منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 4 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 32
  1. #1

    قصص ابداعية مختارة من الوطن العربي

    1
    رسالة من نفق مظلـــــــم ..
    للقاص الأديب : أحمدالتابعـي


    عزيزي/ الكاتبالفاضل
    أرسل لك تلك الرسالة المُترجمةلحياة حمراء
    لا أدرى لماذاأرسلها لك وأنا لن أقرأها، لكن ربما كنت أريد أن أترك ُوريقة تبقىمنى لعل أحد يقرأها ..ويجدحلا للواقفين صفا بعدى انتظارا لدورهم المفروض عليهم للدخول في ذلك النفق المظلمربما ينجون من رعب الانزلاق البطيء الخانق المرعب إلى داخله..وبذلك أكون قد فعلتشيئا في وطن لا يجد أبناؤه فرصة لفعل شيء؛ لأن من يملكون أقدارنا في ذلك الوطن لايتركون لنا شيئا.
    حتىإرادتنا وقدرتنا على الاختيار مُغتصبة منا بعنفوتجبر.
    قد تسير الحياة بنا بخطواتتبدو بطيئة لكن أحيانا ما تكون مُبهجة ولذيذة خاصة في سنوات الطفولة التي قضيتها فيأحضان أسرة متوسطة الحال، لكنها أسرة دافئة المشاعر يعشش رب تلك الأسرة على أفراخهبما أوتى من حول وقوة.ولكن تكون الكارثة الكبرى عندما يسقط رب الأسرة في منتصفالطريق ويترك أفراخه التي لم يكتمل ريشها بعد عُرضة لرياح ماكينة حياة أُنتزع منقلبها الشرس قطرات الرحمة.
    لن أحدثك عن معاناة أم تناطح العمر والأيام لتجعل لأنوفنا ثغرة نتنفسمنها نسمات تحيينا في حجرة الحياة المتزاحمة.تخرجت..وجدت عملا ، أيام كانت هناك فرصعمل للمواطن.
    سارتالأيام!!؟؟ ولا يهم كيف سارت بمرها قبل حلوها النادر ثم تزوجت مثل كل البشرالطبيعيين ولا يهم وقتها كيف ومن تزوجت، لكن المهم أنني الآن عندي أربعة من الأولادوالبنات وبدأتالحياة تبطئ من خطواتها متثاقلة تلقيني في وجه أعتى لحظات الضيقوالألم وقلة الحيلة،أمام أفواه تريد أن تحيا وتعيش لا يهم كيف ولكن..الوالد لا بد أنيوفر لهذه الأفواه على الأقل خبز وفول وعدس وأرز وقليل من الزيت!!هذه هي مشكلتي..لمأستطع توفير تلك المطالب من أين أحضر لهم تلك الأشياء كل شهر بمرتب لا يتجاوزستمائة جنيه، أي عشرين جنيه يوميا..أنتبه سيدي مازال هناك متطلبات عديدة لم أذكرهامثل:فاتورة الكهرباء والنظافة المُجحفة وأنبوبة الغاز والعلاج(لأننا نمرض مثل كلالبشر) أو الأسمال التي نريد أن أستر بها الأجساد.
    طرقت كل أبواب البحث عن العمل وكانت الإجابة شبهواحدة:-
    (
    الشباب العاطلاللي يشتغل بصحة أحسن منك ميت مرة مش ملاقيين له شغل يبقى أنت نلاقى لك شغل..روحيا عم ربنا يسهل لك)
    وجاءيوم لم يكن في البيت سوى بقايا لقيمات جافة وقطعة من الجبن وسمعت الأولاد وهميتصارعون على تلك الغنيمة..وصرخوا ينادون من ألم الجوع بعد فناء تلك اللقيمات.. وبعد أن تأهبت المعدة لتلقى العون(بابا إحنا لسة جعانيين) وتناهى إلى سمعي منبعيد صوت أمهم تحاول مواستهم ومد حبل الأمل بأننا سوف نحضر لهمطعاما.
    وشعرت لحظتها كأن حجرتيالبالية تضيق على جسدي حتى كادت تحطم ضلوعي وامتلأت الحجيرة بأناس آخرين ما هذا؟...أكتاف الآخرين تقتحم عظام كتفي وأنفاسهم تكاد تخترق رئتي بصوت فحيح ورائحةعطنة.
    ونظرت إلى أقداميأريد أن أتحرك ولكن من أين سأجد مساحة الحركة،رفعت رأسي لأعلى ربما وجدت نافذةيتبعث منها قليل من الهواء شبه المنعش ، ولكن الجدران صماء والضوء شحيح يجعلك فقطترى عذاب تواجدك مع أشباح الأكتاف التي تزاحمك في الحجرة تنظر إليك بعيون باردةكالثلج ،صماء كالحجر منزوعة الروح..
    صرخت ماذا تريدون منى لماذا تزاحمون أنفاسي؟ كيف تسلبون هوائي الذيأتنفسه؟
    ولم أسمعمجيبا..وزاد التدافع وتطاحن الأكتاف ..وأصبح الهواء يدخل صدري كأنه كرابيج إفعوانيةتلهب الصدر والقلب، تصبب العرق من جسدي ..لم يجد مكانا يتساقطفيه.
    فظل العرق المحمل بكلهمومي متشبثا بجسدي وزاد اندفاع العرق.
    .
    ثم تهاويت من فرط ثقله .صرخت بأعلى صوتي..ولامُغيث..
    تهاويت وأنا لاأسمع سوى صوت (طقطقة) عظام جسدي وهى تتحطم..وقرقعة بقايا وهى تُطحن
    ثم وجدتني محمولا إلى نفقمظلم...خرجت من نفق مظلم إلى نفق مظلم
    وتبدو على بعد من النفق وشوشات ضوءقادم.

  2. #2
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ

    2

    زوجة عزيز لدي..
    للقاصة الأديبــــة : ميساءالبشيتـــــــي

    احتضنها بينيديه يودعها قبل سفرها ، يطلب إليها أن لا تطيل الغيبة فلم يتبق معهم من الوقتالكثير لإتمام مراسم الزفاف قبل نشوب الحرب ووعدته بعدم إطالة الغياب فهي ستذهبلإحضار بعض الأوراق المهمة وفستان الزفاف وأشياء من هذا القبيل ، احتضنها للمرةالأخيرة واحتضن شفتيها في قبلة الوداع وغابت وما هي إلا ساعات من مغادرتها حتى قامتالحرب. اختفى هو، تضاربت الأنباء ، منهم من قال انه مات في الحرب ، ومنهم من قالانه وقع في الأسر ومنهم من قال فرّ مع الفارين وتاه في بلاد الله الواسعة ، ومنهم ... ومنهم ... أما هي فقد هدتها الصدمة وهول المفاجأة ، شهور مضت قبل أن تصدق ماحدث وتفقد الأمل بعودته وبالزفاف ، شهور مضت قبل أن تطلق تلك الصرخة معلنة حالةالحداد .

    أعلنت لنفسها وصارحت قلبها ومشاعرها بأنه قد مات ولن يعودإلى هذه الحياة ، وغرقت في الحزن إلى أن انتشلها منه شاب في مقتبل العمر أحبها وعرضعليها الزواج ووافقت واقترنت به ولم تخبره عن أي شيء ، لأنه لا يأبه للماضي وما حصلقبل أن يلتقيا . كان زوجا ً رائعا ًوكان زواجهما زواجا ً ناجحا ًتمخضت عنه أسرةوأبناء وعائلة ليس لها مثيل ، كان يحبها جدا ً ، وهي أحبته وأحبت إخلاصه لهاوتفانيه من أجلها ومن أجل أسرتها ووهبته قلبها وروحها وكل أسباب السعادة باستثناءتلك القُبلة فقد كانت قُبلة سيف _رحمه الله _ كما كانت تقول ولم تكن تخبره عن السببالحقيقي ، وهو كان يحترم رغبتها والتي كان يخّمن أن هناك سببا ً قويا ً وراء رفضها .
    مضت السنوات وبدأت الإشاعات تظهر بالساحة ، سيف وقع بالأسر، أحدهم شاهده في المعتقل ، سيف لم يمت أو يفرّ ... وبعد سنوات أخرى أعلن عن أسماءالمحررين من الأسر، لكنها لم تر اسمه بين الأسماء ، فتأكدت أنه مات وما كان مجردإشاعات ليس لها أساس من الصحة .
    وفي يوم طلبت منها والدتها اصطحابهاإلى حفل زفاف ابن صديقتها في أضخم فندق في البلد، ولبت دعوة الوالدة خاصة وأن هذهالصديقة هي التي عرفتهم بسيف وهي التي كانت تشرف على إتمام زفافها منه .. فهو منأقاربها ، وهي التي تتكهن دائما ً بأخباره وتبثها بين فترة وفترة.
    ذهبتا إلى الحفل وحضرت الصديقة(هاشةباشة)
    مرحبة بهما ومسرورة جدا ً لرؤية رفقة بعد كل هذا الغيابوقامت بتعريفهما على عدد لا بأس به من العائلات التي كانت تلتقيهم في تلك العاصمةالآيلة للسقوط قبل نشوب الحرب فيها ، ولكنهم تغيروا جدا ً وظهرت عليهم معالم الثراءمما دفعها لتسأل والدتها من أين هبطت عليهم الثروة ؟ وفي أثناء تلك التساؤلات ظهرتبين المدعوين سيدة تبدو من ملامحها أنها أجنبية وتصطحب فتاتين أيضا ً فيهما منملامحها الكثير. وظنت على الفور أنها زوجة أحد أفراد أسرة العريس . قامت الصديقةمهللة ومرحبة لتسلم عليها وتدعوها للجلوس على نفس مائدة رفقة ووالدتها اللتين قامتابدورهما بالترحيب الشديد بها وجلس الجميع واستدارت الصديقة إلى والدة رفقة تسألهاإن كانت تعرف هذه السيدة ، وأجابت الصديقة على الفور قبل أن تعرف إجابة الوالدةإنها زوجة سيف ، فلمعت عينا رفقة ونظرت بحدة إلى تلك المرأة التي أخذت منها سيف ،وبادرتها بالسؤال وكأنه من حقها ، أين سيف ؟
    فأجابتها أنه قادم فقدالتقى صديقه وهو يسلم عليه الآن وسيأتي في الحال ... وما هي إلا دقائق حتى ظهرأمامها رجل ٌ في غاية الأناقة والترتيب ، تفحصته جيدا ً ، هل هذا سيف ؟
    تقدم سيف مرحبا بالصديقة ثم التفت إلى والدة رفقة ، تذكرهاعلى الفور وصافحها بحرارة شديدة ونظر إلى رفقة وتساءل بقرارة نفسه هل هذه هي رفقة ؟ماذا فعل بها الدهر ؟
    ورفقة تطيل النظر إليه ، أهذه ملامحالعائد من الموت ، العائد من الأسر ، من الضياع ؟ لا أرى إلا رجلا غارقا ً فيالنعيم ، في الثراء ، في الرخاء . أهذا سيف ؟ أهذا سيفي ، وحبي، وقُبلتي ، التي عشتفي كنفها أكثر من خمسة عشر عاما ً، رفعت إليه بصرها وكأنها تراه لأول مرة وقالت لهأهلا بك يا سيفي .. نظر إليها وكانت الدموع قد أغرقت عينيه وانحدرت على وجنتيهالمحمرتين من هول المفاجأة ، أجابها وشفاهه ترتعش ، نعم يا رفقة أنا سيف. أيا رفقةترفقي بنا هل تذكرين يا رفقة ؟
    تابعت رفقة نظراتها الجامدة إليه وقالت : لقد تذكرت بما يكفي يا سيف ، خمسة عشر عاما ً وأنا أتذكر ، لم تغب فيها يوما ً ،كنت أحضرك كل يوم ٍ من قبرك واستذكر معك ، أما الآن فقد حان دورك في التذكر، وآنالأوان كي أنسى أنا. قاطعهما سؤال زوجته المندهشة من كل ما يجري هل تعرفها يا سيف ؟من تكون هذه السيدة ؟ نظر سيف مليا ً قبل أن يجيب ثم استجمع قواه والتقط أنفاسهوقال : هي زوجة عزيز ٍلدي مات فيالحرب.

  3. #3
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ

    3

    أمسية وداع ..
    للقاصة الأديبة : سلوى حماد


    فتحتعينيها وكعادتها بقيت في الفراش في حالة استرخاء وتأمل ، شخصت في سقف الغرفة ،تجولتبنظرها في أنحاء الغرفة إلى أن وقعت عيناها على كتاب متكئ على رف المكتبة الصغيرةفي غرفة نومها.

    نهضتبسرعة متجهة إلى الكتاب ، التقطته وفتحته بسرعة لتعثر على وردة جورية كانت غافيةبين الصفحات منذ زمن، ياااااااااااااااه ، لقد نسيتها تماماً ، لها شهور هذهالجورية غافية بين طيات الكتاب ومازالت تحتفظ برونقها بالرغم من شحوبلونها.
    عادت على عجل إلى سريرها ، واندست تحت
    الغطاء والكتاب ما زال بين يديها ، أغمضت عينيها ورحلت بأفكارها إلى تلكالأمسية.

    شعور بالحنين كان يغلفها ، حنين للطلبة ،
    للزملاء، لمكتبها الأنيق الذي يشهد على أحداث أعوامطويلة.
    بالرغم من ضغط العمل وطول ساعاته كانت كلمات من حولها تهطل على تعبهاكحبات المطر فتغسل كل إرهاقها الجسديوالفكري.

    الكل
    كان مشغولاً في برنامج الحفل ،يتهادى إلى سمعها من فترة لأخرى اسمها ، يتردد على لسان الطلبة والزملاء، كانتتتجول بالمكان ولسان حالها يقول وداعاً أحبتي، ترنحت دمعة بين أهدابها ولكنهاتماسكت واتكأت على حافة عينيها حتى لا تفسد المناسبة، أنها آخر حفلة تخريج تقوم هيبالإشراف عليها.
    شعور الرحيل كسا وجهها بمسحة من حزن وهي تلوح مودعة لصفحة من حياتها،
    ما لبث هذا الشعور أن ذاب في زحمة المناسبة ، فعليها أن تقف على منصة
    التخريج لتسلم الشهادات لآخر دفعة ستقوم بتخريجهم . انتزعت نفسها من حالة الحزنوركضت خلف الكواليس ، هتف أحد الخريجين :"مدام ...... نريد لمساتك الجميلة ."، وآخريقول : " مدام....من فضلك عدلي لي الكاب على ذوقك.."، ضحكت من قلبها وقالت مازحة : "انزل قليلاً حتى استطيع فعل ذلك أيهاالزرافة."
    تأكدت بأن كل شيء يسير على ما يرام وحسب المخطط، خرجت من خلف
    الكواليس لتحيي بعض الأهالي والضيوف، وجدته يرمقها من بعيد بعينين يسكنهما الإعجابوالتقدير،فحيته ببسمة خجولة ووعد من عينيهابحديث.
    وما أن لاحت لها الفرصة حتى سارعت
    بالاقتراب منه معلنة عن وجودها بجانبه لتنتزعه من حديث جانبي كان قد بدأه مع أحدالضيوف.
    تهلل وجهه فرحاً لرؤيتها عن قرب لدرجة
    الارتباك ، دعاها للجلوس والحديث، كان لحديثه مذاق النضوج ونكهة التفاهم ، استمعتله بشغف فانسابت كلماته كنهر بلا سد ، وامتدت يداه إلى وردة جورية تزين سترتهانتزعها ليضعها بين يديها مكافأة لها على إنصاتها الجميل . طلب منها أن تحتفظ بهالتذكرها برجل يكن لها كل الاحتراموالتقدير.

    احتضنتها يداها وتعاطفت معها عيناهاوشعرت بأن بتلاتها سرعان ما ذبلت وكأنها تشاركها شعورالرحيل.
    فتحت عينيها و هي لا تزال ممسكة بذلك
    الكتاب . تنهدت ولسان حالها يقول صعبة هذه الحياة . نلتقي بأناس نحبهم ويصبح بينناوبينهم حالة من الارتباط الوثيق .. نمارس مهام نحبها وما تلبث أن نتركها مخلفينوراءنا ذكريات كالعسلالمر.

  4. #4
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ


    4

    الفنان .. كوميدية قصصية ..
    للقاص الأديب : عبده حقي

    خفق قلبه و دارت به الأرض ب 180 درجة .. أخيرا بعد طول هذاالعمر ها هو يحظى من أحد أشهر الغاليريهات بدعوة لعرض أجمل لوحاته .. أخيرا تحققالحلم ... هذا كل ما كان يأمله وما كان ينقص سيرته الفنية إن على فقرها أو غناها لايهم ، المهم هي ذي إذن فرصة العمر كي يرتقي درجات الشهرة أو على الأصح كي يسخر منكل من أستخف بعبقريته التشكيلية فيما قبل .
    كيف له أن ينسى نظرات الازدراء من
    زوجته حين كانت تداهمه في ورشة المرسم لتلقي بقائمة أغراضها على وجهه أو على الأصحعلى وجه لوحته متعمدة في حقيقة الأمر أن تفسد عليه خلوة إلهامه ونشوة انغمارهاللذيذ في لحظة تيه الإبداع وجذبة الفرشاة ... أما الأصدقاء !! أي أصدقاء ؟؟ ــدائما يهمس للوحاته ــ فلا فرق بين بطونهم وجماجمهم ... كل شيء في حواسهم وجوارحهمإما ترينه يمضغ أو يجرد العابرات من سراويل الجينز اللصيقة بخاصراتهن .. هذا قصارىما ينجزون لأنفسهم وللآخرين . .. وكثيرا ما فكر في فتح باب مرسمه لهم ، غير أنه كانيحس أن مرورهم من هناك سيكون كاجتياح التتار والمغول أو مثل الحريق الذي سيأتيعلى معلمة ثقافية وطنية لذلك فقد أوصد في وجوههم كل دعوة للزيارة ثم فوق كل هذاوذاك أن ما أجج حقده على الأصدقاء أنه لم يستخلص بعد ولو درهما واحدا عن لوحةاقتناها أحدهم من دون أن يفطن فناننا إلى اليوم لا بالغمز ولا باللمز، أن صديقه لميقتن اللوحة إلا إشفاقا عليه ومؤازرة معنوية له ليس إلا ....
    واليوم ها فنان آخر يولد من رحم رسالة وردية نائمة في غرفة
    ص . ب .. وها شمس الاعتراف تلقي بأضوائها الكاشفة عليه ... لاشك أن وسائل الإعلاممرئية ومسموعة ومقروءة سوف تتدافع لهذا السبق الصحفي كما الفنانين التشكيليينالعظام مثل القاسمي والصالدي والغرباوي ... وسيوقع المئات من الزوارفي دفتره الذهبيوسيملئ جيب معطفه بكثير من الشيكات عن لوحات معروضة وشيكات أخرى مؤداة مسبقا عنلوحات لا زالت أفكارا هائمة في خياله ... وفي مساء الافتتاح كما جرت التقاليدالثقافية في ربوع الوطن سيتناول عشاءا فاخرا وراقيا لا تحد مائدته العين في فندق{الفردوس } على حساب نائب برلماني أو عمدة المدينة ...
    الفنان !! الفنان !! هكذا يناديه أصدقاؤه ومعارفه
    وحتى أولئك النازحين الذين استوطنوا الحارة في آخر
    لحظة
    ..
    أما
    النداء فلم يكن في حقيقة الأمر سوى شماتة في غالب الأحوال لذا فقد كان يتغافلالنداءات .. ليقولوا ما يشاءون ـ يقول في نفسه ـ أجل أنا فنان موتوا بغيظكم ولديورشة لم يحلم بها أشهركم فنا في البلد ولي بها الكثير من اللوحات الجاهزة و اللوحاتالوشيكة والعشرات من اللوحات الملغاة .. أما هؤلاء الأصدقاء الأوغاد فهم لا يدركونما معنى أن يعيش بينهم فنان تشكيلي ...
    يسحق عقب سيجارته .. يسوي قبعته
    البودليرية ويطلق على الصدر شاله الوردي الطويل المطرز ويمضي في متاهات الحارةخافضا بصره ومتلافيا المرور من أمام الدكاكين والحوانيت ونظرات الباعة وألسنتهمالمسننة التي مرغت غير ممرغة كبرياءه العبقري في وحل القروض والسلفات الطفيفة ...
    ـ الفنان !! الفنان
    !! ها..ها..ها...
    دس الرسالة في جيب بلوزته البيضاء المرقطة بلمسات الأصباغ
    التي يسميها حوادث الشغل .. نزل إلى الورشة ، أشعل سيجارة .. دار دورة ببصره حولها .. يمج وينفث الدخان في انتشاء وزهو فائق .. كان أمام كل لوحة يتقدم ثم يتراجع .. يقطب حاجبيه .. يزم حدقتيه ويلوي عنقه .. عشرات اللوحات هنا وهناك .. صامتة تنتظرحظها كعارضات الأزياء .. لوحات بلا أسماء وبلا عناوين ... إن أشد ما يكره هو أنيعنون لوحاته بدعوى أن عنونة اللوحة هو إغلاق لانفتاحها على جمالية اللا معنى كما أنالاسم يطوق عالمها الفاتن والمطلق وأخيرا فهو يعتبر العنوان إجابة فاشلة بشكل ضمنيعلى الأسئلة العالقة التي قد تدور في أذهان الزوار .. لذا .. لذا فهو يترك لوحاتهلفرضيات الإسقاطات النفسية ... وفي لحظة ما شرع ينتقي لوحاته الثلاثين التي سيعرضهاأو بالأحرى ستودعه قريبا وإلى الأبد وسيقتنيها مدراء البنوك والمؤسسات الخاصةوشركات التأمين ومكاتب المحاماة والمصحات النفسية والفنادق الباذخة و..و... ولقدقرر أن يكتم سر الرسالة عن زوجته وأولاده ، فلو علموا بها فلاشك أن شهيتهم ستنتفخ وأنلائحة المطالب ستطول ولا محالة أن زوجته سوف ترتبط به أيما ارتباط وسوف تلازمه فيسفرته الفنية إلى العاصمة ليس من أجل مؤانسته بالهمسة الرخيمة والابتسامة الدافئةوإنما من أجل استخلاص الشيكات وحساب المداخيل وهو يعلم علم اليقين بطيشها وخفة يدهاوعماها المالي حين تسمع برنين الدراهم في جيبه فهي لن تتوان ولو لحظة قصيرة عنإخراج الآلة الحاسبة وأمام الجمهوركان من كان ... لذا .. لذا واتقاءا واستباقا لكلهذه الكوارث المهينة فقد قرر أن يدعي أن الأمر يتعلق بمعرض جماعي تنظمه إحدى سفاراتالدول العربية الخليجية بالعاصمة ...
    لف لوحاته في لفائف من الجرائد القديمة
    .. كان كل مرة يدخل محملا بحزمات منها .. أدركت زوجته أن أمرا ما قد طرأ .. نزلتالورشة خلسة فألفته منهمكا في تلفيف آخر اللوحات ... أيقنت بما لا يدع مجالا للشك أنأوان رحيلها قد حل بعد كل هذا العمر الطويل من الغطس في الأصباغ وألوان البؤسوالتحليق عاليا في قوس قزح للبحث عن الشهرة الواهية ... الحمد لله .. الحمد لله .. قالت في سرها وعلت محياها إشراقه هناءة وانفراج .. لقد آنلهذه اللوحات أن ترحل .. لكن إلى أين ؟ ومقابل كم ؟ وترى من سيكون هذا المنقذ منالأصباغ الذي سيفرج كربتها من غم تلك الشخابيط واللخابيط التي تملئ القبو بلا طائل ... وقبل أن تقصفه بأسئلتها الرصاصية كالعادة استبقها إلى الحديث وأخبرها أنهسيشارك في معرض جماعي بإحدى السفارات العربية بالعاصمة ..( لا مفر من الكذب ... الكذب شرط من شروط الشهرة ... الكذب أقصر طريق إلى المجد !! ) هذا ما علمه الفنانونوهكذا وصل الكثير منهم إلى القمة فلماذا لا يجرب أن يكذب هذه المرة ولو على زوجته .
    قبل
    تاريخ افتتاح المعرض بأيام كان جاهزا .. اللوحات ملفوفة بعناية وكل لوازمه على أهبة .. كان في قرارته يستعجل الموعد وكان كل يوم يمر يشعره كما لو أنه يبعده عن اليومالموعود .. وبدأ يشعر بالزمن يتثاقل حتى خمن أن الزمن صديق وقح مثله مثل الأصدقاءالآخرين .. وفي صباح ما قرر أن يسافر ، فعليه أن يحل باكرا بقاعة العرض فمديرةالغاليري تعلم بقلة تجربته في تنظيم المعارض ... لذا فقد جاءته دعوة جاكلين رسالةوردية مفصلة بإجراءات مرتبة باليوم والساعة لوضع الترتيبات الفنية المتعلقة بمساقطالإنارة وتناسقها مع الأضواء الطبيعية الخارجية وعلاقة كل هذا بإطارات العرض وزواياالرؤية ومواقع المشابك ... إلخ
    كانت الناقلة رابضة على الرصيف ، وكان الحمال يلقي بالأمتعة
    على السطح . حين وصل الفنان ولوحاته الثلاثين على متن ( هوندا ) كان من حسن طالعحظه أن رتب الحمال اللوحات فوق الأمتعة الأولى على سطح الناقلة .. وحمد الله علىحظه هذا وحظ لوحاته .
    صباح ربيعي جميل .. ربما أجمل صباح في العمر .. بعض سحابات
    سكرية كأنها لمسات بيضاء سوريالية على قماش أزرق .. منظر أنعش وأيقظ كل الحواسالفنية ، وهناك في المدى الرمادي البعيد باتجاه العاصمة لحاف غيوم داكنة تنذر بزخاتخفيفة .. عالم رائع ، ملتئم في انصهار تلقائي ليشكل مع نشوته الحيوانية لوحة طبيعيةرائعة ... شعر أن لا أحد من الركاب عبئ بهذا المشهد الطبيعي الفاتن .. وحده إذن .. وحده وقدره أن يعيش نعمة الفن كل لحظة وحين وفي كل مكان حتى داخل هذه الناقلةالمهترئة .
    كانت العجلات من تحته كتيوس أربعة تلتهم المسافات
    والمنعرجات ، وكلما أوغلت الناقلة في الطريق كلما شعر بالأفق يفتح ذراعيه لهوللواحاته الثلاثين على السطح . بعد لحظة توارت الشمس خلف سحابات داكنة ، ثم لاحظعلى النوافذ قطرات رذاذ قليلة .. داعبته وسنة لذيذة .. لقد ألف أن يغفو بعد الظهيرة .. تمايل وتهويدة الناقلة يؤججان أيضا حلاوة غفوته المعسولة .. لقد استطاب هذاالاسترخاء ، فلا بأس إذن أن يحلم قليلا وهولا محالة على وشك تحقيق حلم أكبر لكنه حلمواقعي هذه المرة وفي العاصمة الرباط ...
    لقد غفا واستغرق في نومه إلى حد الغطيط
    وضاع شخيره في هرهرة ولعلعة وصفطقات أضلع الناقلة ولم يستفق إلا على خبطة كف العونعلى الباب الخلفي ( باط .. باط .. باط .. لقد وصلتم )
    استفاق
    فجأة .. إنها العاصمة تغرق في أمطار عاصفية .. ألفى مياه الأمطار مثل خراطيم صغيرةتتدفق على جنبات الناقلة تلتها طقطقات حبات برد كثيف أتلفت صوت الراديو ولغط الركابونظراتهم التائهة ... كان لا يسمع من حوله سوى ( الحمد لله .. مبروك الروا .. الحمدلله مبروك الروا ) وانفرجت أسارير الركاب البدو الوافدين على العاصمة لحل مشاكلهمالتي استعصى حلها في الأقاليم .. فقد كان الموسم الفلاحي على شفا كارثة جفاف آخروعطش على عطش سابق .. أما هو فقد كان ينتشي برؤية تشكلات مطرية تجريدية تتدفقوتنزلق على زجاج النوافذ .. هو فنان وكفى .. فنان فوق كل الأحوال الجوية والأزماتالاقتصادية ووعكات البورصات .. ما شأنه بكل هذه التقلبات فأرضه لوحاته ومحراثهريشته وبعد قليل سيجني ما زرعت يداه منذ عقود ...
    توقفت الناقلة وتحولت الأمطار والبرد
    إلى زخات خفيفة منعشة ورائقة .. كان الركاب يهرعون إلى سقوف المقاهي والمطاعمالصغيرة .. شرع الحمال ينزل اللوحات الواحدة تلو الأخرى . أوووووه !!! يا للمصيبةويا للهول !!! كانت كل اللوحات مبللة كأنها انتشلت للتو من قعر صهريج ، ومن خللالتخاريم بدت الألوان شخابيط ولخابيط .. كل الألوان تميعت واندلقت وطمست ملامحهاالسيول الجارفة .. كل اللوحات بارت .. الخطوط والدوائر مثل أفواه كاريكاتورية واسعةمنصرفة في كركرات لا تنقطع ... تذكر نداءات الآخرين ( ألفنان .. ألفنان ) هو الزلزالنفسه يرجه في الداخل .. ماذا يستطيع الآن ؟ لقد انهار عليه الهرم .. الصرح الذيبناه في القبو.. حتى الطبيعة على نقائها وطهرها خذلته في آخر لحظة .. ماذا يستطيعالآن ؟؟ صوت امرأة يأتيه من بعيد ( فين اللحمة والخبز والغاز ... يا الفنان ؟) صدىأصوات تطوقه من كل جانب ( ألفنان .. الفنان ) والأمطار أيضا تهتف به ( الفنان !! الفنان ) حتى هدير السيارات تحول إلى نداءات ، فجأة شعر بلكزتين في جنبه ويد سيدةتطبطب على صدره وتقول : ( أصح .. أصح من نومك قبل أن تزهق روحك الكوابيس .
    دعك
    عينيه بقوة كانت الساعة قرب الوسادة تتكتك الساعة السابعة صباحا ، جلس على حافةالسرير أرسل زفرة قوية : ( الحمد لله .. الحمد لله اللوحات لم تبللها الأمطار !!! )

    &

  5. #5
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ
    5

    شرف العيــــــــلة ..
    للقاص الأديب : نزار ب. الزين/سوريا

    أسمه عِزَّة و يلقبونه (عزّو) تارة و ( أبو العز) تارةأخرى

    عندما بلغ المرحلة الثانوية كان خجولا و انطوائيا ، فلقبهزملاؤه في الصف بالسلحفاة ؛ ثم حاول بصعوبة أن يندمج معهم و لكن تربيته الصارمة ،كانت تمنعه من مسايرتهم ، فمعظم ألفاظهم كانت سوقية ، و قاموس شتائمهم كان أوسع منمجلد ، و طريقة عبثهم مع بعضهم بعضا تدور كلها حول الجنس و الجنس المثلي .
    كانوا يرفضون مشاركته في أحاديثهم و يأبون مشاركتهبألعابهم ، كان إذا أخطأ في إجابة مدرس على سؤال ، ينفجرون ضاحكين حتى لو لم يكن فيالأمر فكاهة ، و إذا حاول التقرب من أحدهم يشيح عنه بوجهه و يتجاهله ، و ظل منبوذاو في حالة صراع مع نفسه إلى أن اكتشف أنه لا بد من الاستسلام .
    و رويدا رويدا بدأ يتقبل من بعضهم ما كان يرفضه من قبل ،ثم ما كاد العام الدراسي ينتصف حتى طال لسانه و تضاءل خجله !
    و ذات يوم أسود ، وفي أعقاب الانصراف خرج أبو العز مع ثلةمن زملائه ، و أخذوا جميعا يتعابثون و يتشاتمون و يتضاحكون ، و فجأة وجد نفسه بينبراثن والده .
    *****
    بادره على الفور بصفعةدوخته و ألقته أرضا ، ثم بدأ يعالجه بمظلته فوق كل موقع من جسده .
    صُدِم زملاؤه
    و قفوا مذهولين فاغرينأفواههم
    و عندما أراد أحدهم التدخل أجابه بضربة منمظلته
    فابتعدوا جميعا و قد تملكهم الأسى علىزميلهم
    مر أحد المدرسين ، فحاول التدخل ، فصرخ فيوجهه :
    - "
    هذا إبني و أريد أن أربيه "
    -
    و ما الذي فعله يا أخ ، أنت تكاد تجهز عليه؟
    فصاح أبو عزة بشكل هستيري :
    -
    هذا ابني و أنا حر التصرف به ، أذبحه أشنقه أدفنه حيا ،أنا حر ( و ما حدا دخله ) . ثم انهال عليه ضرباً من جديد .
    الفتى يصرخ و يستغيث و الناس بدؤوا بالتجمهر حوله ، و لكنأمام هياج الوالد الشديد لم يتمكنوا من فعل شيء !
    *****
    صاح الوالد و قد تملكهالغضب الشديد
    :
    -
    انهض يا كلب ، و امش أمامي حتى الدكان ...
    استطاع عزة النهوض بصعوبة ، و بدأ يتحرك ببطء فقد كانيشعر بالدوار ، و لكن والده كان يعالجه بضربة من مظلته كلما حاول التلكؤ لالتقاطالأنفاس .
    و بلغا أخيرا الدكان
    أمر أجيره بالانصراف
    أغلق الدكان منالداخل
    و بدأ ت من ثم دورة أخرى من التعذيب ....
    كان الأجير، قد أطلق ساقيه يسابق الريح نحو دكان عم الفتى، ثم عاد به جريا ، ثم أخذا يقرعان الباب معاً ، ثم كان لا بد من كسره و اقتحامه، ثم استطاعا معاً تخليص الفتى بصعوبة .
    كان عزة ساعة إذ فيحالة غيبوبة تامة .
    -
    أتريد أن تقضي بقيةحياتك في السجن يا أخي ؟
    سأله أخوه لا ئما ،فأجابه و هو يرتعش غضبا :
    -
    أريد أن أشرب من دمهو ليكن بعدئذ ما يكون !!
    (
    شرف العيلة أهم منستين ولد )
    لقد شاهدته بعيني و سمعتهبأذني
    كان يتبادل مع رفاقه العبث البذيء الذي يؤكد وجود علاقةشاذة بينهم !
    ثم أضاف بغضب شديد :
    -
    هل ترضى لهذا الكلب أن يلوث شرف العائلة؟
    -
    و لكنه ذكر !
    -
    لا فرق عندي بين ذكر و أنثى في مسائل الشرف !
    صمت أبو سليم طويلا و هو يهز برأسه ، ثم اقترح و هو يربتعلى كتف أخيه :
    -
    دعه لي ، و سأنتزع منه الحقيقة على طريقتي !
    *****
    كان أبو سليم أعزبا ولُقب أبو سليم رغم عدم وجود سليم ، فقد رفض الزواج بإصرار لا يعرف أحد سببه
    ..
    تعاون مع سامي أجير أخيه ، حتى أوصلا عزة شبه محمول ، ثمألقياه على أريكة في ( ليوان ) المنزل .
    لم يقصر العم أبو سليمبالعناية به بداية ، فقام بتنظيف جراحه الكثيرة و استعان بحفنات من البن لقطع نزيفبعضها ، و عندما لاحظ ارتفاع حرارته ، غادر المنزل فاشترى قطعة جليد و إبريقا منعصير الليمون ، ثم عاد إلى منزله محاولا تخفيض حرارة ابن أخيه . ثم دأب على ذلك كليوم .
    *****
    بعد حوالي أسبوعينبدأت بعض مظاهر العافية تبدو على عزة ، فقد أفاق من رقوده الطويل و تمكن من تحريكرأسه و لكن إحدى يديه لم يستطع تحريكها .
    كان يشعر بالامتنانلعناية عمه به ، فكانت العبارة الأولى التي نطق بها شكره لعمه ، و لكنه صدم عندماأجابه عمه بغلظة :
    -
    كنت أخشى على أخي و ليس عليك !
    فرد عزة مستاء :
    -
    أنت تكرهني كما يكرهني أبي ، إذاً دعوني أسافر إلى أمي ...
    فأجابه عمه في لهجة تهكمية :
    -
    أمك ؟ أنت من عائلة فستق و لست من عائلة العبد الله ،ثم إن أمك ، يا حبيب أمك ، بعد أن طلقها أبوك ، تزوجت من آخر و تعيش معه في حلب ،إن قبلت استقبالك فزوجها لن يقبل ، و خاصة إذا علم بفعلتك الشنعاء .
    -
    فعلتي ؟ و ما الذي فعلته ؟
    أجاب عمه و قد بدأت الدموع تتساقط من عينيه مرغما ، فردعمه قائلا و قد تجهم وجهه و قطب جبينه :
    -
    عندما تتعافى تماما، أنا من سيسألك عما فعلت ، و أنت من سيجيبب ، و لن ترحمك دموعك !

    التحقيق
    وبعد أسبوع آخر
    بدأ أبو سليم : يستجوب ابن أخيه :
    -
    إليك ورقة و قلما ، قبل كل شيء أكتب لي أسماء أصحابكالذين كانوا برفقتك .
    فكتبَ الأسماء ...
    -
    أيهم كان على علاقة بك؟
    -
    كلهم !
    قالها ببراءة ، فأجابهعمه و قد ازداد تجهمه :
    -
    كلهم يا كلب ، وتقولها بملء الفم ؟
    -
    أجل ، كلهم زملائي في الصف و أصحابي ؟
    -
    عزة ، لا تتلاعب معي أو تراوغ ( إن كنت العدل فأنارباطه ) ، اعترف لي بكل شيء ، إلى أين كنتم متوجهين ، و أين اعتدتم ممارسة رذائلكم .
    -
    عمّو ....
    أقسم لك أننا كنا نلعبو لا شيء غير اللعب .
    و عند رأس شارعالمدرسة كنا سنفترق كالعادة ...
    هنا ، نهض العم أبوسليم غاضبا ،
    توجه إلى أحد الأدراج
    أخرج منه صندوق من الورقالمقوى
    فتحالصندوق
    أخرج منه مسدسا
    ثم وجه كلامه إلى ابن أخيه مهددا :
    -
    أنظر إلى هذا المسدس ، إنه محشو بالكامل ، سأفرغرصاصاته في رأسك ، إن لم تعترف لي اعترافا كاملا .
    صاح عزة بعصبية :
    -
    أعترف بماذا ، قلت لك كما قلت لأبي من قبل ، أننا كنانلعب و نمزح و حسب و لا شيء بيننا غير اللعب و المزاح .
    إلا أن عمه عاجله برفسة أصابت يده التي لا زالت مصابة ،فصاح متألما ، ثم ما لبث أن فقد أعصابه و في أقصى حالات الهياج أخذ يشتم عمه و أباهو أبا أباه و كل ما يمت لعائلة فستق بنسب .
    تقدم أبو سليم نحوه ثانية و قد استبد به الغضب يريد توجيهضربه جديدة ، فهب عزة واقفا ثم مبتعدا عنه ثم أسرع نحو الطاولة ، و بلمح البصراختطف المسدس ، وجهه نحو عمه و أخذ يصيح بشكل هيستيري :
    -
    أنا من سيفرغ رصاصاته برأسك إن مسستني ثانية !
    ثم ازداد صراخه و هو يقول :
    *
    لا مزيد من الضرب ....
    *
    لا مزيد من الإذلال ....
    *
    لا مزيد من الظلم ....يا غجر .. يانَوًر....
    *
    لا مزيد من الضرب.... يا حثالة البشر ....
    *
    يا وحوش .يا.وحوش .يا .وحوش.
    و فجأة انقض عليه عمه محاولا انتزاع المسدسمنه
    و لكن رصاصة انطلقت خلال العراك فأصابت ساق العم
    و إذا بأبي سليم ملقىً على الأرض يتلوى و يتأوه و يستغيث .
    أصيب عزة بالذهول ، و العجز عن التصرف ، و لكنه أخذ يصرخبشكل هستيري :
    -
    دم ....دم ... دم ....دم...
    يزداد صياح العم، و يزداد نزفه ...
    و أبو العز ، يدور حوله ، و هو يهتف بصوت مبحوح ، و فيمزيج من الهلع و الفرح ، بين ضاحكٍ و باكٍ :
    -
    قتلت الوحش .. قتلت الوحش !
    سأقتل كل الوحوش ...
    سأقتل كل الوحوش .....
    سأقتلهم .. سأقتلهم ...
    ثم رفع المسدس عاليا ، و بدأ يطلق الرصاص في الهواء و هوبهزج :
    -
    الله الله يا مفرجالمصايب
    أضرب رصاص .. خلي رصاصك صايب .....

  6. #6
    القاص: أحمد السقال / المغرب
    6

    وطن وسجائر بالتقسيط


    أمي هي التي طلبت الطلاق منه، كانت حاله قد وصلت حدا يبعثعلى الاشمئزاز..
    كان أطفالالحي يزفونه يوميا إلى البيت حين يعود مساء، النشيد واحد والحجارة أعداد:
    وا النصراني سير بحالك،هاذ البلاد ماشي ديالك"
    واالسكايري بو رقعة ، غير احشم نهار الجمعة "
    لا أخفيكم ، من فرط طفولتي وفتور علاقته بي، كنت أنا أيضاأنضم إلى الكوكبة وأصيح بأعلى صوتي مرددانفس النشيد مع أصحابي في الدرب.
    كانت حاله قد ساءت أكثر لما بلغت الثامنة من عمري، صرتأسال نفسي هل يحق لي الصياح مع الأطفالضدا على أبي؟..حقيقة كنت لا أعرف له اسما غير بورقعة"، ولكنه أبي . لميدخلني المدرسة ولكنه أخرجنيإلى المدرسة الكبرى، واختفى دون أن يسال الأيام عني أو يطمئن على مردوديتي..
    أمي هي التي طلبتمنه الطلاق لكنه عوض التطليق، سفر نفسه. واليوم حين أضغط على زر تشغيل الذاكرة،تأتيني الأصوات والصور غيرواضحة، عربدة أبي وعهر أمي وبؤس إخوة لا أشاركهم صلب الأب ..أسال نفسي:
    من أنا ولا أجد جوابا أعتدبه حين يسألني الناس,,
    أبيعاد إلى وطنه وراء البحر، وأمي أراها أحيانا وبطنها منتفخة ولا أسأل عن الأب، وحينأراها خفيفة" لاأسأل عنالمولود، وحين لا أراها أسال نفسي مم تقتات وبم تعيل إخوتي" الصغار والذين يقسمالجيران إنهمليسوا من صلبأبي.
    الآن يعتقد زبنائيأنني بلغت الثامنة عشرة من عمري، ولذلك أفكر في جواز سفر، وقبلهفي اسم عائلي مزيفأحمله على الوثائق لأركب البحربحثا عن أبي، وأعيد الاسم العائلي المهجر، أعيد الهوية.
    علب سجائر ونستون" ومارلبورو" بين يدي تنبهني ألا وقت لغفوة…حيا اذن على الحياة
    ونستون مارلبورو
    ونستو ن مارلبورو..

  7. #7
    7
    رجل وامرأة..
    قصة قصيرة
    للقاصة
    بثينة الناصري
    من العراق


    بعد منتصف ليل المدينة، في وقت واحد ، كان يجوب الشوارع المثقلة بالضباب امرأة ما ورجل ما . كان كل منهما في طرف من المدينة ، وكانا غريبين.
    المرأة ..
    تحت مصباح كهربي شاحب ، وقفت تنفخ في كفيها الزرقين . تجعد وجهها ألما وهي تخرج احدى قدميها من الحذاء . تثني ركبتها ثم تستند على العمود وتفرك اصابعها الوارمة من المشي والبرد.
    كادت العباءة تسقط لكنها أحكمت لفها على جسمها ، واحست بألم مريح ينسل مع الدفء الى قدميها .
    رأت غرفتها الصغيرة والمدفأة النفطية تنفث حرارة ودخانا ، وفراشها يصر بثقلها وحدها ، وهي تقلب جسدها وتمطيه وتلف نفسها باللحاف . تدفن قدميها المتعبتين في طياته وتغرس انفها في المخدة تشم رائحة بيتها ، حتى تنام بعد يوم مضن .
    ولكن يومها لم ينته بعد ، ولن ترجع خاوية اليدين الى "وجه البوم" وكان هذا لقب "صاحب" بين بناته .
    " آويك وأطعمك وأحرسك وارشي الشرطة "
    مرة قالت نورية :" ماذا نفعل لو مات – لا سمح الله – صاحب او جرى له شيء ؟
    "دخيلك صاحب عف عني .. تعبانة"
    يقول وهو يصفق بابها فتنطفئ نار المدفأة :
    "مطلوبة يومين "
    ثلاثة.. أربعة .. منذ اسبوع وهي تكد لتفي ديونها ، ما دخل جيبها فلس أحمر .
    نقلت ثقل جسمها الى وركها الايسر ، وتنهدت . كان اليوم منحوسا .. دارت على قدميها حتى هلكت ، والناس لا تخرج في البرد . السكارى يشربون في الشتاء أكثر ، يطلعون من المايخانة طينة . فإن لم يرتموا في أول تاكسي ، غفوا على الرصيف.
    "عيني صاحب ، اصبر علي .. هذا آخر الشهر وأيام امتحانات والجنود اخذوهم .. لا اجازات .. والدنيا شتا "
    "غيرك يشتغل ولكنك تعلمت على الكسل"
    ظلمتني يا صاحب .. هذا كان بالزمان الاول .. ايام الشباب .. ترفة ومطلوبة ، اختار .. اتمنع .. هذا أي ، هذا لا .. لكن الان ؟ بعد ان ثخن الجلد وعز الطلب ؟ هل اضيع يوما واحدا ؟ حرام !!
    تعرف تماما ان عليها ان تقف هنا لا تبرح حتى يلقطها احد او تنبني مع العمود قطعة منه .
    لاح لها من بعيد ضوء سيارة اجرة ، فتحركت .
    **
    الرجل :
    استدار بالسيارة الى الشارع العام . كان قد قضى شطر من الليل واغلقت الدكاكين .
    لاحت له اضوية محطة البنزين فتمهل عندها كما يفعل كل ليلة قبل ان يسلم السيارة لصاحبها . اطفأ السيجارة واحكم لف الشال الصوفي حول رقبته وهبط وهو ينفخ في كفيه . دار حول السيارة وبادر عامل المحطة .
    - مرحبا مجيد .
    قال مجيد شيئا مكوما خلف اليشماغ الذي يخفي نصف وجهه وتناول الانبوب وهو يتجه نحو مؤخرة السيارة .
    - املأ الخزان ؟
    - لا .. ضع غالونين .. ماعندي فلوس .

    أولج مجيد الانبوب في فتحة الخزان وقال وعيناه على المؤشر :
    - كساد ؟
    - تف على هذي الشغلة .

    عد النقود وحرك السيارة . جولة اخيرة قبل الاوبة الى البيت .
    كان يومه منحوسا . وحاج عبد لن ينام الليل دون حصته ، تراه رابضا الان مثل الصقر . يقلب الورقة الزرقاء بين يديه ويرميها في جيبه ثم يسدد نظراته النارية :
    - كل السواق يشتغلون . لكن ماشفت مثلك .
    - عمي هذا الرزق !
    - اي رزق ؟ يعني ماأعرف الشغل بالشتاء احسن ؟ مطر والناس سكارى مايعدون فلوسهم .
    - طيب .. صدق بالله العظيم . اليوم ركب السيارة واحد سكران .. واطلع من هذا الشارع وخش بهذا الشارع. درنا كل بغداد .. ساعتين .. ها ؟ ساعتين ! وبعد كل التعب .. طلع مضيع عنوانه وفلوسه .
    الدنيا حظوظ ..
    هذا جبار الخائب طلع اليوم يلمع .. البنطلون .. السترة .. الشعر .. اعلن على السواق انه ماعاد يشتغل عند حاج عبد ، فقد خطب ابنته وصار شريكه .
    سبحان الله ! حين سمع منه ذلك شعر برغبة في ان يضحك كما اعتاد كلما اطلت " فاطمة" البكمة على سواق ابيها برأسها الاخرق الكبير وعينيها الحمراوين دائما وكأنها كفكفت لتوها عنهما الدمع ، وكان جبار اشدهم سخرية بها وتعرضا لها .
    سبحان مغير الاحوال ..
    صارت تحوته يطويها .. ومال ابيها !
    تصاعدت آهات المغني حتى انتفخت بها السيارة .
    الدنيا حظوظ !
    تراءت له (فوز) جميلة .. يبهت حسنها الرجال ، مكومة على الفراش في غرفتهما الصغيرة . يفتح الباب بعد منتصف الليل وينسل تحت اللحاف . فتدير وجها أذبله النعاس :
    - ها .. انت ؟
    فيدير لها ظهره .
    كانت ارض الشارع ترتمي تحت العجلات . تلمع لمعانا كابيا . لمحت عيناه شيئا . فقاد السيارة نحو عطفة شارع حيث تتحرك سوادة حسبها اول الامر قطعة من الليل .
    **
    المرأة والرجل ..
    انفصلت المرأة عن الظلمة . فتحت الباب الخلفي وتمهلت كثيرا عند الصعود . لملمت العباءة ومدت ساقا ثم انهدت بثقلها على المقعد . جرت الساق الاخرى وصفقت الباب بقوة .
    عدل السائق المرآة ودقق النظر فيها : واحدة منهن . وجه مصبوغ وطرق قميص نوم شفاف يلوح من ياقة معطف تخفيه العباءة .
    سألها : الى اين ؟
    قالت بصوت متعب :
    - لا ادري .. استمر .
    ولابت عيناها بين العتمة وعطفات الشارع .
    - على مهلك .
    هدأ سرعة السيارة وثبت المرآة على فخذيها . كانا منفرجين بألفة . توترا لحظة . كانت ترقب بعيني صقر ثلاثة شبان يضحكون بصوت عال . حملق احدهم في الوجه المطل من النافذة وانفجر ضاحكا فيما كان يشير اليها بحركة بذيئة .
    سمع السائق شتيمة .
    رفع صوت الراديو فقالت :
    - عندي صداع .. الله يخليك .
    وغنى المغني هامسا . تململ فخذاها وتشبثت بالحقيبة النائمة في حضنها . وفكر السائق " صداع من كثرة الشغل"
    - لا تسرع .. الله يخليك .
    ساورته رغبة ان يوقف السيارة ويمد يده تحت العباءة .
    نشف ريقه وشعر بوجهه يلتهب وصار من الصعب ان يصرف الافكار التي راودته .
    حرك وجهه نحو النافذة يعب من نسيم الليل ، وكانت المرأة تفكر يديها وتقول :
    - ماشفنا مثل هذا البرد من سنتين !
    اقتربت السيارة من المصابيح المزروعة في سماء ساحة الميدان . مقهى جانبي يلم مقاعده . اوقف السائق السيارة والتفت اليها . قالت بسرعة :
    - عد على الطريق نفسه .
    **
    كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة ، والشوارع تخلو من روادها . دار حول الساحة واتخذ طريقه من جديد.
    ثمة كناس عجوز ينكب على مكنسته يدفع بها اوراقا مكورة . سكران يتكيء على عمود يتقيأ .
    أحس الرجل ب التعب فجأة وبرغبة ان يفتح بابا وينسل تحت لحاف فوزية .
    قال بصوت عال :
    - السوق كاسدة .. ها ؟
    جاءه صوتها هازئا .
    - لا رزق اليوم .
    عدل المرآة على وجه مكتنز يكاد شحمه يغطي عينين صغيرتين . انف مكور وفم رقيق . امرأة تعدت سن الشباب ولم يبق من جمالها ربما غير هذا اللحم يغفو بعضه على بعض . واحتفظ بالمآة على وجهها .
    بحث عن علبة السجائر وكان قد اسقطها في مكان ما . اشعل سيجارة وقدمها لها .
    قالت :
    - لا ادري بوجه من صبحت اليوم ؟!
    وضحكا .. خطر له زائر عابس بات معها ليلته او وجه قوادة مسنة .
    ثم قال :
    - اكثرنا يصطبح بوجهه .
    صاحت :
    - لا .. وجهي خير .. الكل يشهد لي .. وحقك .. هذا ترقية وهذا يزوج ابنته وذاك يحبل امرأته ..
    ران صمت محير ثم هتفت فجأة :
    - بوجه كاظمية الخبازة الله يسترها .
    - مشؤومة ؟
    - اووه .. اعوذ بالله .. اليوم كانت تشكو من وجع في الخاصرة .. خائفة ان تطرح كما في ا لعام الماضي .
    قال ضاحكا :
    - ليس غير كاظمية اذن .
    صمتت واستغرقها الشارع مرة اخرى .
    أحس انه يعرفها .. ويعرف هذه اللوعة حين يأبى الرزق ان يأتي الى العتبة . ود في تلك اللحظة ان يربت على كتفها ويقول " اختي .. الله الرازق "
    لكنه كان يدرك جنون تلك الفكرة ، فأي رجل يقول لأمرأة من هذا النوع "يا أختي " ؟
    قال مواسيا نفسه :
    - آخر الشهر .. انتظري .. يومين ثلاثة .
    لم ترد .
    - كاظمية هذي أحسن من غيرها . أم بيتي مثلا لاتحمل ولا تطرح .. صار سنتين .
    - تزوج عليها .

    استحى ان يقول "احبها " فوز .. الضاحكة ، الاليفة ، زارت كل الائمة .. لبست كل الاحجبة وانتفخ بطنها لكثرة ماشربت من اعشاب .. صار سنتين .
    قال :
    - قسمة ونصيب
    - اي .
    اسرعت الى الوراء مصابيح الشارع ، تنير وجهه ، ينزلق الضياء عبر المقاعد ، يلمع على وجهها المدهون .. يبرق في المرآة
    - والشغل قسمة ونصيب .
    التفت اليها :
    - هذا حدي .. نرجع ؟
    **
    - نرجع ؟
    ركن السيارة جانبا وأشعل سيجارة ريثما تحظم أمرها .
    أطل رأس حارس ليلي .. تفحص داخل السيارة ثم رفع يده تحية للسائق وانصرف .
    - اوصلك الى البيت ؟
    تدير "فوز" وجها أليفا وتموء : تأخرت !
    سمع حركة خلفه . كانت العباءة قد سقطت عن كتفيها . قميص نوم أحمر بالكاد يلم ثديين ممتلئين . اشاحت بوجهها .
    - اوصلك الى البيت ؟
    **
    لم يشعر بالحرج مثل اليوم وكأنه عريس في ليلة دخلته ، وكانت هي تشيح عنه بحياء فقدته من زمن بعيد . ثم عالجت قفل الحقيبة وهي تقول مرتبكة :
    - كم تأمر ؟
    - - هه ؟
    - -اجرتك !
    قال وهو يحرك السيارة :
    - دعك منها .
    غمغمت محتجة وحاولت دس ورقة نقدية في يديه .
    قال :
    - دعيها .. ارزقك وترزقيني !
    ربتت على كتفه :
    - سترى وجهي خيرا عليك .
    لم يستطع كتمان ضحكة .
    قالت :
    - لاتصدق ؟ حين تحبل امرأتك ، تذكرني .. اقول لك اني مباركة !
    قال ساخرا :
    - ولية من الاولياء ؟
    - لا تكفر !
    **
    ساحة وقوف السيارات فارغة يتناثر في ارجائها الورق واعقاب السجائر . توقف بظل غرفة الحارس . كانت الغرفة مهجورة .
    اطفأ مصابيح السيارة ودلف الى الباب الخلفي ومد يده الى حزامه . كانت العباءة مكورة تحت رأسها والقميص الاحمر يكشف عن فخذين هائلين . اختفى حرجه تماما . لم يكن في وجهها المائل الى الخلف غير نفاد صبر وقرف كأية عاهرة اخرى .
    ثم استلبه الفخذان ، فما عاد يرى غيرهما ، ولما انطرح على فراش اللحم اكتشف صعوبة الوضع ذاك في المقعد الخلفي لسيارته الصغيرة ، ربما لضخامة المرأة وطول رجليه .
    تحركت المرأة بضيق فشتمها ، واضطر للانتهاء منها بسرعة ، وحينما سوى كل منهما ملابسه ، ترك الباب مفتوحا فجرت نفسها الى الخارج .
    أراد الصعود الى السيارة ، لكنها جذبت يده .
    التفت متسائلا .
    قالت :
    - كم اجرتك ؟
    -
    ضحك :
    - اخذت حقي . لا اطلب اكثر .
    بدا وجهها بليدا في قسوته وهي تقول :
    - كم اجرة الذهاب والاياب ؟
    هز كتفيه :
    - نصف دينار
    لعبت اصابعها تحت عينيه :
    - اعطني نصف دينار
    كان مايزال يضحك :
    - لماذا ؟ من يطلب الاخر ؟
    - اجرتي دينار !
    كانت تقف أمامه متنمرة تضع يديها على وركيها . قال والغضب يفور في صدره " يكفي نصف دينار .. امشي !"
    أمسكته من خناقه وهزته :
    - اعطني حقي .
    دفعها بقوة فارتطم ظهرها بباب السيارة . صاحت ألما وامسكت به مرة اخرى .
    - اقول لك اجرتي دينار . اعطني حقي او ألمّ عليك الناس.
    أزاحها من طريقه واتخذ مكانه خلف المقود صافقا الباب في وجهها . لكنها تشبثت بمقبض الباب ومدت رأسها عليه من النافذة فرفع الزجاج وضرب فكها . ابعدت رأسها بسرعة وهزت الباب . ضربته بقبضة يدها ، وحينما استدار بالسيارة نحو باب الخروج تراءى لها من خلف الزجاج " وجه البوم " حاولت ان تقف امام السيارة تلوح وتصرخ . ارتطم وركها بالسيارة المارقة فصرخت وهي تقع على الارض "الله ينتقم منك .. صاحب "
    ضحك وهو يبتعد ، لكن ضحكته جمدت .. تلاشت .. حتى صارت غصة .
    أراد ان يعود ، ينفض عنها التراب ويقول معتذرا "كان يومي منحوسا ايضا "
    التفت الى الخلف .. كانت ماتزال مكومة على الارض تلطم صدرها ..
    تردد برهة .. ظل يتلفت .. حال بينهما الليل .

  8. #8
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ
    7

    القاص: احمد العطار/ المغرب

    بداية و نهاية


    كان قد أعد منبه الساعة كعادته على السابعة، فجاء رنينه في الموعد ... بتكاسل ألقى بطانيته جانبا ... فرك عينيه وفسح لضوء النهار أن يتوغل فيهما رويدارويدا ... في الحمام غسل وجهه بماء بارد ...وبرد أسنانه بالفرشاة والمعجون ... للمعجون رائحة النعناع، فلا بأس إن ابتلع شيئا منه ... توجه الى المطبخ وضع بعضالماء كي يغلي لإعداد قهوته الصباحية... القهوة تبعث رائحة البن البرازيلي فيالأجواء.
    يشرب فنجانين من القهوةمع قطعة حلوى ساخنة ... يضيف اليهما كوب ماء.
    يلبس بذلته الجديدة، ويحرص على تلميع أزاررها بمنديله الوردي ... يسويربطة العنق ويحكم وضعها ... ينتعل جوربا أبيض اللون وحذاء إيطالي الصنع ... لا ينسىوضع عطره الباريسي المفضل ... يمشط شعره ويدهنه بكريم مرطب ...

    يقف أمام المرأة فيجد ذاتهالمزهوة تقابله ببراءة و أناقة ككل مرة.

    يضع أسطوانة لبيتهوفن ... يعدلها على السمفونية الخامسة ... تلك الأثيرةلديه خصوصا بعد قهوة الصباح .

    ثم ...
    يضع كرسيا علىالطاولة ... يعتليه ... يمد يده الى حبل أعلى السقف ... يحكم ربطه حول عنقه...
    و بضربة واحدة يفقد توازنه ... فتسمع طقطقة عنقه ... وتخرج أنفاسه بكل برودة.
    _______

  9. #9
    ـــ مختارات قصصية ـــــــــــ
    8
    القاص: إدريس إليزامي/ المغرب

    قدر..وردة..و...

    "إلى نورستي، زوجتي الكريمة طبعا".
    حاولت جاهدا أن أجد مقدمة للعمل أشدك بها لمتابعة هذاالهوس. لكنها استعصت عليَّ رغم أني بدَّلت الفضاء.
    كان أول الأمر مغلقا فصار حبا. كان الصمت وناب عنه الضجيج. كان الشاي الذهبي يثير فضول بله متعة النحل حولي؛ وها هي المرة تعوضه علّها تخز هذاالخامل في رأسي فيستنفر جحافله لتنقض على البياض...
    لقد شحذت القلم ولن أدعك تفلت من بين نواجد كلماتي.. فأناكما ترى قررت أن أسرد عليك تفاصيل قصة ظلت تسكنني فكرتها لفترة طويلة. في البدءصغتها في قالب شعري. لكن القصيدة لم تسعني للتعبير عما يجيش في دخيلتي ويعتمل فيها. عفوا، لا تعتبرني مقلا من أهمية الشعر والقصيد.. فهو والقصة صنوان إلى حد يصعبالتمييز فيما بينهما أحيانا.
    دعكمن هذا الآن وانظر إلى ذلك القدر.. معذرة. فأنى لك أن تراه وأنت اللحظة في مكان ما: بين كراسي مقهى أو حديقة؛ وربما في بيتك حتى... إذن سأحاول أن أجعلك تراه في الوهم. هذا القدر الخزفي اشتريته ديكورا للبيت لأني أعشق مثل هذه القطع الأمازيغية الصنع. لكن ربة البيت لا بد لها من أن تضفي لمساتها الأنثوية على كل شيء –في المنزل- فتخضعه طوعا وكرها ويصبح نابضا بالدفء.. وكان قدر القدر في ذلك الركن من صحن البيتشمالا على اليمين قرب مكتبة تنزف جنباتها كتبا ومخطوطات. – ولو قدر لها أن تتكلملاشتكت من الحمل الذي تنوء به رفوفها- أن يكون تحت رحمتها بدوره.
    فالقدر المسكين حولته اليدانالرخوتان إلى مزهرية رغم أنه.. وربما قد يصبح في عشية أو ضحى مرجلا، أو عاد إلىسيرته الأولى لإعداد المرق، فتتعدد استعمالاته دون سابق إنذار وكأنه حكيم طب عام أومعلم في فرعية بقرية مهملة منفية بين جبالنا الوعرة. شعرت أن هذه الحكاية ما أردتلها أن تكتمل، وأخاف أن يتسرب الملل إليك فتذبحني بسكين الإهمال أو الإعراض عنها.
    هذا القدر يحتل كما أسلفت، تلكالزاوية وباستطاعتك أن تراه من أي ناحية من البيت حين تدخل او تخرج وبما أن الصبيةترحل وتعود إلى البيت –لكن غيابها يطول- أودعت البذرة في القدر وأوكلت إليَّ والزمنرعايتها. لقد أحببتهما معا، نعم أحببتهما كثيرا.
    القدر أولا، فهو يذكرني بأيام الصِّبا، كان يغلي فوقالأثافي وينسم بأبخرته كل أرجاء البيوتات. وقد ينتشر في سماء الدشر ليحلب الأفواهويسيل لعابها. فإن كان ما فيه قتارا فضحك. ولا بد في هذه الحالة أن تغرف للجيرانمنه. وقد ينقلني إلى أحضان التاريخ الذهبي لسماع محاورة الفاروق والعجوز –بينمايتعالى غليان الماء في القدر والأحجار بله الحجيرات تتقاذف في وسطه– تستمر فيتوهيمها للأطفال.
    تتناسل العوالموالمرجع واحد: القدر.. البذرة التي تحولت نبتة وصارت تنمو وتنمو حين كنت أسقيها.. أصبحت جزءا من قلبي.. في خضرتها ربيع حياتي. فإن صحوت شملتها برعايتي وحين أمسيأغذقها بنظرتي. أنيس هي –لي- في وحدتي. كثيرا ما يخيل لي أنها تتأثر بوجودي وتستأنسبمناجاتي لها فتتحرك.
    لا أطيقمبارحتها من جدول اهتماماتي. وحتى إن عزمت على السفر فإني أحاول تضييق المدة حتى لاتتأثر هذه النبتة.
    وبحلول الربيع،حلت معه البهجة فشملت البيت أيضا بما فيه النبتة. وما من يوم يمر إلا وترعرعت،وانبثقت وريدة من أكمامها. تطل علي في حياء وخجل. كانت وريقاتها تنفرج رويدا، رويداتحييني بتحية صباحية تعقبها ابتسامة عبقة..
    تآلفنا. الوردة وأنا وتوثقت عرى المحبة فيما بيننا. فإن أعطيتها الحبوالحنان ولازمتها ضوعتني بشذاها وملأت علي أرجاء البيت عطرا وسحرا متجددين. ولماأنشغل عنها ببعض ما. ذوت فأناخت برأسها وكأنها غضبى مما يصدر مني فتجافيني.
    أسرارا وأسرارا أدركت خلالاحتكاكاتي بها، كأن اقترب منها وأمس لها، يهتز غصنها الناضر طربا. وحين أسمهاإيقاعا حسنا تتلذذ وتكاد تنسل من قدرها لتلتحق بي.
    خفت عليها من نفسها بله عليها مني فقررت آنذاك أن أسكنهابجواري حيث أعتكف لننعم بقربنا وألفتنا.
    كانت بيضاء –كما أسلفت- هذه العبقة. وكلما دنوت منها ولامستها، غرزت أنيابها اللذيذة في عروقي واحمرت وريقاتها. إناالآن أخوان تربطنا وشائج الدم ويضمخنا كأس الحب. فما أبهاك وردتي في شذاك ونضارتك! وما أقساك في أشواكك! ولكنك رؤوم مهما يكن.. فطوبى للقدر الذياحتواك..


  10. #10
    9
    العتمة
    قصة قصيرة
    القاص :حسن حميد
    من فلسطين
    أعترف بأنها عذّبتني كثيراً، وأنها تركتني لأحزاني البعيدة.. ومضت!!‏
    كانتقد جاءت إليّ في ظهيرة يوم أحد لأعطيها بعض الكتب، وتمشي، غير أنها جلست وأطالت جلوسها. كانت صامتة تنظرُ إليّ بتأمل واضح، وتستمع إلى حديثي بانشداه عجيب. تهزُّ رأسها، فيتراجف قلبي، وذؤاباتها تحوّم فوق جبينها كأنها رفُّ عصافير، وتبتسم لأرى حدود شفتيها الرقيقتين، وبياض أسنانها المتشابكة، ما أجملها!!.‏
    [كنت أسمع بها، ولا أعرفها، لكن خيط لهفتي لها امتدّ منذ ذلك المساء العتيق، حين التقيتها في معرض للرسم. رامقتها، وهي تقف قبالتي مباشرة، ونظرت إليَّ، لكأنما كنا على استعداد مشترك لتلبية نداء روح واحدة مقسومة نصفين. كانت نظرتها عميقة وبعيدة مثل غابة لا تخوم لها، ولأنني عجول في كلّ شيء، واريتُ نظري عنها بعدما أشعرتها بأنها بعثرتني، واقتربت. كان لابدّ لها من الاقتراب، فقد تلاقى بصرنا وهي تدلف من الباب واقفة على خطوتها الأولى. كنت مفتتح رؤيتها في ذلك المساء الذي غصب الكثيرين]‏
    حاولتُ، وقبل أن آتي إلى المعرض أن أمنع نفسي عن الحضور، لأنني لا أحبُّ معارض الرسم في ساعات افتتاحها؛ تلك الساعات التي تكون مرهقة ومربكة وبعيدة عن الفن؛ لكن صديقي الوهيبي، صاحب المعرض، ألحَّ عليَّ، قال: أودّ أن أراك قربي،فأنا أحسُّ بأن الثياب الجديدة والأمكنة الجميلة لا تخفي ارتباك السنين الماضية.تعال أرجوك!! فوافقته، وجئت. أحسست بأن تلامع عينيه، وهو يراني داخلاً، أمرٌ يخصني وحدي. كان يريدني أن أراه وقد أحاطت به الوجوه الجميلة، والزهور، والروائح الرائعة،ودنيا الألوان. وما أن سلمتُ عليه حتى بادرني قائلاً:‏
    * "أترى.. من كان يتوقع بأننا‏
    سنصير شيئاً مهمّاً"!!‏
    [كنت أعرفه بالتفصيل، وكان يعرفني تماماً. كنا طفلين في العاشرة نجوب شوارع دمشق في حالة من التشرد الجديرة بالبكاء الضاج. كنا نبحث عن قطع النحاس والألمنيوم وبقايا العظام وكسر الزجاج.. من أجل بيعها بفرنكات قليلة.‏
    أذكر بأننا تعاركنا ذات صباح على عدة عبوات صغيرة من الألوان. كانت يدي أول من أمسكها.حسبتها عبوات (بويا) من النوع القصير، وقد عملت من قبل ماسحاً للأحذية، وعرفها هو،قال:‏
    * "إنها ألوان للرسم. اتركها لي"!‏
    كانت أصابعي متشبثة بها جيداً، لكن قولته الراجية المدفوعة بنظرته المنكسرة، جعلتني أعطيها له عن طيب خاطر. كنتُ أعرف بأنه يرسم جيداً، فقد كان يرسم لي ولغالبية طلابصفنا. وكان الأستاذ حمودة يمتدحه كثيراً. يقول عنه شاطر، إذا لم تأخذه الفدائية سيصير رساماً كبيراً وهكذا كان فعلاً.‏
    [ يا الله، مات الأستاذ حمودة، ولم ير الوهيبي في مثل هذا المشهد الباذخ!].‏
    المهم، بعد تلك النظرة الطويلة، اقتربت سوزان! يا إلهي، طولها زينة،مثل حورة كلُّ شيء فيها مضموم إلى الأعلى. اقتربت، فتابعتها بنظراتي السائلة. جعلت من بصري سياجاً يحفُّ بها لتتقدم نحوي بالضبط. اقتربتْ، وواقفتني مواجهة. كنت أعرفها من مقالاتها في الجريدة. كانت مجنونة بالحقائق، والعمل الميداني، وكانت تعرفني من صوري المنشورة هنا وهناك، ومن الأحاديث التي تثار عن كتاباتي. وقبالتي،على خطوتها الأخيرة وقفت. مدّت يدها نحوي، فأخذت كفها في كفي، وهززتها بلطف شديد، ورامشت هي بأهدابها، لكأنها أمطرت في قلبي. ونسيتْ كفها في كفي، كفها الناعمة كمفرش العشب. وهمهمتْ، وهمهمتُ. ولم أفهم من كلامها سوى قولها، سأزورك قريباً. فرحّبتُ بها. لابدّ أن وجهي الفضّاح كشفني، فأدركت اندفاعي نحوها!! وأفلتتْ كفها، ومضت نحو الوهيبي مهنئة، وحين تركته لتتنقل أمام اللوحات، بدت لي هادئة حالمة مثل طيور الحمام!‏
    وعدت إلى البيت فرحاً. كنت ممتلئاً بها، فقد رافقني طيفها طوال ذلك المساء. ظلَّ معي أياماً عديدة. صرتُ أراه قبالتي، وإلى جواري، وفي مرآتي. كان معي في كل شيء. أحسست بأنها أغلقت عليَّ نهاراتي، بل إنها، راحت تعذبني في الليل أيضاً، فهاتفتها مرات عديدة، ولم أجدها. أخبرت زملاءها في الجريدة ورجوتهم أن تتصل بي لأمر هام جداً،ودون نتيجة. حاولت أن أنساها، وأن أقنع نفسي بأن ما حدث ليس سوى لحظات عابرة، وأن حديثها كان للمجاملة وحسب. لكنني ما استطعت. كانت معي، داخل روحي؛ امرأة تأتي بعد ألف عام من الغياب، فتوقظني على وحدتي المرعبة، والسنوات التي تكرُّ بلا حساب،ومضيت إليها. سألت عنها في الجريدة، فقالوا لي: هي تكتب للجريدة، وليست موظفة فيها،ترسل مقالاتها وتحقيقاتها بالبريد فتنشر، وهم لا يعرفونها أصلاً، وحرت بأمري.وندمت، لأنني لم آخذ رقم هاتفها، أو عنوان سكنها، وما كان لي سوى أن أنتظرها، لعلها تأتي!!‏
    وجاءتني فعلاً في ظهيرة يوم أحد لتأخذ بعض كتبي، قالت لي إنها مقصرة في قراءة كتبي بعدما تكاثر الحديث عني مدحاً وقدحاً. تمنيت، وهي لا تزال واقفة أمامي، لو كان بمقدوري أن آخذها إلى صدري في مرجحة لا تنتهي. أتت غفلة، دون أن تخبرني، بعدما يئست من حضورها، وقد حسبتها خيالاً ليس إلا!!‏
    [لو أخبرتني، لتقيفت لها بأحسن ما لديَّ من ثياب، ولنقعت كفي في الماء الساخن، ودلكتهما بالكريم بحثاً عن طراوة مضاعفة، ولرفعت زغب خديَّ، وشربت برميلاً من القهوة لأبني لها صحواً خاصاً بها. لا أدري لماذا علقت حياتي عليها، وأنا النفور الملول]!‏
    حين جلستْ، حاولتُ أن ألغي كل شيء، رنين الهاتف، ومقابلة المراجعين، وتسجيل المواعيد.لكنها رفضت. قالت لي:‏
    * "أريد أن أراك وأنت تعمل..‏
    أرجوك" !!‏
    فعلاً، كانت محقة، فالهواتف المتقطعة، ودخول المراجعين وتسجيلا لملاحظات، كل هذا منح اللقاء لطفاً وحلاوة. كنت فرحاً بها، أتأملها، وكانت تكتشفني على مهل بكل حواسها وصارحتني بأن هذا اللقاء تأخر خمس سنوات فقط، فقد عزمت أن تتعرف إليَّ منذ قرأت مقالة مكتوبة عني، كان صاحبها يشتمني. آنذاك انزعجت جداً لأنها أحستْ بأنني مظلوم؛ وفتحت حقيبتها، وأخرجت جريدة قديمة، ونثرتها أمامي، فرأيتُ المقالة تلك، وتعليقاتها المكتوبة بالحبر الأخضر؛ كانت تدافع عني بكلماتها الصريحة الحادة دون أن تعرفني؛ فأحسست بأنها تضع اللمسة الأخيرة على امتلاكي؛ ودونما وعي مني، وصفحة الجريدة بين يديَّ ويديها، ونظري ونظرها متوحدان فوق السطور والحروف..أخذت كفيّ بين كفيها وضمّتهما إلى صدرها، وضغطت عليهما، فتلامعت عيناها لكأنهما تدمعان، وسرت في وجنتيها حمرة شفيفة كحمرة الرمان. وشعرت بها تدنو مني أكثر، لربم ازاغ بصري، فأنفاسها الحارقة تتلاهث قرب أنفي تماماً. وهمهمتْ وهي تنهض:‏
    * "نلتقي في المساء"!!‏
    ومشت،وهي تترك وراءها نثاراً من الضوء المُذاب، دون أن تلتفت أو تستدير! وعدتُ إلى عملي مدهوشاً، فقد أوقدتني المخلوقة، ومضت!!‏
    [والتقيتها مساءً. كانت مثل طائر يهفو إلى عشه، وكنت كالطائش الحيران. حسبتها ستأخذني إلى مكان ما، أو أن تترك لي الخيار، لكنها لم تقترح شيئاً،فقط، حاذتني مخاصرة، وراحت تقصُّ عليَّ أخبارها المحزنة، فواسيتها. عرفت بأنها وحيدة مثلي تماماً، وأن الأحلام بعدت، والرغائب ولت، ولم يبق لها سوى نافذة صغيرة على قدها، ترى الدنيا الكبيرة منها، وتغصّ.‏
    مشينا في شوارع عديدة، واسعة وضيقة، والحديث يلفّنا، كنا كلما تعبنا، مررنا بحديقة،واسترحنا فيها. كان القمر كبيراً وقريباً جداً، جعل السماء صحناً واسعاً من الفضة المشتهاة. وامتد الليل، ونحن نمضي من شارع إلى شارع، ومن مكان إلى آخر. وأشرقت الشمس دون أن نعبأ بها، ثم غابت. وعاد القمر فآنسنا قليلاً ثم غاب. كانت تحكي لي وأحكي لها، دون أن نرى أحداً من الناس في الشوارع، والحدائق، والأمكنة الأخرى، شعرت بأنني غني بها عن كل شيء. لا أريد أحداً غيرها، ولا أشتهي شيئاً بوجودها ، لكأنني عشت هذا العمر الطويل منتظراً قدومها. وصارحتني بأنها ومذ رأتني تتعذب، لكأنها كانت تبني عشاً لي في صدرها. وما أن انتهى حتى التقينا. وأن غيابها الطويل لم يكن سوى امتحان لها. أشعرتني بأنني أعرفها منذ أمد بعيد، لذلك اقترحتُ عليها أن نمضي إلى البيت، بيتي أو بيتها، لا فرق، فرفضت بشدة، ومشينا مرة أخرى. مررنا بطيور، وأزهار،وحيوانات، ومحطات لقطارات مهجورة. وحين هدّنا الجولان، جلسنا على الرصيف البارد.وما أن شرعنا بالحديث، حتى أحسسنا بأن الرصيف راح يتحرك تحتنا، وقبل أن نفعل شيئاً،سَحَبنا الرصيفُ كبساط متحرك شديد الانزلاق نحو منخفض فسيح. فتشبث أحدنا بالآخر وانشدَّ إليه، لكن السرعة الشديدة طوّحتنا. فمضت سوزان في اتجاه، وأنا في اتجاه آخر؛ كان المنخفض كهفاً واسعاً، بارداً ومعتماً جداً. ناديتها بملء الصوت، فما استجابت إليَّ. ناديت مرات ومرات ودون جدوى. وطفقت أبحث عنها في كل الأرجاء،فصادفتني دروب، وأشواك، ومنحدرات، وجرذان، ولم أجدها. لابدّ أنها كانت تناديني أيضاً فلا أسمعها، وتبحث عني فلا تجدني، وظللتُ ألوَب وأبحث عنها، ولم أعثر عليها!!‏
    فجأة رأيت، وسط العتمة المديدة، فانوساً يدنو مني. وقبل أن يقترب أكثر. جفَّ حلقي،ولفتني الحيرة، وضجَّ قلبي، وثبتت عيناي، كان وقع خطا حامله يتعالى في صخب وضجيج كالخيل في ساعة الغضب. واقترب أكثر. صار بمحاذاتي تماماً. فرأيته معلقاً بيد رجل ضخم، بطنه كبيرة، على رأسه قبعة من القش ، وعلى صدره ألوان زاهية، حذاؤه ثخين ومدبب، وحزامه الجلدي رفيع جداً ينتهي بحبات خرز لامعة. وإلى جواره سوزان، ذابلة الوجه، شاحبة. ترامقني من خلف كتفه بأسى!! ولم يتوقفا. تقاويت على نفسي وصرخت بالرجل، وناديت سوزان فلم يحفلا بي. تقدمت من الرجل وتشبثت به لكنه عبرني وكأنني أتشبث بالهواء. ناديت وصرخت، وبكيت.. ودونما رجاء أو أمل. ركضت وراءهما فخانتني رجْلاي، ولم ألحق بهما. ولا أدري من أين خرج إليَّ نمل كثيف لا يُعد، وراح يحيط بي..لكأنني استنفره عليَّ كلما ناديت سوزان، أو صرخت بالرجل. وواصلت ركضي وراءهما،والنمل يطردني، وقد تسلق جسدي، وراح يمتصني، فأصابني بحالة من الخدر اللذيذ،ورويداً رويداً خارت قواي، وغاب صوتي، وانطفأت رؤيتي، فوقعتُ على وجهي فوق صخرة كبيرة مسننة حادة. فسال دمي، وشهقت جروحي، وعلى الرغم من ذلك، ظللتُ أفرُّ من النمل، وأزحف باتجاه الرجل الضخم وسوزان الباكية في عتمة لا أول لها ولا آخر..

صفحة 1 من 4 123 ... الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. مستقبل الترجمة في الوطن العربي
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى foreign languages.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-10-2015, 10:23 AM
  2. شعر الأطفال في الوطن العربي
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى دراسات في أدب الأطفال
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 08-22-2014, 04:43 AM
  3. وراثة الحكم فى الوطن العربى
    بواسطة رضا البطاوى في المنتدى فرسان المواضيع الساخنة.
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-11-2011, 08:02 AM
  4. المجلات التاريخية في الوطن العربي
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان المقالة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 01-14-2008, 07:42 PM
  5. ثقافة النكد في الوطن العربي
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى استراحة الفرسان
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 06-20-2007, 07:47 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •