نوارييل ومعلوف يتحدثان عن أوروبا واختلال العالم

نشر في جريدتي الرؤية العمانية / العرب الدولية

تحيلنا مسألة الهوية واثبات الذات حتما إلى إشكال أعمقوربما أخطر هو الصراع بين الشعوب لتكريس الثقافات، الأمر الذي أنتج نوعا من الإزدراءالناجم عن نظرة البعض إلى الآخر وتصنيفه في سلم متعدّد الدرجات.

في كتاب " شوكولا مهرّج أسود " للمؤلف جيرارنوارييل وهو مؤرخ فرنسي عمل لعدة سنوات في مجلس إدارة شؤون الهجرة ثم استقال منها فيعام 2007 ، وجاءت استقالته احتجاجا على إنشاء وزارة فرنسية جديدة باسم " وزارةالهوية الوطنية " وتحددت مهمة هذه الوزارة بكيفية المحافظة على صفاء الهوية الوطنيةالفرنسية وهذا يعني بدقة عدم السماح للمهاجرين وخاصة للسود والمسلمين المساس بالهويةالوطنية الفرنسية!

و" شوكولا " هنا هو مهّرج أسود مسرحي بارزلم يكن سوى أحد العبيد السود الذين كانوا يعيشون في الجزيرة الكوبية وقرر الهرب منهاإلى أوروبا و المؤلف نوارييل يحكي تارخ ظلم العنصرية الفرنسية من خلال شخصية" شوكولا " وأبسط أشكاله دفن " شوكولا " في مقبرة أحد الأحياءالمهاجرين السود ولم تتم اللحظة الراهنة بينما المهرج الأبيض المدعو "فوتيت"فإنه دفن في مقبرة " بيرلا شيز " والتي تضم رفات أكبر أدباء وفناني فرنساويجد ذكره في جميع الكتب التي تهتم بعالم المسرح والسيرك.

وقبل إنشاء وزارة " الهوية الوطنية " الفرنسيةأشار الكاتب " أمين معلوف " في كتابه " هويات قاتلة " إلى أن الفرنسيينباتوا لا تثيرهم العولمة ولا انترنت وذلك ناجم عن خوف أن هذا يؤثر على مكانتهم غداوثقافتهم ولغتهم ومنهم يرون أن العولمة مرادفة اليوم للأمركة ؛ لهذا يمتعضون من افتتاحمطعم للوجبات السريعة في حيّهم وحانقون على هوليوود والـــ"NN " وديزني والميكروسوفت ويطاردون في الصحف أيةصيغة يُشتبه أنها تتسم بالطابع الإنجليزي.

كل ما سبق عن " فرنسا " وهي جزء مهم في قارةأوروبا كأهميتها في الإتحاد الأوروبي ؛ لهذا يدفعنا تساؤل حاد ومتشعب : ما الذي أوصلفرنسا كمثال لمجمل أوروبا إلى هذا المستوى الحضيض من القلق تجاه كل ما هو خارجي؟ مامبعث الحساسية المفرطة تجاه كل منتوج لا يمثلها شخصيا ؟ وهل هذا قلق واقعي وحقيقي أمعابر وما تأثير هذا القلق؟

في كتاب " اختلال العالم " يطل علينا الكاتب" أمين معلوف " ليحكي لنا في بدء فصول الكتاب عن تخوّفه الشديد تجاه ما يحدثفي قارة أوروبا ؛ فهو يرى أن أوروبا ضيعت معالم طريقها لحظة انتصارها فحين انهار جداربرلين انتهت المجابهة بين الغرب والاتحاد السوفياتي وذلك أبعد خطر حصول زلزال نوويكان جاثما برعب طوال أربعين عاما!

أوروبا مذ حينها غدت حلما يطوق إليه كثير من الشعوب يدنونمنها مبهورين كما لو أنها جنة الله على الأرض؛ فهاجر إليها كل ما هب ودب وهنا أمينمعلوف يركز بقوله:" كان عليها أن تسأل عن من تضم ولأي غرض ؟ ومن كان عليها أنترفض ولأي سبب ؟ " هذا القبول العشوائي جعل أوروبا اليوم تسأل عن هويتها وخصوصيتها.. والقلق الأوروبي وضياع وجهتها يرى معلوف أنها جديرة بالقلق وهذا القلق شامل ويفسرلنا أسباب قلقه على قارة أوروبا تحديدا دون غيرها ؛ وأولى تلك التفسيرات هي أن أوروباتقدر خيرا من غيرها ضخامة التحديات التي يجب أن تواجهها البشرية ؛ لأنها حاملة مشروعتجميعي وانشغال أخلاقي شديد وإن كانت كما يرى معلوف تترك بعض الأحيان انطباعا بأنهاتضطلع بها دون اكتراث ..

أما بقية العالم العربي – الإسلامي يغوص أكثر وأكثر فيبئر التاريخية يبدو عاجزا عن الصعود منها ؛ وهو حاقد على الأرض كلها الغربيين والروسوالصينيين والهنود واليهود إلى آخره وعلى ذاته بالدرجة الأولى كما ذهب " معلوف"!

أما البلدان الأفريقية هي باستثناء حالات نادرة .. غارقةفي حروب أهلية وأوبئة ومتاجرات قذرة وفساد شامل وانحطاط للمؤسسات وتفكك للنسيج الاجتماعيوالبطالة الكثيفة والقنوط ..

وتعمل روسيا بشق النفس على الإبراء من سبعين سنة من الشيوعيةومن الطريقة الفوضوية لخروجها منها ويحلم قادتها باستعادة قدرتهم فيما لا يزال سكانهايذوقون طعم الخذلان ..

أما الولايات المتحدة فبعد أن صرعت عدوها العالمي الرئيسيوجدت نفسها تخوض غمار مشروع هائل ينهكها ويدفع بها إلى التيه وإلى أن تروض بمفردهاأو تقريبا بمفردها كوكبا يستحيل ترويضه.

حتى الصين التي تصعد لديها أسباب للقلق ؛ ومن خلال ماعرضه " أمين معلوف " يجعلنا ندرك تبئير الوضع العالمي ؛ فجميع شعوب الأرضفي مهب العاصفة بشكل أو بآخر سواء كنا أغنياء أو فقراء .. مستكبرين أو خاضعين .. محتلينأو تحت الاحتلال .. فجميعنا على متن زورق متصدع سائرين إلى الغرق معا .. لكن الجميعمشغول بالمشاحنات ولا يكفون عن تبادل الشتائم والتهم غير آبهين بتعاظم أمواج البحر.

ثم يضعنا معلوف بين مأساتين إحداهما شرقية والثانية غربية؛أما الشرقية تسلط المشكلة على مأساة العرب في كونهم فقدوا مكانهم بين الأمم وشعورهمبعدم القدرة على استعادته ..

أما المأساة الغربية هي اضطلاعهم بدور عالمي مبالغ فيهباتوا على المضي في ممارسته بشكل كامل ولكنهم عاجزون عن التخلي عنه .. وهذا الغرب بحدذاته أعطى البشرية أكثر مما منحتها أي حضارة أخرى في حقول عديدة في المعرفة والإبداعوالانتاج والتنظيم الاجتماعي وهلم جرا .. وقد برهن نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعيعن تفوقه ولكن انتصار " النموذج الغربي " في الميدان الاقتصادي هو في حدذاته أدى إلى إضعافها كما ذهب معلوف.

فقد برز نموذجان متعاظمان اقتصاديا كـ" الصين"و" الهند " وهما في موقع متنافس نهضتا كلاهما بصمت وبلا ضجيج ، وهما ماضيتانلتغيير توازنات العالم بشكل مديد وكلاهما يشكلان مزاحمين مخيفين وعدوين محتملين ؛ فهاتينالحضارتين مع مرور الزمن وفي مدى جيل أو جيلين سوف ينتقلان من التقليد إلى التكييفثم الإبداع وهما متأهلتان لذلك وقادرتان بعد احتكار التفوق الأوروبي الغربي على مدىقرون.

بل إن هذا التفوق واللجوء إلى التقليد الأروبي خلال تلكالسنوات الطويلة جعل أوروبا تفقد خصوصيتها وهذا يشكل مأزقا حقيقيا ليس في تجاوز حضارةبقدر ما هو فقدان خصوصية وتفوق.

وهذا سوف يزعزع عرش " الرجل الأبيض " بصورةجدية وعلى يد شعوب كان الغرب يراها متأخرة وأقل ابتكارا وعلى يد عالم كانت تسميه بالعالمالثالث.

أوروبا اليوم بين نارين .. بين نار آسيا ونار أمريكاوعليها أن تتقدم بسرعة وسط المنافسة التجارية والمنافسة الاستراتيجية من جانب أمريكاالمتفوقة في القطاعات الطليعية كالطيران ومجمل الصناعات التي تنتج أدوات حربية ناهيكعن عجز أوروبا في الهيمنة على مصادر التموين بالنفظ والغاز المتمركزة في الشرق الأدنىوفي روسيا بصورة أساسية.

أمين معلوف في كتابه " اختلال العالم " يضعقارة أوروبا في قارورة ضوئية مشعة يوّد لو يحكم عليها الغطاء ؛ كي لا تشملها عواملالسلبية التي تحدث في بقية العالم وقد بين أسبابه في ذلك ؛ ولكن يبدو أن ذلك محال.

فأوروبا اليوم مثلها مثل بقية العوالم في العالم تعانيمثلها و تسعى إلى الحفاظ على خصوصيتها التي بدأت فعلا في فقدها بعد أن فتحت الأبوابللجميع ؛ ففي الماضي هويتها كانت شاملة ومنحتها بسهولة للجميع ولكن عندما تفشى عددالمسلمين في بقعتها جعلها هذا تراجع حساباتها وبل تخالف الديمقراطية التي تعّود منهاالعالم خاصة العربي الإسلامي ؛ فأخذت تفرض قوانينا على المسلمين وأخذت تضيق الخناقعلى الهجرات وأصبحت حذرة من كل ما يأتيها من رياح التغيير ومن مصادر ليست أوروبية خاصة.

وغدت تلملم هويتها وذلك من خلال انشاء وزارات مختصة بالهويةالوطنية؛ أي بالمجمل الواضح مثلها مثل العالم العربي الإسلامي الذي كان يريد التأوربوفي الوقت نفسه لا يريد الخضوع لسيطرة الدول الأوروبية التي كانت مسيطرة على بلدانها.

وأوروبا اليوم لا تريد أن تخسر رهان الديمقراطية التيعرفت بها طوال قرون خروجها من عصور الظلامية إلى نور الانفتاح في أن تضيّقها أو تضعهاعلى أرجوجة غير ثابتة في مبادئها فتمنع وتقمع وتفرض عنصريات تارة وتارة أخرى تقّر للعالمبأحقية الحريات.

مما لا شك أوروبا اليوم تحيا صراعا لم تكن تتخيله يوما.. فهم كانوا يعتقدون أن " نهاية التاريخ " يكون حين يذوب العالم كله سلميافي قالب الغرب الظافر ؛ وتاريخ اليوم يقول ويشهد بغير ذلك ..

ليلى البلوشي
Lailal222@hotmail.com