس وأورسون ويلز.
لقد أثَّرت الرواية عميقاً في ثقافات وآداب وفنون العالم، وإنْ كانت ذات تأثير أقل في الثقافة العربية، كما يقول الدكتور محسن الرملي في أطروحته «أثر الثقافة العربية الإسلامية في دون كيشوت»؛ الذي يعزو سبب ذلك إلى التأخر في ترجمتها، وربما لكون شخصية مدَّعي الفروسية «المجنون/ الحكيم» لا تُعد مفاجأة للذهنية العربية كما هو الأمر بالنسبة إلى الغرب؛ فالتراث العربي حافل بكثير من هذه الشخصيات الذين اصطلح على تسميتهم بـ«عقلاء المجانين» أو «البهاليل». وفي المقابل ذكر أنَّ تأثيرات الثقافة العربية والإسلامية كثيرة وعميقة في الرواية، إذ تظهر فيها أكثر من 35 شخصية ذات خلفية ثقافية إسلامية، وما يزيد على 20 مثلاً وحكمة شعبية، وأكثر من 220 كلمة من أصل عربي، إضافة إلى تأثيرات تاريخية ودينية وأدبية، منها ما يتعلق بتَمَثل «دون كيشوت» سمات وآداب الفروسية العربية أكثر من الفروسية الغربية؛ فهو يدافع عن الفقراء والمظلومين واليتامى والأرامل والمهمشين، بينما كُرِّست الفروسية الغربية للدفاع عن الملوك وأصحاب السلطة والأغنياء.
ولقد صدر أخيراً كتاب للكاتب والمترجم ومؤلف القصص القصيرة إيلان ستافانز باسم: «دون كيشوت: الرواية والعالم» (2015) نذكر من مقدمته: يُظهر الكويكب 3552 بعض الغرابة وسلوكاً غير مألوف، فيصفه علماء الفلك بأنه جسم صغير يدور حول الشمس، ومع ذلك يتصرف وكأنه مذنَّب، إنه جِرم صغير متضائل، وهذا يعني أنَّ الكويكب قذف من نواته معظم الجليد المُتَطايِر؛ ومن ثمَّ فهو بلا حياة وغير قادر على توليد الطاقة في ذيله، مذنَّب من دون قوة، بمثابة نوع من التظاهر بالقيمة من دون دليل حقيقي، وبصرف النظر عن رقم الكويكب، أطلق عليه علماء الفلك اسم: «دون كيشوت».
كثيراً ما كانت تُستخدم رموز الأساطير اليونانية لتسمية الكواكب (المريخ، المشتري، زحل.. إلخ) وكذلك الكويكبات (أبولو، طروادة، قنطور، وما إلى ذلك). كما تمت تسمية قطع من الأجسام الفضائية بأسماء كتاب؛ مثل فرانز كافكا، وكورت فونيجوت. وشخصيات أدبية (سُميت أقماراً تدور حول أورانوس من شخصيات في مسرحيات شكسبير).
اكتشف الكويكب المعروف باسم «دون كيشوت» الفلكي السويسري بول وايلد عام 1983. والكويكب يبلغ قطره 12 ميلاً تقريباً، ولديه مسار مائل مثل المذنب، يعبر مدار المريخ، وكثيراً ما يضطرب بسبب قوة جاذبية كوكب المشتري. وجوده ضعيف؛ وعند نقطة ما، مثل الحطام في النظام الشمسي، يوشك أنْ يصطدم بالشمس؛ لكنه يتمكن من الهرب من تلك النهاية المأسوية.
وبعبارة أخرى؛ من المرجح أنْ يجول «دون كيشوت» إلى الأبد في كوننا الواسع؛ أيًّا كانت دلالة تلك الكلمة. أليست هذه حقيقة شخصية «دون كيشوت» التي أبدعها ميغيل دي سرفانتس؟ ألم يتسكع بلا هدف في خيالنا؟ أنا شخصياً، أجد أنه من المناسب تسمية الكويكب 3552 بما يمكن القول بأنه أفضل شخصية روائية من وجهة نظري في كل العصور. هو أيضاً مخادع إلى حد ما، جسم عابر لفق طريقه من خلال وجوده، مرور مصطنع لشيء لم يحلم بحياة بديلة.
كل منا يحلم بحياة مختلفة، وتمر علينا لحظات نتمنى لو كنا أشخاصاً آخرين. يمثل «دون كيشوت» هذه الشخصية الجذابة لأنه يجسد هذا الحلم، ونتيجة لذلك نُظر إليه على أنه مجنون مسجون في عالمه الذاتي. ولكن على عكس الحكمة الشائعة، فالحماقة ليست مناقضة للعقل، فيمكن للمرء أنْ يكون حكيماً أحمقَ وعبقرياً مجنوناً أيضاً. إذ يجتمع العقل والجهالة - في ما نسميه الجنون - وهما في الواقع وجهان لعملة واحدة، هي أنْ تكون كما تريد أنْ تكون. إننا في حاجة إلى ابتكار الذات واستكمال منطقها، أن نكون أحرارًا، نحن في حاجة إلى تحديد تعريفنا للحرية.
حين أنظر إلى الوراء أدرك أنني قضيتُ حياتي كلها راغبًا في أنْ أكون «دون كيشوت»، أو بالأحرى، مقلداً له؛ فهو أنسب لشخصيتي ويُكسبني شعوراً مريحاً بالحرية، لقد سعيتُ أنْ أكون أحمقَ وهمياً. أخذ إعجابي بـ«دون كيشوت» أشكالاً كثيرة في مكتبتي، ولديَّ مجموعة كبيرة منها؛ على سبيل المثال: إصدارات الرواية في لغات عدة (من اليديشية إلى الكورية، من الكيشوا إلى الكلينغونية)، ومجموعة متنوعة من الأعمال الفنية المستوحاة منها: مثل الأفلام، وتسجيلات العروض المسرحية، والكتب المصوَّرة، والطوابع البريدية. ومن المفارقات، أنها جميعًا تشبه البطل الذي يُتفق على أنه منتحل يتظاهر بأنه شخص آخر.
وبصرف النظر عن جمع كل أنواع التحف فإنَّ الرواية - كما كان يفعل ويليام فولكنر- تقرؤها مرة واحدة في السنة وتتعلم من بطلها إلى الأبد. كثيراً ما قابلت أشخاصاً عاطفيين وطلاباً مجتهدين حريصين على معرفة السرِّ وراء احتفاظ الرواية برقيها ومكانتها طويلاً! ولماذا ظلت نموذجاً للكلاسيكية على مدى قرون عدة. أبحاثهم دفعتني في اتجاهات شتى: ما الذي جعل بيكاسو يرسم الفارس المُطوِّف ومرافقه رسماً مبسطاً لا يزيد على خطوط قليلة بقلم رصاص؟ كيف نفسر سحر أورسن ويلز معه؟ لماذا أحبَّ جورج واشنطن الشخصية كثيراً؟ هل كان شارلي شابلن، أكثر من أسهم في نشر الرواية في القرن العشرين؟ هل هناك سبب في أنْ يحلم مترجمون مثل فرانسوا فيليو سانت مارتن بإضافة فصول جديدة إليها؟
أليس هذا ما نفعله جميعاً في الحياة؛ «العثور على هدف، أو مَهمة، لتبرير أيامنا»؟ عندما كنتُ شاباً أعجبتُ بـ«دون كيشوت» بسبب مثاليته، ولكني كما قلتُ عدتُ إلى زمن الكتاب، ومرة أخرى وجدتُ مصادر أخرى للإلهام. ربما الحبكة حول كونه مثالياً لا أحمقَ. على كل حال فإنَّ المرء عندما يصل إلى الخمسين لا يبحث عن شيء جديد للقيام به، ولكنه يصحح جميع الأخطاء السابقة إذا لم يكن الجنون جزءاً منها.
وأنا نفسي وصلتُ إلى سن بطل سرفانتس، وأنا أدرك أن هذه هي قصة منتصف العمر، مع وهن الجسم؛ لاسترداد أحلام نميناها في الحياة في وقت سابق. تقول الرواية إنَّ الواقع ما هو الا تَلْفِيق، وإنَّ ما نراه ليس موجوداً في الحقيقة، ولكنه ما نريد أنْ نراه. ولذلك، فقد قيل إنَّ سرفانتس شرَّع عدم الموضوعية، وأنه أثبت عالماً لم تعد الحقيقة مطلقة فيه. وقيل أيضاً إنَّ أعظم ما في رائعة سرفانتس الفنية أنها أعطت قوة في طريق عصر التنوير، ولَّدت الحداثة، وعلمتنا معنى القلق، والشعور بأننا نسير على غير هدى في العالم، بلا اتجاه، محاصرين في سجن شعورنا الداخلي بالوحدة. قال خورخي لويس بورخيس إنَّ سرفانتس أثار بشخصيته حال «نصف إله في وعينا» وأضاف، «رواية دون كيشوت تظهر متفردة في الأدب العالمي».
بندر محمد الحربي