مكتبات بغداد
ذاكرة الحضارة الإنسانية
محمد عيد الخربوطلي
عندما يذكر اسم مدينة بغداد تستيقظ الأسماء النائمة من سباتها في ليالي الذكريات وتنشطها الذاكرة ومع الناشط يتخيل المرء قوة أبي جعفر المنصور وشجاعته وعلو همّته التي ورثها عن البغداديون منذ تحويله المكان المغمور الذي كان يسمى بغداد إلى عاصمة العالم منذ سنة 145هـ/762م، والتي سمّاها المدينة المدورة تماشياً مع هندستها المعمارية فكانت اسماً على مسمّى، وكلفته 882 ألف دينار.
وشهدت بغداد أروع السنوات في عصر القوة أيام هارون الرشيد، وفيها ازدهرت الصناعات الدقيقة ومنها أرسل الرشيد هدية إلى شارلمان تتضمن ساعة دقاقة مما لم تكن تعرفه أوروبا في ذلك العصر، وكانت ساعات جامعة المستنصرية عجيبة من عجائب الدنيا وقد صنعها الساعاتي تغلب البعلبكي سنة 634هـ/1243م قبل اجتياح هولاكو بأربع وعشرين سنة. إنها بغداد العاصمة العالمية التي دمرت على يد هولاكو المغولي ومن جديد دمّرت على يد هولاكو الأمريكي الجديد، إنها بغداد العلماء والحضارة والمدارس والمكتبات، هذه المكتبات التي جمعت نتاج العقول وعمل المبدعين على مر العصور، هذه المكتبات التي تناوبتها مصائب الدهر ونوائب الزمان وواجهت حقد الأعداء، فماذا حلَّ بها، وماذا كان مصيرها؟ هذا ما نعرفه في هذه الجولة السريعة على مكتبات بغداد.
ـ العراق أرض الحضارة
ثبت للمؤرخين أن أرض العراق كانت معمورة وآهلة في العصور الحجرية وفي مرحلة ما قبل الطوفان، وقد وُجدت آثار الإنسان الأول في الكهوف وفي الجبال الشمالية، والشمالية الشرقية، حيث عُثر على آثار من العصر الحجري القديم (الباليوليني) والتي يعود تاريخها إلى ما قبل مئة ألف سنة، كما عثر في منطقة (كريم شاهر) في محافظة كركوك و(ملفعات) على نهر الخازر في محافظة نينوى و(كردجاي) على الزاب الأعلى على آثار تعود إلى العصر الحجري المتوسط (الميسوليني)، ويقدر زمنها بما يزيد على عشرة آلاف سنة، كما عُثر على آثار من العصر الحجري الحديث (النيوليني) الذي بدأ قبل نحو عشرة آلاف سنة، وفي هذا العصر أو ذاك تعلّم الإنسان فلاحة الأرض وزراعتها، ثم سكن في بيوت الطين، ودجَّن الحيوانات، وأصبحت له حياة اجتماعية، ومعتقدات دينية، وعُثر على آثار من العصر الحجري المعدني، يعود تاريخها إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وفي هذا العصر أو ذاك، اكتشف الإنسان المعادن وصنع منها أدواته المعدنية، إلى جانب الأدوات المصنوعة من الحجر.
وهكذا تعاقبت أدوار الحضارات الأولى في بلاد النهرين، واتصلت كل سلسلة منها بالتي تلتها، وصولاً إلى عصر بداية الكتابة والأدب (البروتوليتريت) حيث بدأ الإنسان بعد أن استنبط الكتابة بتدوين تاريخه، وترك آثاراً مكتوبة.
وإذا تتبعنا الحضارات التي قامت في بلاد ما بين النهرين، نجد أنها من أغنى بقاع العالم في آثارها القديمة، في تنوع الحضارات التي نشأت فيها، بدءاً من حضارات السلالة السومرية الأولى في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، ثم الحضارة الأكَّادية (2350-2159 ق.م) والحضارة الكوتيَّة (2210-2116 ق.م)، وسلالة بابل الأول (1894-1594 ق.م)، ثم قامت بعد ذلك مملكة (الكِشِّيُّون 1680-1157 ق.م)، وجاءت الحضارة الآشورية، وتلتها الحضارة الكلدانية (626-539 ق.م)، ثم الحضارة الفارسية الأفمينية (550-330 ق.م)، ثم الحضارة السلوقية (312-139 ق.م)، ثم حضارة (الفرثيون الآريُّون 139 ق.م ـ 226 بعد الميلاد)، ثم الساسانيون (226-637م)، ثم جاءت الحضارة العربية الإسلامية. هذه الحضارات المتعاقبة على العراق تركت لنا أكثر من 600 ألف موقع أثري.
ومن أهم المكتشفات حتى اليوم، مكتبات وادي الرافدين، التي تعدّ من أقدم المكتبات المعروفة في العالم حتى اليوم، إذ كشفت الحفريات الأثرية التي أجريت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عن وجود مجموعة من المكتبات القديمة في وادي الرافدين، وبلاد ما بين النهرين، تعود لعهود مختلفة قبل الميلاد.
أهم المكتبات العراقية القديمة
ـ مكتبة لَكْش (3200-2750 ق.م)، اكتشف فيها مئات الرقم الطينية أثناء الحفريات العشوائية وبيعت إلى خارج العراق، بعدما كانت محفوظة في دار السجلات بالمدينة، كما وجد في المعبد الرئيسي أكثر من حجرة مليئة بالرُّقم وبأحجام مختلفة، بعضها مكدَّساً، وبعضها الآخر منظماً فوق الرفوف، أما الألواح الصغيرة فكانت محفوظة ضمن قوارير ضخمة.
ـ مكتبة نيبور (2270-2200 ق.م) وتسمى مكتبة نُفَر، اكتشف فيها عدّة آلاف من ألواح الطين المشوي، تحوي موضوعات مختلفة كالحساب والطب والآداب والسحر والتنجيم وغير ذلك..، وكانت هذه الألواح فوق رفوف من الطين أو من جذوع النخيل، ضمن دور منفصلة وحجرات ملحقة بدور أخرى خصصت لحفظ السجلات.
وفي عام 1889 عثر في المكتبة على (2000) لوح، وفي عام 1890 عثر على (8000) لوح، وفي عام 1896 عثر على (20) ألف لوح، وفي عام 1898 عثر في خزانة معبد أتليل وفيها (23) ألف لوح...
ـ مكتبة نينوى، ويعتقد أنها أعظم مكتبة عرفها العالم القديم، وتعود شهرتها إلى الملك آشور بانيبال (668-626 ق.م)، ويعتقد البعض أنها تفوق مكتبة الإسكندرية، والبعض الآخر يرى العكس.
وآشور بانيبال هو أحد ملوك أسرة سارجون الآشورية، وكان يتمتع بثقافة عالية، ومعارف واسعة، وكان عصره عصر حضارة وازدهار، اهتم بجمع آداب بابل وآشور، وجمع كل الألواح التي كانت محفوظة في المعابد، وعين نساخاً لتكملة الناقص منها، وختم هذه النصوص ووضعها ضمن مكتبة عظيمة، ولكنها اختفت بعدما غزا الميديُّون والكلدانيون مدينة نينوى ودمروها في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، وأشعلوا فيها النار، لكنها لم تؤثر في الطين فخرجت سالمة من الكارثة، حيث اكتشف فيها أكثر من (25) ألف لوح طيني.
ـ مكتبات بغداد
كان اسم بغداد معروفاً قبل المنصور، إذ كانت بغداد في أيام مملكة العجم قرية يقيم بها الفرس في كل سنة سوق عظيمة يجتمع بها في ذلك الموسم التجار، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا السواد، ذكر للمثنى بن حارثة الشيباني أمر سوق بغداد فقصدها، وهذا يستدل منه على وجود بغداد قبل الفتح الإسلامي، وبدأ الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور في سنة 145هـ/762م في بناء مدينته المدورة المشهورة (بغداد) على الضفة اليمنى من نهر دجلة في الزاوية المتكونة بين مجرى الصراة ومجرى دجلة شمالاً وسمّاها مدينة السلام، وذلك بعد أن استشار الحكماء والعسكريين فوجد مكانها مناسباً لإقامة عاصمة ملكه... وهكذا بدأت بغداد مسيرتها.. لتصير أهم عاصمة عربية إسلامية على طول التاريخ العربي الإسلامي.
وباعتبار بغداد العاصمة قصدها العلماء والأدباء والفقهاء والشعراء، فشهدت حركة علمية قلّ نظيرها، وعرفت المكتبات العامة والخاصة، ومكتبات المساجد والمدارس، ومكتبات الخلفاء والوزراء والعلماء والأعيان والقضاة وموسري الحال، وسنتحدث في رحلتنا هذه عن بعض هذه المكتبات وما حلَّ بها من نكبات وكوارث، إلى أن نصل إلى مكتبات بغداد في بداية القرن الحادي والعشرين وما فعل بها المستعمر الأمريكي مدّعي الديمقراطية.
أولاً: مكتبات الخلفاء ببغداد
كان الخلفاء العباسيون من أكبر المشجعين على ارتياد مناهل العلم والإقبال عليه، وقد بذلوا في ذلك المبالغ الطائلة، فأسسوا المدارس وأعمروا الخزائن بالأسفار النفيسة، بالإضافة أن قصورهم كانت منتدى يتبارى فيه الشعراء والأدباء والعلماء.
كما كان الخلفاء يتاورثون الكتب بالرغم مما كان يصيبها من رزايا ومصائب بسبب الفتن والأحداث السياسية (فدائماً الكتاب هو الضحية) فخزائن كتب الخلفاء كانت تجمع أنفس الكتب وأثمنها، ولكن هذه الخزائن انحلّ أمرها بانحلال الخلافة وتبعثرت كتبها، ولاشك أن مجيء المغول إلى بغداد كان من أشد الضربات عليها، فبعضها نقل، وبعضها أغرق، وبعضها أحرق، يذكر ابن الساعي وغيره أن المغول حين سقوط بغداد بيدهم 656هـ/1258م بنوا اسطبلات الخيول ومعالفها بكتب العلماء عوضاً عن اللَبِن، كما أنهم بنوا جسوراً على دجلة من الكتب لعبور جنودهم عليها.
ويذكر ابن الفوطي في الحوادث الجامعة أن نصير الدين الطوسي قدم إلى بغداد سنة 662هـ/1263م فجمع منها كتباً كثيرة لأجل الرصد الذي أنشأه في مراغة، ومعظم ما جمعه من مكتبات الخلفاء، ويذكر ابن خلكان أن ما أخذه بلغ (400) ألف مجلد.
ومن مكتبات الخلفاء ببغداد نذكر:
1 ـ مكتبة أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م)
كانت له خزانه كتب كما ذكر الخطيب البغدادي في ترجمة محمد بن اسحق، ويذكر صاعد الأندلسي.. أن المنصور كان أول من عني بالعلوم من خلفاء بني العباس، وكان مع براعته في الفقه وتقدمه في علم الفلسفة وخاصة في علم صناعة النجوم كَلِفاً بها وبأهلها.
وفي عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة.. أن الطبيب جورجيس بن بختيشوع (ت 152هـ/769م) نقل للمنصور كتباً كثيرة من كتب اليونانيين إلى العربية، كما ذكر أن ابن البطريق كان أحد التراجمة في أيام المنصور، فقد أمره بنقل أشياء من الكتب القديمة.
2 ـ مكتبة الرشيد والمأمون (الحكمة)
كانت مكتبة الحكمة ببغداد من أعظم خزائن الكتب في الإسلام على اختلاف عصوره ودوله، لأنها حوت كل نفيس، ولم تكن كتبها إلا نتاج ثقافات شرقية وغريبة مختلفة (عربية وفارسية وسريانية ويونانية وغيرها) بواسطة النقل والتعريب الذي ازدهر أيام الرشيد ومن بعده المأمون.
عرفت المكتبة باسم بيت الحكمة ودار الحكمة، بدأ بتأسيسها هارون الرشيد كما ذكر ابن النديم في الفهرست وغيره، ثم علا شأنها وبلغت أوج عزَّها وازدهارها أيام خلافة المأمون (ت 218هـ/1833م) الذي امتاز عن غيره من خلفاء بين العباس بثقافته الواسعة، وبمحبته العظيمة للعلم وذويه، وبميله الظاهر إلى الفلسفة.
يذكر ابن نباتة المصري في ترجمة سهل بن هارون... أن المأمون جعله كاتباً على خزانة الحكمة، وهي كتب الفلاسفة التي نقلت للمأمون من جزيرة قبرص، وذلك أن المأمون لما هادن صاحب هذه الجزيرة أرسل إليه يطلب خزانة كتب اليونان، وكانت مجموعة عندهم في بيت فأرسلها إليه، واغتبط المأمون بها كثيراً وجعل سهل بن هارون خازناً لها، كما أنه راسل ملك الروم وطلب منه كتب الحكمة من كلام أرسطو، وأرسل بعض العلماء لينتقوا الكتب المفيدة من بلاد الروم فعادوا بأحمال وأمرهم بترجمتها، فترجمت في أيامه كنوز اليونان إلى العربية، فانتشرت كتب الفلسفة والطب والموسيقى والرياضيات والطبيعيات وغير ذلك، لذلك تفردت مكتبة الحكمة بما فيها.
وقد عمل في المكتبة كبار العلماء مثل بنو موسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن، والخوارزمي وحنين بن إسحاق وابنه اسحق وابن أخته، وثابت بن قرة وغيرهم...
ويؤكد المؤرخون أن المكتبة ضمت مؤلفات بلغات مختلفة، فكان فيها أسفار باليونانية والفارسية والآرامية والهندية والقبطية، فضلاً عن العربية، ويذكر ابن النديم في الفهرست أنه كان فيها كتاب بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد آدم، وحكى المسعودي أنه رأى فيها عدّة مصورات بلدانية.
نهاية المكتبة
لقد سطع نور هذه المكتبة في أيام المأمون، ثم خبا بعد ذلك، حيث تعاقبت الفتن على بغداد، وكثرت البلايا بتوالي السنين، كل ذلك تضافر على الحط من مكانة هذه الخزانة وإيصالها إلى حال فقدت معها سالف مجدها، وصارت كتبها إلى الضياع أو التلف.
3 ـ مكتبة المستنصر بالله (المستنصرية) (ت 640هـ/1242م)
ذاعت شهرته بما له من مآثر عمرانية لاسيما مدرسته المستنصرية التي ذكرها المؤرخون والكتّاب، وأطنب في وصفها الشعراء، أسسها سنة (630هـ/1232م) في الجانب الشرقي من بغداد، وكانت أول جامعة إسلامية علمية عُنيت بدراسة علوم القرآن والسنّة والمذاهب الفقهية وعلوم العربية والرياضيات ومنافع الحيوان وعلم الطب وتقويم الأبدان.
وبعد أن فرغ المستنصر من بنائها نقل إليها يوم الافتتاح مكتبة عظيمة تحتوي كل العلوم والآداب، حملها _160) حمالاً، وأكّد كثير من المؤرخين أنه وضع فيها أكثر من (80) ألف مجلّد، وبعد الغزو المغولي عادت إلى مسيرتها وإن قلّت كتبها، إلا أنها استمرت في التدريس حتى تعطلت أيام تيمورلنك.
نهاية المكتبة
انتابت المكتبة نكبات عديدة فزعزعت أركانها، وأهمها عندما استولى المغول على بغداد وتدميرهم معالم العلم والعمران فيها، وأحرق الكثير منها كما أخذ الطوسي الشيء الكثير ونقله إلى مراغة، لكنها زالت من الوجود في زمن تيمورلنك الذي لم يبق في المكتبة كتاب واحد، ويذكر كوركيس عواد أن كتاباً واحداً من بقايا المكتبة محفوظ في الخزانة الوطنية بباريس، وهو كتاب (ربيع الأبرار) للزمخشري.
4 ـ مكتبة المستعصم بالله (قتل 656هـ/1258م)
آخر الخلفاء العباسيين ببغداد، جمع من خزائن الكتب ما اشتهر ذكره في بطون التواريخ، ويذكر المؤرخ ابن عبد الحق البغدادي... أنه كان للمستعصم خزانتا كتب، ويذكر الأرموي أن المستعصم عمر خزانة وكان له نسّاخ ينسخون له، ونقل إليها نفائس الكتب، لكنها انتهت بدخول المغول وقتله، وصارت أثراً بعد عين.
ثانياً: مكتبات الوزراء ببغداد
عُرف جماعة من وزراء الدولة العباسية بميلهم للعلوم والأدب، وضربهم بسهم وآخر في ميدان البحث والتأليف، فقد كان أحدهم يجمع إلى السياسية الأدب والعلم بالتاريخ والدين واللغة والطب وغير ذلك من العلوم، لذلك عيّن جماعة منهم بجمع خزائن كتب جليلة، نوّه بذكرها المؤرخون، ومن هذه المكتبات...
1 ـ مكتبة يحيى بن خالد البرمكي (ت 190هـ/805م) مسجوناً، كان الرشيد يعظمه فقد نشأ معه فأوكله بإصدار الأمور وإيرادها إليه، إلى أن حلَّت النكبة بالبرامكة، وغضب عليه الرشيد فسجنه ومات بسجنه، كان يحيى محباً للآدب مكرماً للأدباء والشعراء، مقدماً عليهم بالعطايا والهبات، وجمع مكتبة عظيمة، لكن أمرها.. انتهى بانتهاء أمر البرامكة.
2 ـ مكتبة مؤيد الدين ابن القصاب (ت 592هـ/1195م)، كان أبوه يبيع اللحم ببغداد، أما هو فنشأ مشتغلاً بالعلوم والآداب، فبرع في كثير منها حتى تولى كتابة الإنشاء ثم الوزارة سنة 590هـ/1193م)، أيام الخليفة الناصر لدين الله العباسي، وقاد الجيوش في خوزستان فجمع بين رئاستي السيف والقلم، أنشأ مكتبة في درب الخياطين ببغداد ووقفها على الطلاب، وكانت مليئة بالكتب النفيسة، ولكن لحقها ما لحق غيرها من نهب وحرق وسلب.
3 ـ مكتبة ابن العلقمي مؤيد الدين (ت 656هـ/ 1258م)، كان وزيراً للمستعصم آخر الخلفاء العباسيين، جمع خزانة كتب حافلة في داره، يذكر ابن الفوطي أنه افتتحها سنة 644هـ/ 1246م، وكان فيها أمهات الكتب، ومدحها الشعراء بفرائد القصائد، ويؤكد ابنه أنه كان فيها عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب.
4 ـ مكتبة علاء الدين عطا ملك الجوميني (ت 686هـ/ 1283م)، لمع نجمه في صدر تاريخ المغول في العراق، فقد حكم بغداد مدَّة، وكان له يد طولى في البحث والتأليف، وقد أحرز مكتبة نفيسة، وصفها محمد رضا الشبيبي في إحدى محاضراته بقوله... وترجع شهرة الجويني مضافاً إلى عبقريته السياسية ونجاحه في إدارة شؤون الدولة المغولية ولاسيما في العراق، إلى غزارة علمه، وإلى آثاره الممتعة في الأدب والسياسة والتاريخ، وتشجيعه للتأليف والمؤلفين في شتى الفنون، وقد كتب ابن الفوطي لمكتبته كثيراً من الكتب، ومنها تاريخه الكبير، كما أهدى ابن ميثم البحراني شرح نهج البلاغة له.
ويذكر بعض المؤرخين أنه دخل خزانة ألموت بعد القضاء على الإسماعيلية فيها واختار من نفائس كتبهم العديدة من كتب وآلات فلكية.
ثالثاً: مكتبات عامة ببغداد
لا نظن أن مدرسة من مدارس بغداد أو مسجداً جامعاً، أو غير ذلك من معاهد العلم ومشاهد المعرفة كانت تخلو من خزانة كتب، بل إن بعضها كان ذا خزائن جسيمة تحفل بأمهات الأسفار وأعيان التآليف، إلا أن أغلب أخبار تلك الخزائن العامة قد ضاع بضياع الكتب ذاتها، وكثير من المؤرخين لم يعنوا بتدوين أخبارها، ومن هذه المكتبات الكثيرة نذكر...
1 ـ مكتبة سابور بن أردشير (ت 416هـ/ 1025م) أسس دار العلم ببغداد، كانت هذه المكتبة مفخرة أدبية رائعة، ومأثرة أسداها إلى عشاق البحث، لقد جمع بين الأدب والسياسة، فخلد التاريخ ذكره بها.
وزَرَ أبو نصر سابور بن أردشير بهاء الدولة البويهي، كما وزر لشرف الدولة، وكان كاتباً سديداً عفيفاً عن الأموال كثير الخير، أنشأ مكتبة ببغداد في محلة الكرخ سنة 381هـ/ 1991م، ووقف عليها الوقوف وسماها (دار العلم) ووقفها على أهله، ونقل إليها كتباً كثيرة ابتاعها وجمعها وعمل لها فهرساً، وعين لها خزنة علماء، وقد ذكر ابن الأثير في الكامل وابن الجوزي في المنتظم وغيرهما... أنه كان فيها أكثر من عشرة آلاف وأربعمئة مجلد من أصناف العلوم، منها مئة مصحف بخطوط بني مقلة، وكانت هذه المكتبة موئلاً للعلماء والباحثين، يترددون إليها للدرس والمناظرة والمباحثة، وممن وردها أبو العلاء المعري (ت 449هـ/ 1057)، كما كان جماعة من العلماء يهبون مؤلفاتهم لها.
نهاية المكتبة
لم تعش هذه المكتبة طويلاً، بل لم يتجاوز عمرها سبعين عاماً، لأن الأحداث الجسام التي حلَّت ببغداد وشعثت مجدها كان لها أسوأ الأثر في هذه المكتبة وغيرها.
يذكر أبو الفرج بن الجوزي في جملة حوادث سنة 451هـ/ 1059م... احترقت بغداد الكرخ وغيره وبين السورين، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها سابور بن أردشير الوزير، ونهبت بعض كتبها، فجاء عميد الملك الكندري وأبعد عنها العامة واختار لنفسه من الكتب خيرها بعدما أنقذت من الحريق.
2 ـ مكتبة المدرسة النظامية ببغداد
تعد المدرسة النظامية ببغداد من أشهر مدارس بغداد وأقدمها، بناها الوزير نظام الملك (ت 485هـ/ 1092م) وبقيت عامرة عدة قرون، إلى أن تهدَّم بنيانها وزال أثرها زوالاً نهائياً.
ضمت هذه المدرسة مكتبة عظيمة، جُمعت شراء وإهداء ووقفا، وممن وقف مكتبته عليها المؤرخ البغدادي محب الدين ابن النجار (ت 643هـ/ 1245م) صاحب كتاب (ذيل تاريخ بغداد)، وقد بلغت مكتبته خزانتان.
في سنة 510هـ/ 1116م كاد يصيب هذه المكتبة مصيبة دهماء، فقد ذكر ابن الأثير ببغداد، فاحترقت الأخشاب التي بها، واتصل الحريق إلى درب السلسلة... واحترقت خزانة كتب النظامية، وسلمت الكتب لأن الفقهاء لما أحسوا بالنار.. نقلوها.
كما يذكر أنه في سنة 589هـ 1193م أمر الخليفة الناصر لدين الله بعمارة خزانة الكتب بالنظامية ونقل إليها من الكتب النفيسة ألوفاً لا يوجد مثلها من خزانته الخاصة.
وقد بلغت مجلدات هذه المكتبة في أيام ابن الجوزي (ت 597هـ/ 1200م) جملة آلاف، فقد قال في (صيد الخاطر)... ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، لكنها تشتت شملها وتبعثرت كتبها بتوالي الأحداث عليها، وانتهى أمرها وصارت في خبر كان.
3 ـ مكتبة الرباط الخاتوني السلجوقي
وقف هذه المكتبة الخليفة العباسي الناصر لدين الله (ت 622هـ/ 1225م) في تربة زوجته سلجوقة خاتون بباب البصرة من الجانب الغربي في بغداد، فقد توفيت سنة (584هـ/ 1188م)، ومن شدة حزنه عليها بنى على قبرها رباطاً عُرف بالرملة، واختار من مكتبته الخاصة الشهيرة كتباً عديدة أوقفها على الرباط، كما أوقف نجم الدولة شرابي الخليفة الناصر خمسمئة مجلد على المكتبة في سنة 615هـ/ 1218م.
كان في المكتبة كتب نادرة، فقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه للأدباء في ترجمة علي بن فضال القيرواني (ت 479هـ/ 1086م) أن له كتاب الدول في التاريخ وهو كتاب عظيم الحجم، كان منه نسخة في مكتبة هذا الرباط، وقال.. رأيت منه ثلاثين مجلداً.. لكن في منتصف القرن التاسع عشر فاض نهر دجلة فذهب القبر والرباط والمكتبة والآثار في الماء.
4 ـ مكتبة المدرسة البشيرية ببغداد
كان للخليفة المستعصم حظية أنجبت له ابنه أبو نصر، ومن أعمالها الخيرية إنشاؤها مدرسة ببغداد عرفت باسم المدرسة البشيرية، وقد افتتحتها سنة 653هـ/ 1255م، وجعلتها للمذاهب الفقهية الأربعة، ووقفت عليها مكتبة لطلاب العلم.. لكن الزمان عبث بها.
رابعاً: المكتبات الخاصة ببغداد
يتعذر لأي باحث حصر هذا النوع من المكتبات، لأن بيوت العلماء والمؤلفين وصدور الناس لم تكن تخلو من المكتبات الصغيرة أو الكبيرة، فالإحاطة بأخبار المكتبات الخاصة متعذرة لفقدان المراجع القديمة التي تذكرها، ولضياعها بمرور الزمن خاصة إذا وصلت إلى قوم لا يحظون بالعلم، فتتبدد على أيديهم ويتفرق شملها، فكم من عالم مات وتبعثرت كتبه على أيدي أولاده أو ورثته الجهلة الذين لا يكترثون لها، كذلك حوادث الحرق والغرق والتمزيق، وفعل الأرضة والحشرات، هذا غير الفتن والاضطرابات المختلفة وما يتبعها من انتقام من الكتب، خاصة عندما تتحكم فتنة طائفية بها، أو استعمل الإرهاب الفكري، هذا الإرهاب الذي حرمنا من مكتبات ضخمة كثيرة بحرقها وضياعها، ومن المكتبات الخاصة ببغداد...
1 ـ مكتبة الواقدي: أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ/ 1822م) ببغداد، ولي القضاء ببغداد للمأمون، صنف كثيراً من الكتب النفيسة، لم يصل إلينا منها إلا القليل.
كان له مكتبة حافلة بآلاف التصانيف، ذكرها طائفة من المؤرخين، فقد أورد الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد... أن الواقدي لما انتقل من الجانب الغربي إلى مكان آخر حمل كتبه على عشرين ومئة وقر... وقال ابن النديم في الفهرست.. إن الواقدي خلف بعد وفاته ستمئة قمطر كتباً، كل قمطر منها حمل رجلين.
2 ـ مكتبة اسحق بن إبراهيم الموصلي (ت 235هـ/ 849م)، كان شاعراً أديباً وعالماً أخبارياً، وماهراً في علوم كثيرة، بالإضافة إلى أنه كان أعلم أهل زمانه بالغناء وأضربهم بالعود وبأكثر آلات الطرب، نادم الرشيد والمأمون والواثق... كما ألف كتباً كثيرة، ذكر ابن النديم في الفهرست حوالي أربعين كتاباً له ضاعت كلها.. وكان قد جمع مكتبة خاصة به، يذكر الخطيب البغدادي في تاريخه وياقوت الحموي في معجم أدبائه أن الأصمعي قال: خرجت مع الرشيد إلى الرقة، فلقيت اسحاق الموصلي بها، فقلت له: هل حملت شيئاً من كتبك؟ فقال: حملت ما خفَّ، فقلت: كم مقداره؟ فقال: ثمانية عشر صندوقاً، فعجبت وقلت: إذا كان هذا ما خف، فكم يكون ما ثقل؟ فقال: أضعاف ذلك، وذكر ابن خلكان في وفياته أنه كان كثير الكتب.
3 ـ مكتبة العصفري (ت 269هـ/ 882م) أبو اسحق إبراهيم بن منقذ العصفري، أحد ثقات المحدثين ببغداد، كانت له خزانة كتب احترقت على ما ذكره السمعاني في الأنساب.
4 ـ مكتبة علي بن يحيى المنجم (ت 275هـ/ 888م)، قال ياقوت كان شاعراً راوية علاَّمة أخباريا، اشتهر بجمعه للكتب، فقد كان له ببغداد في ناحية كركر بالقفص ضيعة نفيسة فيها قصر فاخر، جعل فيه خزانة كتب عظيمة يسميها (خزانة الحكمة)، يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة لهم، وكانت نفقة إقامتهم على حسابه الخاص.
5 ـ مكتبة ابن الدَّهان النحوي (ت 569هـ/ 1173) له تآليف عديدة في النحو واللغة والأدب، وصفه معاصروه بسيبويه عصره، كان له خزانة كتب كبيرة، ذكرها ابن خلكان في وفياته، وياقوت في معجمه للأدباء، والصفدي في كتابه النادر نكت الهميان، وخلاصة أمرها... أنه ترك بغداد وانتقل إلى الموصل قاصداً الوزير جمال الدين الأصبهاني فأقام في كنفه مدة، وكتبه في بغداد، فاستولى الغرق تلك السنة عندما فاض دجله على المنطقة كلها، فأرسل من يحضرها إليه إن كانت سالمة من الغرق، فوجدها قد غرقت، وكان خلف داره مدبغة فغرقت أيضاً وفاض الماء منها إلى داره، فتلفت الكتب بهذا السبب زيادة على الغرق الأول، وكان قد أفنى عمره في تحصيلها، فلما حُملت على تلك الصورة، أشاروا عليه أن يطيّبها بالبخور ويصلح منها ما يمكن، فبخرها باللاذن (نوع من العلوك) ولازم ذلك إلى أن بخرها بأكثر من ثلاثين رطلاً لاذناً، فطلع ذلك إلى رأسه وعينيه فأحدث له العمى وكُفَّ بصره، وكان الغريق سنة 545هـ/ 1150م.
6 ـ مكتبة ابن الجوزي (ت 593هـ/ 1200م)، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن المشهور بابن الجوزي البغدادي الذي كتب بأصبعيه ألفي مجلدة، وكما كان كثير الكتابة كان كثير المطالعة، فقد ذكر عن نفسه في كتابه (صيد الخاطر) أنه قرأ أكثر من عشرين ألف مجلد أثناء طلبه للعلم، وترك أكثر من (300) مؤلفاً، وكانت مكتبته الخاصة يتحدث عنها كل من رآها أو دخلها، لكن كُتب لها أن تتبعثر في حياته، ومن قبل ابنه، يقول حفيده (سبط ابن الجوزي).. ومن أولاده أبو القاسم علي... هو الذي أظهر مصنفات والده وباعها بيع العبيد، وذلك حينما ابتلي والده بالسجن وأرسل إلى واسط، فتحايل عليها ابنه بالليل والنهار حتى أخذ منها ما أراد وباعه ولا بثمن المواد، ومن شقاوته أنه ساعد أعداء أبيه، ويذكر أيضاً في مرآة الزمان.. إن جده سخط عليه لأنه باع كتبه بثمن بخس، وعن محنته وسجنه يذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن عبد السلام بن عبد الوهاب الجيلي كان قد وشى بابن الجوزي إلى الوزير ابن القصاب، حتى أنه أحرق بعض كتبه نكاية فيه وختم كل الباقي وسجنه خمس سنوات، وكان ابنه يتحايل على الختم ويسرق من المكتبة ما يبيعه.
المكتبات الكبيرة في بغداد في القرن العشرين.
عرفت بغداد في القرن العشرين الكثير من المكتبات العامة والخاصة ومكتبات الجامعات والمكتبات الوقفية والمكتبات المتخصصة، كما عرفت مكتبات تابعة لمؤسسات معينة، ومن أشهر مكتبات بغداد.. المكتبة الوطنية، مكتبة الأوقاف، مكتبة الجامعة المستنصرية، مكتبة اللغات القديمة التابعة لهيئة الآثار والمتاحف، مكتبة المجمع العلمي العراقي، وكثير من المكتبات الأخرى ومراكز المخطوطات، ومراكز التوثيق والأرشيف.
1 ـ المكتبة الوطنية
تأسست من قبل لجنة أهلية عام 1920 باسم مكتبة السلام، ثم ألحقت عام 1924 بوزارة المعارف وسميت المكتبة العامة، وشكلت أساساً للمكتبة الوطنية عام 1961 وألحقت بوزارة الثقافة والإرشاد، وأصبحت مركزاً للإيداع الوطني عام 1970، قدرت محتوياتها في منتصف السبعينات بـ 61744 مجلداً، وقبل الغزو الأميركي 2003 كان فيها مليون ومئتا ألف كتاب، بالإضافة إلى 450 ألف وثيقة تتعلق بالعهد الملكي الهاشمي في العراق، لكنها نُكبت على أيدي الجيش الأميركي، حيث نُهبت المكتبة وأحرقت مرتان، الأولى في 14 نيسان 2003 والثانية بعد أسبوع من هذا التاريخ، وذلك حسب تقرير (أرنو) وإن صح ذلك فإنه يعني أن عملية الحرق الثانية حصلت وقد سيطرت قوات الاحتلال سيطرة كاملة على بغداد، وحسب مشاهدات الصحفيين يوم الاثنين 14 نيسان لم يبق من القاعة الرئيسية غير الأدراج الخشبية ومكتب الإعارة الذي لسبب ما لم تلتهمه النيران، في حين تفحمت الجدران والسقف، وكانت هناك أكوام من الرماد، وبقيت الأرضية دافئة من آثار الحريق حتى يوم الثلاثاء، وفي الباحة كانت هناك لفائف طويلة من المايكروفيلم، وقد توقفت أربع عربات مصفحة أمريكية أمام المبنى دون أن تقوم بأية خطوة لمنع النهب، وبناء على أقوال ياسين الحسيني المستشار السابق في المكتبة والشاهد على العملية.. كانت عملية النهب منظمة، إذ حضر اللصوص بثلاث سيارات وكانوا يحملون (شوالات) وبعد أن اقتحموا المبنى، وأخذوا ينقلون الكتب داخل الشوالات، وحسب تقرير (أرنو) دُمِّر الطابق الأرضي بما في ذلك قاعة المطالعة، وأضرمت النار بشكل منظم، ألقيت بطاقات الفهرسة على الأرض... جمعت الكتب في عدة نقاط وأضرمت فيها النار باستخدام مادة حارقة خاصة، فالتهمت النار أكوام الكتب والرفوف المعدنية بشكل كامل، ويعني هذا أن درجة الحرارة كانت مرتفعة جداً إلى حد أنها أحرقت حتى هيكل المبنى نفسه، واستخدم الأسلوب نفسه في حرق المحفوظات الوطنية الموجودة في مبنى المكتبة الوطنية في الطابق الثاني، ولم يبق إلا طبقة سميكة من الرماد، وقد تمكن (روبرت فيسك) الذي كان شاهداً على عملية الحرق في 14 نيسان من إنقاذ عدد من الوثائق المكتوبة بخط اليد، كانت تتطاير في الهواء خارج المبنى، ومن المؤكد أنها موجودة حالياً لدى صحيفة الإندبندت.
مكتبة الأوقاف العامة
تعود فكرة تأسيس مكتبة الأوقاف إلى عام 1922 لغرض تجميع الكتب المبعثرة في المساجد في مكان واحد، فتقرر أن يكون مبنى المكتبة في القسم المتهدم من مسجد الملا محمد الجبوري في باب الآغا، وبعد إعادة بناء المكان جمعت الكتب وافتتحت المكتبة في 27 تموز 1928، وتنقلت المكتبة بين عدة مواضع، واستقرت عام 1966 في مبنى يقع في حديقة المعرض في باب المعظم، وضمت المكتبة كتباً جمعت من المساجد والمدارس ومن بينها خزائن النعمانية والإمام الأعظم، وفي منتصف السبعينيات ضمت 25 مجموعة وقفت عليها، وكانت وزارة الأوقاف تبتاع للمكتبة مطبوعات من العالم العربي والمطبوعات العربية من إصدارات أجنبية عن طريق مكتبة لوزاك في لندن، وتعمل على تصوير المخطوطات من خزائن الكتب في تركيا، وفي عام 1969 كان فيها 17751 مجلداً، وفي عام 1975 وصل العدد إلى 110 آلاف مجلد، و4396 مخطوطاً عربياً و257 مخطوطاً فارسياً وتركيا وكرديا، ثم ارتفع العدد إلى 6300 مخطوط، ومن بينها مخطوطات نادرة لا يوجد مثيل لها في كل مكتبات العالم.
تعرضت المكتبة للنهب والحرق في 14 نيسان 2003، وأفادت التقارير الصحفية أنه لم يكن بالإمكان التعرف على كتاب أو مخطوط واحد بين الرماد الأسود داخل المكتبة، وحسب تقرير (أرنو) أحرقت المكتبة هذه بالكامل وبالأسلوب نفسه المستخدم في حرق المكتبة الوطنية، ولم يبق من المكتبة إلا الجدران الخارجية، طبعاً هذا بعد نهبها، فقد كانوا ينهبون المخطوطات ويحرقون المطبوعات، وجاء في التقرير أن حوالي 40% من المخطوطات و90% من الكتب المطبوعة قد فقدت إمام بالنهب أو بالحرق.
مركز صدام للمخطوطات (البيت العراقي للمخطوطات)
قام أسامة ناصر النقشبندي المدير العام للمخطوطات في وزارة الثقافة بنقل المخطوطات في المركز إلى مكان آمن قبل أسبوع واحد من بداية الحرب، وذلك بعد أن وضعها في 337 صندوق، لكن وحدة المختبرات والترميم التابعة للمركز نهبت.
وينقل علوي بن طه الصافي عن أسامة النقشبندي قوله... أنه نجح بمساعدة العاملين في دار صدام للمخطوطات من إدخال أكثر من ثمانية ملايين صفحة من الوثائق والمخطوطات العراقية في أجهزة الحاسوب من أجل الحفاظ عليها، وجعلها في متناول الباحثين، لكن عدداً كبيراً من هذه المخطوطات والوثائق النادرة التي نجت من دمار هولاكو، ومحرقة طغرل بك السلجوقي وقعت بأيدي همج القرن الحادي والعشرين بعد أن استباحوا بغداد وعبثوا بمقدراتها.
مكتبة المجمع العلمي العراقي
كان فيها أكثر من خمسين ألف كتاب باللغة العربية، وعشرة آلاف كتاب باللغة الكردية والسريانية، نهبت كلها مع المخطوطات التي كانت محفوظة فيها.
في يومين دمرت حضارة وقضي على تاريخ
الحقيقة أن الجيش الأميركي الهمجي دمر في يومين حضارة أمة وضيع هويتها وقضى على تاريخها، وذلك بتخطيط مسبق أُعِدَّ له من سنين عديدة، فهذا (ماجوا برجيسون) أستاذ الحفريات في جامعة شيكاغو يقول (... إن نهب آثار العراق كان مخططاً له منذ اثني عشر عاماً).
والحقيقة المرَّة هي أن هولاكو وغيره قد دمروا مكتبات كثيرة في الشرق كله، لكنهم لم يدمروا الآثار، ولم ينهبوا الكنوز المختبئة في باطن الأرض... أما أميركا وأعوانها فلم يتركوا شيئاً إلا ونهبوه من آثار حضارة العراق، فقد دخلوا إلى المتاحف وكأنهم يعرفون كل قطعة أين هي موضوعة، ولا نستغرب إذا عرفنا أن بعض المحتلين كانوا يحملون معهم مفاتيح خزائن القطع الأثرية والمهمة، ويقول (فيسك).. بعد تفريغ متحف بغداد من نوادره أصدرت واشنطن أمراً بتدمير تراث بلاد الرافدين القديم... إن ما حصل في العراق كان مخططاً له من قبل، فالذي حصل هو بالفعل كما صرح (دوني جورج) مدير البحوث والدراسات في المتحف لوكالة الصحافة الفرنسية قائلاً (... إنها عملية قرصنة منظمة.. تمت تحت حماية الدبابات الأميركية)، وقال (سيترلين): (... عمليات السرقة المنظمة تترجم تهديدات جورج بوش الابن ومبادراته التخريبية في العراق على أرض الواقع)، وقد نشر الباحث الفرنسي (هوغو راتغ) تحقيقا في مجلة (الباري ماتش) ومما جاء فيه قوله: (... أجمع علماء الآثار والمؤرخون ومدراء متاحف غربيون وجامعوا التحف الأوربيون على أن أسواق تهريب الآثار (والمخطوطات) ازدهرت كثيراً بعد غزو العراق، فعندما كان القصف يدمر العراق كانت الآثار تصل صالات بيع الآثار وتباع بأسعار عالية).
وأخيراً...
بعد عودة موظفي متحف بغداد لمعاينة ما حدث فيه من تدمير ونهب قالت (نبيهة أمين) نائب مدير المتحف وهي تنظر إلى لوحة سومرية مكسورة إلى نصفين.. انتهى إرثنا.. لماذا فعلوا هذا... لماذا؟ وهي تتعجب مما حدث، وكأنها لا تعرف أن كل الذي حدث للعراق كان كرمى للعصابات الصهيونية، لدولة إسرائيل... فقد جاء في تصريح الجنرال (انتوني زيني) لقناة (سي ـ بي ـ إس) إن المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية شجعوا الحرب على العراق لصالح إسرائيل... وتقول تقارير المراقبين إن حرب أميركا على العراق هي نيابة عن إسرائيل... وقالت (كوندوليزا رايس)... إن أمن أميركا هو أمن إسرائيل، بلدان العالم كله أمنه ينبع من أمن إسرائيل، وقد أكدت رايس ذلك بقولها لوزير الحرب الصهيوني شاؤول موفاز بعد أسابيع قليلة من احتلال العراق.. لقد خضنا هذه الحرب من أجلكم، وقد خلصنا إسرائيل من طاغية كان يهدد أمنها.
إنها ديمقراطية أميركا في القرن العشرين التي تريد فرضها علينا، وما أبشع قول جورج بوش... عندما قال: إننا نغزو أماكن الجهل والظلام..! يا للعجب من هذا القول، فبلد حضارته عمرها عشرات الآلاف من السنين يوصف بالجهل والظلام، وهل يوجد جهل في بلد عرف المكتبات منذ آلاف السنين (لكش ـ نيبور ـ نينوى)، وهل يعرف أهل بلد الجهل وفيه أنشئت دار الحكمة وآلاف المكتبات، وعلى أرضه بُنيت المدارس، فالمدرسة المستنصرية وحدها كان فيها أربعة آلاف حجرة، وفي مكتبها ثمانون ألف مجلد في كافة العلوم، عندما عرفت بغداد هذه الجامعات أين كانت حضارة أميركا...؟ هذه الحضارة التي بنيت فوق أكثر من مئتي مليون جثة قتلت من أصحاب الأرض الأميركية الأصليين، إنها بغداد العراق التي خرج منها علماء كانت مؤلفاتهم أساس النهضة العلمية في أوروبا في العصور اللاحقة.
من المصادر:
1 ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة.
2 ـ خزائن الكتب القديمة في العراق لكوركيس عواد.
3 ـ رحلة الكتاب في الحضارة الإنسانية لمحمد رجب السامرائي.
4 ـ ذاكرة العراق التاريخية والحضارية لعلوي الصافي.
5 ـ مجلة المورد عدد خاص عن بغداد ـ المجلد الثامن 1979.
6 ـ مجلة سومر المجلد الثاني 1946.
7 ـ تدمير التراث الحضاري العراق د. خالد الناشف.
8 ـ لمحات من تاريخ الكتاب والمكتبات لعبد اللطيف الصوفي.
9 ـ صيد الخاطر لابن الجوزي.
10 ـ طبقات الأمم لصاعد الأندلسي.