الشـاطئ الأخـير
قصة قصيرة، بقلم: حسين علي محمد
في المساء الأخير رقدت "ناعسة" على السرير الذي يتسع لها بالكاد. الدفء يتسرب من الفرن الذي سوّت فيه ابنتها قبل الإفطار "صينية" من البطاطس باللحم وأُخرى من القطايف!
هل هلالك شهر مبارك ..
ها نحن في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك. المذياع المفتوح في الغرفة المجاورة ينقل خطبة لشيخ عن الشهر الميمون!
هاهي منذ أعوام طويلة ـ لا تعرف عددها ـ تقضي رمضان وحدها؛ فقد تفرق الأولاد في أنحاء الأرض!
أحمد في البرازيل، وسامي في السعودية، وزاهر في الإمارات، وسليمان في سنغافورة. ولم تبق بجوارها غير هانم التي حصلت على ليسانس في الحقوق منذ خمسة عشر عاما، وتعمل بالشؤون القانونية بالإدارة التعليمية، وأنجبت خمسة مثل أمها. تترك أكبرهم ـ وهو في الصف الخامس الابتدائي ـ ينام مع "سته" ليأخذ "حسها".
ـ والله فيها خير. لم تكن تحب خلفة البنات، ولكن هاهي البنت هي التي تقف بجانبها في الكهولة، بينما الأولاد بعيدون!
منذ ثلاثة أعوام أصر أحمد على أن يركب خطا هاتفيا لأمه حتى يستطيع أن يهاتفها يوما بعد يوم. وأرسل لزوج هانم عدة آلاف حتى يستطيع أن يركب لها هاتفا فوريا.
أحمد ابنها "البكر" قال لها في مكالمته الهاتفية أمس الأول إنه سيجيء لها ـ مع زوجته البرازيلية، صاحبة مصنع النسيج وابنيه ـ ليقضي شهر رمضان في البلد، وينعم بجوار الأقارب ودفء الأصدقاء!
إنها تحس بمغص يكاد يفتك بها! فهل تموت قبل أن ترى البكر العزيز وزوجته وولديه؟
هاهو طائر الموت يحوِّم في الغرفة .. يحاصرها بأجنحته السوداء الضخمة الثقيلة. حدّقت في عينيه رأت وهجا ناريا ينطلق كالسكين ليصيب الأحشاء. قاومت .. أحست به يٌقيِّد رجليها!
قشعريرة باردة تصعد من أسفل الجسم إلى أعلاه. حاولت أن تقوم فلم تستطع. لاحقت عيناها الأجنحة السوداء التي تملأ فضاء الحجرة، فرأت من خلل الجناحين أبناءها الأربعة صبية صغارا منزوين في الدهليز يبكون، وعلى حجرها وجه أبيهم الشاحب يمسك بيده المعروقة مروحة من سعف النخيل، يهف بها على وجه "ناعسة". .. بينما "ناعسة" تبتسم ابتسامة كبيرة، ولا تريد أن تُغمض عينيها.
...............................
*نشرت في: المجلة العربية ـ عدد أغسطس 1998م.