كتب
إن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن لفعل كتب معان متعددة تتفق كلها على المصاحبة واللزوم وعدم النقض أو النسخ ، وهي حسب السياق والقرائن :
أولاها : بمعنى فرض على المكلفين من المؤمنين بالغيب خاصة وقد وردت تعديتها بحرف الجر على كما في قوله ﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾ النساء ، أي ألزمهم فريضة فرضت عليهم في أوقات معلومة .
وفرض الله على الذين آمنوا أي ألزمهم الصيام والقصاص في القتلى وفرض عليهم بعد تجاوز مرحلة الاستضعاف القتال أي في مرحلتي الدفاع والتمكين .
ولم تفرض الرهبانية على الذين اتبعوا النبي عيسى وإنما ابتدعوها .
وسيهتدي الراشدون بالقرآن إلى فرائض كثيرة ـ هي من الرشد ومن التي هي أقوم ـ ولم يقع بعد التكليف بها والله المستعان ومنها قوله ﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾ النساء ، وبينتها في مادة خرج ومادة قتل .
ووردت تعديتها باللام كما في قوله ﴿ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ﴾ النساء ، أي تمنعونهن ما فرض لهن من الحقوق .
ثانيها :بمعنى النصيب من الكتاب القدَر المقدور المحتوم اللازم ووردت تعديتها بحرف الجر على كما في قوله :
ـ ﴿ كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ﴾ الحج
ـ ﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ﴾ آل عمران
ـ ويعني حرف الحج أن من شياطين الإنس والجن من مَرَدَ على الإضلال لا يحسن غيره ولِيُضِلَّ من يتولاه ويهديَه على عذاب السعير .
ويعني حرف عمران أن لكل منا مضجعا كتب عليه تقبض روحه فيه موتا أو قتلا .
ووردت تعديتها باللام كما في قوله :
ـ ﴿ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ﴾ البقرة
ـ ﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ براءة
ويعني حرف البقرة التكليف بجماع الأزواج والتنبيه إلى أن الجماع ليس هو الذي يأتي بالولد وإنما هو سبب نبتغي به نصيبنا من الولد .
ويعني حرف براءة أن لن يصيب ابن آدم من الآفات والمصائب إلا نصيبه منها المقدّر عليه من قبل .
وثالثها : معنى التخصيص والإثبات والدوام ووردت تعديتها باللام كما في قوله :
ـ ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ الأعراف
ـ ﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ﴾ الأعراف
ـ ﴿ ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح ﴾ براءة
وهكذا سيخص الله برحمته التي وسعت كل شيء أولئك المتقين ويثبتها لهم فلا تتحول عنهم إذ هم في نعيم مقيم .
وسأل موسى ربه أن يثبت له هو ومن معه من المؤمنين حسنة في الدنيا تصحبهم وتلازمهم فلا ينقلب حالهم إلى ضرّاء وسيئات ومصائب وأن يثبت لهم في الآخرة حسنة وليسلموا من الفزع الأكبر وسوء الحساب .
وقد أثبت الله للذين آمنوا مع النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه أجرهم وتقبل منهم ولم يحبطه فهنيئا لهم .
ورابعها : دلالتها على الإيجاد والتثبيت وأن لا يلحقه نسخ ولا تبديل كما في قوله :
ـ ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ الأنبياء
ـ ﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ﴾ المجادلة
ـ ﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ﴾ الأعراف
ولقد نبّأ الله موسى بوعده ﴿ إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ﴾ الأعراف ، وتضمنت التوراة الذكر به وأثبت الله في الزبور مع داوود الوعد به ونبّأ الله به خاتم النبيين رسوله الأمي بقوله ﴿ فاصبر إن العاقبة للمتقين ﴾ هود ، وإنما المتقون هم عباد الله الصالحون الناجون من العذاب الموعود في الدنيا في فجر ليلة القدر وبينته في مادة وقى .
وقد أنعم الله على الذين تبرأوا من أعداء الله ولو كانوا أولي قربى فأثبت في قلوبهم الإيمان فلا يدخلها كفر ولا نفاق .
وأثبت الله لموسى في الألواح التوراة مكتوبة فكان موسى يقرؤها ولم تتأت قراءتها لغيره وكان قومه ينسخون من قراءته في قراطيسهم وكانت التوراة بعده نسخة نسخوها بأيديهم كما في قوله ﴿ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ﴾ الأعراف .
وخامسها : الرحمة التي كتبها الله ربنا على نفسه وبينتها في مادة الرحمة .
وسادسها : دلالتها على الكتابة المعلومة كما في قوله :
ـ ﴿ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق ﴾ البقرة
ـ ﴿ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ﴾ الطور والقلم
ـ ﴿ فويل للذين يكتبون الكتب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ﴾ البقرة
كتابة أعمال المكلفين
وإن من العجب أن من الكتاب ما لم تفهمه البشرية بعد ومنه كتابة أعمال المكلفين كما في قوله :
ـ ﴿ إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾ يس
ـ ﴿ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتينّ مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمان عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمدّ له من العذاب مدّا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا ﴾ مريم
ـ ﴿ لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ﴾ عمران
ـ ﴿ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ﴾ الزخرف
ـ ﴿ ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ﴾ الأنبياء
ـ ﴿ وإنّ عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ﴾ الانفطار
وتعني هـذه المثاني وغيرها أن أعمال المكلفين لن تكتب في حياتهم الدنيا وإنما بعد البعث حين يقوم الحساب كما هو صريح حرف يس أن كتابة أعمال المكلفين هي مما يستقبل بعد نفاذ الوعد بإحياء الموتى .
ويعني حرف مريم أن الذي كفر بآيات ربه وزعم أن لو بعث فسيؤتى مالا وولدا ـ وهو مما مضى يوم نزل الكتاب على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ـ لم تقع بعد كتابة ما قال وإنما سيكتب ما يقول بصيغة المستقبل إذ سيعرض عليه يوم الحساب فيراه بأم عينيه فيكتبه الحفظة الكرام الكاتبون وهم الشهود عليه في الدنيا ويعذب ويمدّ له العذاب مدّا .
ويعني حرف عمران أن الذين قالوا إن الله فقير ووصفوا أنفسهم بأنهم أغنياء وقتلوا النبيين بغير حق ـ ولا يخفى أنهم كانوا قبل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بِعِدّةِ قرون ـ لم يكتب قولهم ولا قتلهم الأنبياء بعد ، وإنما سيكتب يوم الحساب وهم يرون أعمالهم تعرض عليهم ويقول ذوقوا عذاب الحريق أي يعذبهم في نار جهنم ولا يظلم ربنا أحدا .
ويعني حرف الزخرف أن الله وعد أن تكتب يوم القيامة شهادة الذين جعلوا الملائكة إناثا ويسألون عنها حينئذ ، وكانوا من المشركين قبل النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ومن معاصريه .
ويعني حرف الانفطار أن الملائكة الذين يحفظون العبد في الدنيا هم الشهود عليه يوم الحساب لأنهم يعلمون ما يفعل في الدنيا أي يرونه لا يغيب عنهم منه شيء ، ولا يعني علمهم ما يفعله العباد كتابته في الدنيا .
إن الله أحكم الحاكين لم يأمر الملائكة الكرام الكاتبين بكتابة أعمال المكلفين إلا قبيل الجزاء بها ، وهكذا أخّر عن أكثر الناس كتابة أعمالهم إلى يوم الحساب لتعرض عليهم والملائكة الشهود حاضرون فإن أقرّ كتبت وإن أنكر ختم على فمه وينطق الله الذي أنطق كل شيء جلودهم وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ثم يوبق بما عرض عليه من أعماله السيئة أي بما لم يغفره الله منها .
ولهـذا الإطلاق استثناء كما في قوله :
ـ ﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون ﴾ النساء
أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ﴾ الزخرف
ـ ﴿ ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ﴾ يونس
ويعني حرف النساء أن المنافقين الذين يخادعون نبيه صلى الله عليه وسلم لن يغفر لهم وأن الله الذي سيحاسبهم يوم القيامة سيكتب ما يبيتون من المكر والنفاق ، ولن يمحى ما كتب الله ولن يغفر لهم وَيْلَهم ما أصبرهم على النار .
ويعني حرف الزخرف ويونس أن ما كتبه الملائكة من أعمال العباد في الدنيا فلن يؤخر عنهم العذاب به إلى يوم الحساب بل سيعذبون به في الدنيا .
نقلا من مرتقى أهل القرآن العظيم