س: ما المقصود بالذِّكْر؟
الذكر مأخوذٌ من التـذكّر, أي:أن تَذكُرَ عظمةَ الله وجلالِه و هيبتِـه، ليمتلئ الـقلب من خشيتـه رهبةً، فيخشى أن يقع في خطأٍ أو غفلةٍ، والله معه ويراه، أو أن يذكر إنعامَ الله وإفضالِه وإحسانِهُ عليه، ويذكر تـقصيرَهُ وجهلَه في معرفة الله ، فتغلب عليه الخشية فيقـشعر جلده ويبكي من خشيتـه، وتـلك الدمعة التي تُحَرِّمُهُ على النار، أو يذكر حبه الخالص لحبيبه الذي تولَّهَ الـقلبُ به، فيعـشقهُ ويهيم به، ويصبح ويمسى وهو يشاهد جمالَ أنواره ويأنسَ بالحضور معه، وبذلك يحجب عن الغفلات والخطايا فهو محفوظ بحفظ الله له، لأنه يحاسب نفسه على أنفاسه، فلا يخرج منه نَفَسٌ على غفلة، فمَنْ حَفِظَ الأنفاسَ كان عند الله من الأنفاس، وهذا مَثَـلُه في الناس كمثل الماس والياقوت بالنسبة للحجر، لا يعرف قدْرَهُ إلاّ مَنْ سلكَ نهجَهُ، أو كان خبيراً بذلك الجوهر الفرد.

س: ما المقصود بمصطلحات الحال والمقام والرابطة؟
إن هذه الألفاظ اتـفق عليها أهلُ السلوكِ، ليدلوا المريد أنه على استـقامة من سلوكه أو على مخالفةٍ وخَطَرٍ، وأهل الكمال لا يلتـفتون إلى هذه الألفاظ، ولا إلى مدلولها، لأنهم مستغرقون في التوجُّه إلى الله، حيث وضعوا نُصْبَ أعينهم (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي) فـشُغِلوا به عن الهوى، ووجّهوا المريدين لديهم ألا يلتـفتوا إليهان ونفصل ذلك فنقول :
الحال هو ما يحصل للمريد أوقات سلوكه من حالات تصفو فيها نفسُه، أو يدرك فيها أنْـساً، أو يشعر فيها بارتـقاء روحي، وطمأنينة تجذبه إلى الحضور في الذكر، ومثله كمثل رجلٍ يسيرُ في الطريق فيمر في طريقه على شجر وجبل ونهر ويرى في طريقه السيارات والألعاب والمتاجر، وهو مع ذلك يمشي وهي تـتحول عنه من منظر إلى آخر، فإذا وقف عند إحداها تأخر عن الوصول، وشُغِلَ عن الهدف المطلوب.
وأما المقام: فهو الخُلق الفاضل الذي يتمكن في قلبه، ويصبح جزءاً من وجوده، لا يفارقه، كالحياء مثلاً: يصبح ويمسي وهو يستحي أن يراه الله تعالى على خطأٍ أو مخالفةٍ، ويستحي أن يعص الله وهو يراه، فهو خلق يستـقيم معه حتى يلقى الله ، ومثله الحلم والصبر أو الصدق والإخلاص، فهذه كلها مقامات ينتـقل المريد إليها ويتخلّق بها وتصبح معه كالنور في العين والنطق في اللسان، والروح في الجسد، فتمكن في قلبه، وتسري في عروقه ودمائه، حتى تكون جزءاً من وجوده، لا يستطيع مفارقتها، ولن تـفارقه حتى يلقى الله عليها.
وأما الرابطة: فهي ارتباط المتعلم بالمعلم، رباط التهذيب والأخلاق والمحبة، ولقد رأينا بالاستـقراء أن الطالب المحب لمعلمه هو الذي ينتـفع به ويحفظ دروسه ونصائحه، وأما الطالب المستمع بدون حب لا يمكن له أن يحقق النجاح المتـفوق في مادة معلمه، فالحب هو أقوى معلِّمٍ ومهذبٍ، لذلك وجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى محبته الحب الصادق المخلص، فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده"، وقال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" .
فالارتباط هو ارتباط روحي فقط، كارتباط الطفل بثدي أمه، والسخلة بالشاة، حيث تـتبعها من غير حبل ترتبط به، وفي الرباط الروحي بين المتحابين في الله يسري بين الروحين تيّار نوراني تُغذي به الروحُ القويةُ الروحَ الضعيفةَ، حتى ترتـقي بها إلى كمالها واستـقامتها، فما وجدنا حبيباً ارتبط بحبيبه إلاّ اتّصفَ بصفاته الفاضلة، وتخلّق بأخلاقه الكاملة، وكثيرٌ ممن لا روح لهم ولا ذوق ولا يفقهون معنى الحب في الله ينكرون الرابطة التي هي الحب في الله، الذي رغّب الشرعُ فيه، ودلّ عليه وحبّب فيه، وهؤلاء نجدُ فيهم الجفاءَ وقلة الوفاءِ لمعلميهم، بل والتـنكر لمرشديهم، و" مَن لم يشكر الناسَ لم يشكر اللهَ ".
ولما سألوا الاسكندر: ما لنا نراك تعظِّمُ معلمَكَ أكثر مما تعظِّمٌ والدك ؟ قال: إني كنتُ روحاً في السماء فحطّني أبي منها إلى الأرض بلذته، وأما معلمي فقد رفعني من الأرض إلى السماء بروحانيته، وقيل في هذا:
أقَـدِّم أستاذي على حق والـدي وإن نالَني من والدي العِـزّ والـشَّرَفْ
فهذا مربي الروح والروح جوهر وذاك مُرَبي الجسمِ والجسمُ من صدف.
س: ماذا تعني الكرامة وما أثرها في سلوك الطريق؟
الكرامةُ فضلٌ إلهي يتـفضل الله به على العبد الذاكر الحاضر مع الله ، لتكون شحذاً لهمّـته، وتـشويقاً لروحانيته، ليزداد قرباً إلى الله وذكراً له، وظهورها على يد المريد توجيه إليه ليستـقيم على النهج الذي هو فيه، وإن من أكبر الكرامات استـقامة العبدِ على طاعته وملازمة ذكره وخشيته لله، والذاكر في الحقيقة عبدُ المكرِم لا عبدَ الكرامة، فأنت تطلب من الله الكرامة، والله يطلب منك الاستـقامة، فمن رأى الكرامة منحةً من الله بكى حياءً من الله، وقال: لست بأهلٍ لذلك، أخشى أن تكون هذه الكرامة امتحاناً واستدراجاً، فيخشى منها، ويتَّجِهُ بكليته لله في كل أحواله، أما من رأى الكرامة من جِدّه واجتهاده فهو عبد ممكور به، سوف يُسلَب النعمة، ويُحجَب عن العطاء ويُحرَم الفضل، ويرجعُ خائباً لا يلوي على شيء، فالفضل كله بيد الله، والله يهب الفضل لمن يشاء.

س: ما أثر الذكر في حياة المسلم؟
ذكر الله روح الـقلوب، وحياة الأرواح، ونور الأبصار والبصائر، وهو مدد العقول ومداد الألسن، الذكر سعادة الأُنس وصفاء الأنيس، الذكر غذاء وشراب وطرب، غذاء الإيمان وشراب العرفان وطرب الإحسان، وكما أن الجسد لا يحيا بدون طعام وشراب، كذلك الـقلوب لا تحيا دون ذكر، فهو رئتا المؤمن ودم وشرايين الحب.
والذكر شرط صحة الصلاة في بدايتها، وروح الصلاة في مناجاتها، وختام الصلاة بعد انتهائها، قال الله تعالى : (وَأَقِمِ الصَلاةَ لِذِكْرِي)، فجعل الذكر شرطاً لأنس الصلاة والحضور فيها، وقال تعالى : (وَاذْكُر رَّبَّك َفِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً )، لتستـقيم مناجاة المؤمن فيها ، ويشعر بعظمة من يقف بين يديه، فيمتلأ هيبة، فإذا انتهى من الصلاة سمع قوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ).
وذلك لتبقى حلاوة المناجاة وأنس الشهود دائمين في قلب المؤمن، وكذلك في الحج؛ أمر الله المؤمن بالذكر في جميع أحواله، وعند المشاعر، قال تعالى : (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَام)، فلا صفاء في الحج ولا صدق في القصد إلا إذا تخلل الذكر في كل الأحوال، وكذلك أمر بالذكر في الأسواق نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيرِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ)، وأمر بالذكر في الجهاد حيث الخوف والهلع وقطع الأعضاء والرقاب، قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، وفي الحديث الشريف: " علامة حب الله، حب ذكر الله، وعلامة بغض الله بغض ذكر الله "، فالذكر يجذب الـقلوب إلى خالقها ويحقق الأنس والطمأنينة في النفس: ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )، والاكثار من الذكر مطلوب من المؤمن، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً ) ، والذكر قلعة تحمي الجوارح من المعاصي والخطايا وتهيمن على الـقلوب فتحميها من الشرور والميل للشهوات، حتى يصبح العبد ملاكاً في روحه، ملكاً في جسده، ولولا خشية الإطالة لملأت الصحف بآثار الذكر وفوائده، والحق أقول: إن ما يذوقه الذاكر في حال ذكره لا يعبر عنه اللسان، ولا يحيط به عقلٌ ولا جَـنان.

س: ما صفات الشيخ المربي والعالم الرباني؟
أقول: ادرسْ حياةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه تجدها صورة منطبعة في أخلاق وأعمال ومعاملة الإمام الرباني، فهو أولاً لا يمكن له أن يرتـقي مقام التربية إلا إذا أذِنَ بالدعوة والتربية: ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بإذنِهِ ) (الأحزاب:46)فلو درست الجلال لرأيته متجلياً في عطفه وحنانه، ولو درست الرَّحمة لرأيتها صفة من صفاته، وكذلك لو درست الحلم والصبر لوجدتهما خلقين من خلقه، فهو الذي سرت فيه أنوار صفات الله، فكانت جزءاً من روحه، وسرت في عروقه آيات القرآن فكانت غذاء شرايينه، وتجمَّل وتحلى بسنة النبي عليه الصلاة والسلام فكانت زينة أعماله :
ولو بلغ الكمال نجم الثريا لكان ذلك من ترب نعله
ولو كانت البحار مداد علمه لجف مدادها من جود فضله
س: هناك من يجعل التصوف في مقابلة السلفية في العقيدة، وهناك من يرى أنه يمكن أن يكون سلفياً في عقيدته فيما يتعلق بذات الله عز وجل وصفاته وصوفياً في سلوكه وتربيته، وعلى ذلك لا تناقض بينهما، فما رأيكم في الاختلاف في مجال العقيدة بين السلف والخلف؟

دعونا من هذه التـفرقة التي جعلت المسلمين أعداءً لبعضهم بعضاً، فهذا سلفي ، وهذا سني، وهذا شيعي، كفانا تـشتـتاً وتـفرقةً وحقداً وعداوةً، لنعد إلى كتاب الله تعالى عند قوله: ( وأن هذه أمتكم أمة واحدة )
. ولنتجنب التـفرقة لئلا ينطبق علينا قوله تعالى : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) .
فالحقيقة هي أن المسلمين كلهم جسد واحد، فرق بينهم الجهل والاستعمار والجماعات والفرق، ولكل هدف ومصلحة، أما أهل الإخلاص في دعوتهم فهم الذين يؤلفون بين القلوب ويجمعون الشتات ويوحدون التـفرقة، فكل مؤمنٍ هو سلفيٌّ في اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، صوفي بروحه في حب الله ورسوله، شيعي في محبة رسول الله وآل بيته، سني في اتباع السنة المطهرة، لا يختلف بذلك اثـنان، فلْـننبذ التـفرقة والشقاق، ولنوحد صفوفنا وقلوبنا على كتاب الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإلهنا واحد ونبينا واحد وكتابنا واحد، وعقيدتـنا بالوحدانية واحدة، فلم الاختلاف؟ واقول وأنادي :
يا علماء الدين يا ملحَ البلـد ما يصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فـسد.
يا علماء الدين اتـقوا الله ونفذوا شرعه، وتـقيدوا بسنة نبيه وارموا أنانِيتَكم ونفوسَكم جانباً، وليكن طلبكم رضاء الله وحده، وتحقيق إنجاح الإسلام في المجتمعات، وائتـلفوا على كتاب الله وسنة رسوله، وتعاونوا لتكونوا السد المنيع ضد هجمات أعدائكم على دينكم، بذلك تبنون إسلاماً يمتد إلى الـقرون التي بعدكم، وإلا فإني أحذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود لا تبقي منكم ولا تذر، وستلـقون الله بآثامٍ كالجبال، آثام ضعف الدين وإهمال القرآن وشتات الأمة.
تعالوا نضع نهجاً سليماً للأجيال من بعدنا ليكون لهم نبراساً يتبعونه ويعتـزون به، ويرفعون راية الكرامة الإسلامية في الـقرون المقبلة.
هذا النهج هو أن تكون العقيدة الإسلامية قائمة على التوحيد الخالص لله وحده لا شريك له، نستمدها من آيات القرآن من غير فلسفة ولا تعقيد، ونجعل التزكية النفسية مستمدة كذلك من كتاب الله تعالى، لتصفى من كدوراتها وأهوائها، وتجذبها إلى إخلاصها ومقام إحسانها، وبذلك نكون قد جمعنا شتاتـنا، وألَّـفنا وحدتـنا، وصهرنا فُرقتَـنا بدين الله الإسلام، ولنـسعَ لِـنَمُدّ أيديَـنا لبعضنا، لنتعانق ونتعاون